کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 194
أقول: قوله في الحديث: «هي الكلمات التي تلقّاها آدم ...» إلى آخره، قد مرّ من البيان في قوله سبحانه: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ...، «1» ما يتّضح به هذا الكلام، فالكلمات التي ابتلي بها إبراهيم- عليه السلام- إن كانت صفات طاهرة و أخلاقا فاضلة، فإنّما وجود هذه الكلمات من كلمات تامّة اخرى في خزائن الغيب عند اللّه هي المبتلى بها حقيقة، و إن كانت نفس تلك الكلمات فهي ذلك أيضا.
غير أنّ التقدير الأوّل أوفق برواية العيّاشي، فيعود المعنى إلى أنّه عليه السلام ابتلي بصفات فاضلة إلهيّة، فأتمّهنّ بمفاتيح تلك الصفات من الغيب.
و التقدير الثاني أوفق برواية الصدوق، فيعود المعنى إلى أنّه عليه السلام ابتلى ببعض مفاتيح الغيب فأتمّه ببعض آخر، و الوجهان- مع ذلك- مآلهما واحد، على ما يعطيه التأمّل التامّ.
و قوله: «قلت: فأخبرني عن قول اللّه: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ «2» » الآية في حقّ إبراهيم- عليه السلام-، و ما قبلها: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ* وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «3» الآيات؛ و الضمير في قوله: وَ جَعَلَها راجع إلى الهداية التي يتضمنها قوله: سَيَهْدِينِ دون البراءة التي يتضمّنها قوله: إِنَّنِي بَراءٌ و يشهد به قوله: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ على ما سيأتي من البيان، و قوله: سَيَهْدِينِ سياقه مشعر بأنّ هذه الهداية غير ما يشتمل عليه قوله: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلَّا
(1). البقرة (2): 31.
(2). الزخرف (43): 28.
(3). الزخرف (43): 26- 28.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 195
الَّذِي فَطَرَنِي و هذا اهتداء ذاتيّ غير متعلّق بهاد غير اللّه سبحانه.
و قد عرفت سابقا من قوله: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى، «1» أنّ المقابلة فيها تعطي: أنّ غير الهادي إلى الحقّ غير مهتد بنفسه، بل مهديّ بغيره، فمن لم يكن مهديّا بالغير- بل مهتديا بالذات- فهو هاد إلى الحقّ، فهذه الهداية هي التي نسمّيها بالإمامة، و هي الهداية بأمر اللّه، و هي التي يشرّف بها عدّة من أنبيائه، إذ يقول سبحانه و تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ* وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «2» الآيات، فسياقها- كما ترى- يعطي أنّ هذه الهداية معنى ليس من شأنه أن يتغيّر و يتخلّف، و أنّ هذه الهداية بعد رسول اللّه لن ترتفع عن أمّته، بل عن ذرّيّة إبراهيم منهم خاصّة، كما قال:
وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ. «3»
فإن قلت: قد ذكر سبحانه فيهم موسى و هارون، و هما أهل عصر واحد، و لا معنى لإمامين مقتديين في عصر واحد، و كذلك زكريّا و يحيى و عيسى، و كذلك
(1). يونس (10): 35.
(2). الأنعام (6): 84- 90.
(3). الزخرف (43): 28.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 196
داود و سليمان، و قد مرّ أنّ العصر الواحد لا يكون فيه إلّا إمام واحد.
قلت: إنّما يلغو ذلك إذا كانت الجهة واحدة، و أمّا مع اختلافها- كأن يكون كلّ من الإمامين إماما لامّة على حدة، أو يكون هنالك جهتان يسوق كلّ منهما إلى جهة خاصّة- فلا محذور، كما يستفاد من دعاء موسى، على ما يحكيه تعالى إذ يقول: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي «1» و يقول: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ* وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ «2» و الكلام في غيرهما قريب ممّا فيهما.
