کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 61
الكفر و الشرك و الطغيان و غيرها كذلك. قال سبحانه: وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ «1» أي لكلّ من أهل السعادة و الشقاوة.
و ثانيا: أنّ الصراط المستقيم كما أنّه المهيمن على جميع الطرق، كذلك أصحابه الذين مكّنهم اللّه فيه أن جعل اللّه لهم الولاية يتولّون أمر التربية، كما قال سبحانه: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ، «2» و الآية نازلة في أمير المؤمنين علي- عليه السلام- بالأخبار المتواترة، «3» و هو- عليه السلام- أوّل فاتح لهذا الباب من الامّة.
و ثالثا: أنّ الهداية إلى الصراط يتعيّن معناها بحسب تعيّن معناه.
توضيح ذلك: أنّ الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح «4» و ذكر أنّ تعديتها لمفعولين لغة أهل الحجاز، و غيرهم يعدّونه إلى المفعول الثاني ب (إلى)، و هو الظاهر.
و ما قيل: إنّ الهداية إذا تعدّت إلى المفعول الثاني بنفسها فهي بمعنى الإيصال إلى المطلوب، و إذا تعدّت ب (إلى) فبمعنى إراءة الطريق، مستدلّا بقوله تعالى:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، «5» حيث إنّ هدايته- صلّى اللّه عليه و آله- بمعنى إراءة الطريق ثابتة، فالمنفي عنه هو الإيصال إلى المطلوب.
فيه: أنّ الآية مسوقة سوق نفي الحقيقة و الاستقلال و إثبات الإذن و العرض،
(1). الأحقاف (46): 19.
(2). المائدة (5): 55.
(3). الكافي 1: 288، الحديث: 3؛ و 427، الحديث: 77؛ الاحتجاج 1: 59 و 139؛ الإرشاد 2:
5؛ كتاب الأربعين، للماحوزي: 91؛ شواهد التنزيل، للحاكم الحسكاني 1: 161- 184، الحديث: 216- 241؛ تاريخ دمشق 2: 409، الحديث: 908- 909؛ الكشّاف 1: 649، و غيرها.
(4). الصحاح 6: 2533.
(5). القصص (28): 56.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 62
كقوله سبحانه: ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ، «1» و قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ، «2» و قوله: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، «3» و قوله: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى، «4» إي إنّ الشفاعة و الولاية ملك للّه حقيقة إلّا أن يملّكها من يشاء، و قد قال تعالى حكاية عن بعض عباده: يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ، «5» فلا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية. و من الممكن أن يكون التعدية إلى الثاني من قبيل قولهم: دخلت الدار.
و بالجملة، فالهداية هي الدلالة و إراءة الغاية بإراءة الطريق، و هي نحو إيصال إلى المطلوب، و إنّما تكون من اللّه سبحانه، و سنّته سنّة الأسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب، و يتحقّق به الوصل بين العبد و بين المطلوب، و قد بيّنه سبحانه بقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، «6» و قوله سبحانه:
ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ، «7» و تعدية تَلِينُ* ب إِلى و هو يتعدّى باللام لتضمين معنى مثل الميل و الاطمئنان، فهو إيجاده سبحانه وصفا في القلب به يقبل ذكر اللّه و يميل و يطمئنّ إليه، و كما أنّ سبله سبحانه مختلفة فكذلك الهداية تختلف باختلاف الطريق الذي تضاف إليه، فلكلّ سبيل هداية قبله تختصّ به، يشير إلى ذلك قوله سبحانه:
(1). السجدة (32): 4.
(2). المائدة (5): 55.
(3). يونس (10): 3.
(4). الأنفال (8): 17.
(5). غافر (40): 38.
(6). الأنعام (6): 125.
(7). الزمر (39): 23.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 63
وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. «1» ففرق بين أن يجاهد العبد في اللّه تعالى و بين أن يجاهد في سبيل اللّه تعالى، فالثاني يريد سلامة السبيل و دفع العائق عنه، و الأوّل إنّما يريد وجه اللّه تعالى و لا يوقف نظره على سبيل دون سبيل، بل يريده سبحانه بذلك فيمدّه اللّه سبحانه بالهداية إلى سبيل بعد سبيل حتّى يختصّه به جلّت عظمته.