فإن قلت: لو كان كما ذكرت كان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- مقتديا بمن سبقه من الأئمّة، و هم أئمّته؛ إذ يقول تعالى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ. «3»
قلت: إنّه تعالى لم يقل: فبهم اقتده، و إنّما قال: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ و قد قال قبله: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ. «4»
فإن قلت: هب، أنّ الهداية الذاتيّة ثبتت بهذه الآيات، لكنّ الإمامة- على ما مرّت- هي حقيقة الهداية، و سوق الناس بحسب الحقيقة إلى اللّه سبحانه، دون الهداية الظاهريّة فقط، فكيف يمكن إثباتها؟
قلت: الاهتداء الذاتي الظاهري لو تمّ بغير الحقيقة- بالمعنى الذي عرفت- كان المتّصف به مسوقا بسوق غيره، فكان مقتديا بحسب الحقيقة، فلا ينفعه اهتداؤه الذاتي، فهو خلف، و قد مرّ ما ينفع في هذا المقام في قوله: اهْدِنَا
(1). طه (20): 29- 32.
(2). الشعراء (26): 12- 13.
(3). الأنعام (6): 90.
(4). الأنعام (6): 90.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 197
فإن قلت: الهداية من اللّه، و قد أثبت و قرّر في كلامه، هدايته لجميع المهتدين؛ أعمّ ممّا سمّيته هداية بالذات أو بالغير، فمجرّد نسبة هدايته لجمع من عباده- كعدّة من الأنبياء كما في الآيات المزبورة- لا يستلزم ثبوت الإمامة.
قلت: نعم، و لكنّه سبحانه- مع ذلك- نسب هداية بعض ممّن هداه إلى بعض آخر من عباده، كقوله: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا «2» و قوله: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «3» و هناك بعض آخر لم ينسب هدايتهم إلّا إلى نفسه سبحانه، كبعض الأنبياء- عليهم السلام-، فعلمنا بذلك أنّ بين الهدايتين فرقا، و كذا بين الطائفتين من المهتدين، على أنّه تعالى أضاف إلى ذلك أوصافا أوجبت تميّز الهدايتين، مثل عدم التغيّر و التخلّف و العصمة و غير ذلك، كما يعطيه سياق الآيات، و فيها قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ «4» فإنّ ظاهرها أنّ هدايتهم نوع خاصّ من الهداية لا ترتفع عن موردها، و هو تعالى حافظها أن تزول عمّا بين الناس، كما يشير إليه قوله: فَقَدْ وَكَّلْنا.
و لنرجع إلى بدء الكلام: فقوله تعالى: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ «5» يدلّ على بقاء الإمامة- التي هي الهداية- في عقب إبراهيم- عليه السلام-، فقوله عليه السلام في الرواية: «يعني بذلك الإمامة جعلها في عقب الحسين إلى يوم
(1). الفاتحة (1): 6.
(2). الأنبياء (21): 73.
(3). الشورى (42): 52.
(4). الأنعام (6): 89.
(5). الزخرف (43): 28.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 198
القيامة» «1» معناه: أنّه تعالى يعني بالكلمة هذه الإمامة التي جعلها في عقب الحسين- عليه السلام-، و ليس المراد به إرجاع ضمير «في عقبه» إلى الحسين- عليه السلام- من غير سبق كلاميّ أو مقاميّ، هذا.
و في الكافي عن الصادق- عليه السلام-: إنّ اللّه- عزّ و جلّ- اتّخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيا، و إنّ اللّه اتّخذه نبيّا قبل أن يتّخذه رسولا، و إنّ اللّه اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه «2» خليلا، و إنّ اللّه اتّخذه خليلا قبل أن يتّخذه إماما، فلمّا جمع له الأشياء قال: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً، قال: فمن عظمها في عين إبراهيم- عليه السلام-: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قال: لا يكون السفيه إمام التقيّ». «3»
أقول: و روى هذا المعنى بطريق آخر عنه- عليه السلام- أيضا «4» و بطريق آخر عن الباقر «5» - عليه السلام- و رواه المفيد أيضا عن الصادق «6» - عليه السلام-.
قوله: «إنّ اللّه اتّخذه عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا»، يستفاد ذلك من قوله تعالى في سورة الأنبياء: وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ- إلى قوله:- مِنَ الشَّاهِدِينَ «7» و هو اتّخاذ للعبوديّة.
و قوله: «اتّخذه نبيّا قبل أن يتّخذه رسولا» يستفاد ذلك من