إذا تمهّد جميع ما مرّ على طوله تبيّن معنى قوله سبحانه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ ...، و أنّه أمر وراء معنى العبادة غير أنّه بمنزلة روحه، و هو الوجه في تغيير السياق من الإخبار في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ إلى الإنشاء بقوله: اهْدِنَا، و من الوصل إلى الفصل، و تبيّن أيضا معنى الروايات الواردة فيهما.
فمنها: ما في المعاني في معنى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ عن الصادق- عليه السلام-: يعني أرشدنا إلى لزوم «2» الطريق المؤدّي إلى محبّتك و المبلّغ إلى جنّتك «3» و المانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب أو أن «4» نأخذ بآرائنا فنهلك. «5»
و منها: ما فيه أيضا عن عليّ- عليه السلام-: يعني أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به «6» في ماضي أيّامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا. «7»
(1). العنكبوت (29): 69.
(2). في المصدر: «للزوم»
(3). في المصدر: «دينك»
(4). في المصدر: «أن»
(5). معاني الأخبار: 33، الحديث: 4.
(6). في المصدر:- «به»
(7). معاني الأخبار: 33، الحديث: 4.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 64
أقول: معنى الروايتين واضح ممّا مرّ، و كأنّ الاولى أدقّ تفسيرا من الثانية، و الثانية تفسّر الصراط بصراط العبادة، و لذلك فسّر الهداية بإدامة التوفيق لكونها حاصلة بالفعل، و هو من الصراط المستقيم كما مرّ.
و منها: ما عنه أيضا عن عليّ- عليه السلام-: الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ في الدنيا ما قصر عن الغلوّ و ارتفع عن التقصير و استقام ... و في الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنّة. «1»
أقول: معناه ظاهر، و قوله: «و في الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنّة» مبنيّ على ما سيجيء من أنّ الآخرة مطابقة للاولى.
و منها: ما في الفقيه عن الصادق- عليه السلام- قال: الصراط المستقيم أمير المؤمنين- عليه السلام-، «2» و رواه العيّاشي أيضا. «3»
و منها: ما في المعاني عن الصادق- عليه السلام- قال: هي «4» الطريق إلى معرفة اللّه، و هما صراطان: صراط في الدنيا، و صراط في الآخرة، فأمّا الصراط [الذي] في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا و اقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه [عن الصراط] في الآخرة فتردّى في نار جهنّم. «5»
و منها: ما فيه أيضا عن السجّاد- عليه السلام- قال: ليس بين اللّه و بين حجّته حجاب، و لا للّه دون حجّته ستر، نحن أبواب اللّه، و نحن الصراط المستقيم،
(1). معاني الأخبار: 33، الحديث: 4.
(2). معاني الأخبار: 32، الحديث: 3.
(3). تفسير العيّاشي 1: 24، الحديث: 25.
(4). في المصدر: «هو».
(5). معاني الأخبار: 32، الحديث: 1.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 65
و نحن عيبة علمه، و نحن تراجمة وحيه، و نحن أركان توحيده، و نحن موضع سرّه. «1»
أقول: و أنت بعد التأمّل فيما ذيّلنا به قوله سبحانه: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، «2» تعرف معنى هذه الروايات الثلاث المفسّرة للصراط المستقيم بالإمام أو بخصوص عليّ- عليه السلام-، و لا تحتاج أن تحمل أمثال هذه المعارف الغالية التي حواها كلامه سبحانه على المجاز و الكناية و نحوهما من تفنّنات البيان، فقد مرّ أنّ هذه المعاني ذوات مراتب بحسب التحقّق، فللكفر مراتب و للإيمان مراتب، و أمّا نفس المعنى فصدقه على الجميع واحد، و إنّما الاختلاف بحسب خصوصيّات المصاديق كما ذكره المحقّقون فقالوا: إنّ الألفاظ في تعيّنها بإزاء المعاني غير مقيّدة بما احتفّت به المصاديق من القيود، و إنّما هي من خصوصيّات المصاديق، فالميزان- مثلا- اسم لما يوزن به الشيء و الوزن يختلف باختلاف الموزون، فذات الكفّتين- مثلا- لوزن الأثقال، و الذرع لوزن الأطوال، و المكيال لوزن الحجم، و المسطرة لوزن السطر، و كذا العروض لوزن الشعر، و المنطق لوزن التصوّر و التصديق إلى غير ذلك.
و يدلّ على ذلك أنّا نرى عرف اللغة إذا وجد آلة جديدة تفي بغرض القديمة سمّاها باسمها من غير توقّف و اعتبار علاقة و نحوها.
و أمّا أنّ هناك رجلا حاول وضع اللغة العربيّة أو غيرها ثمّ زوّج المعاني الموجودة عنده و في عصره من ألفاظ اخترعها و اقترحها بوضع شخصي، ثمّ الحقيقة و المجاز و التراكيب لوضع نوعي و حكم بأنّ ما وراء ذلك غلط، فدون إثباته نقلا أو عقلا خرط القتاد، و إنّما هي تطوّرات و تحوّلات في الألفاظ
(1). معاني الأخبار: 35، الحديث: 5.
(2). الرعد (13): 17.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 66
و المعاني جبّل عليها الإنسان في حياته المدنيّة على ما قرّر في محلّه.
و بالجملة، فالسير على صراط العبادة- مثلا- سير بالحقيقة في صراط بالحقيقة و إن خالف قطع الإنسان بأقدامه الصراط من أديم الأرض، و السير في صراط المعرفة كذلك، و كلّ منهما سير أيضا في إنسان ليس عنده غيره من أصحاب الصراط.
و قد عرفت أنّ المفهوم من كلامه سبحانه هو ذلك، فافهم ذلك.
و منها: ما في المعاني في معنى صِراطَ الَّذِينَ، عن عليّ- عليه السلام-:
أي قولوا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك و طاعتك، و هم الذين قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «1» . «2»
و منها: ما رواه الصدوق عن الصادق- عليه السلام- قال: قول اللّه في الحمد:
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، يعني محمّدا و ذرّيّته. «3»
أقول: و هو من الجري، و يمكن أن يكون النظر إلى كون صراطهم أكمل الصرط، فهو من التفسير.
و منها: ما في المعاني عن النبيّ- صلّى اللّه عليه و آله- قال: شيعة عليّ الذين أنعمت عليهم بولاية عليّ بن أبي طالب- عليه السلام- لم يغضب عليهم و لم يضلّوا. «4»
(1). النساء (4): 69.
(2). معاني الأخبار: 36، الحديث: 9.
(3). معاني الأخبار: 36، الحديث: 7.
(4). معاني الأخبار: 36، الحديث: 8.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 67
أقول: و كأنّه مستفاد من قوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ، «1» و قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ، «2» فإنّ في الآية الاولى حكاية قضيّة المعيّة، و في الثانية وعد الإلحاق، فافهم.
و يناسبه ما رواه ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع بن الجرّاح عن [سفيان] الثوري عن السدّي عن أسباط و مجاهد عن ابن عبّاس في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، قال: قولوا معاشر العباد: أرشدنا إلى حبّ محمّد و أهل بيته. «3»
أقول: و كأنّه استفاده من قوله سبحانه: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى، «4» و قوله تعالى: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا. «5»
و منها: ما في المعاني في قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ، عن عليّ- عليه السلام-: إنّ المغضوب عليهم هم اليهود الذين قال اللّه فيهم: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ، «6» و الضالّين هم النصارى الذين قال اللّه فيهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً «7» . «8»
(1). النساء (4): 69.
(2). الحديد (57): 19.
(3). المناقب 3: 73.
(4). الشورى (42): 23.
(5). الفرقان (25): 57.
(6). المائدة (5): 60.
(7). المائدة (5): 77.
(8). لم نجده في معاني الأخبار، و لكن روي نحوه في تفسير الإمام: 50؛ و تأويل الآيات: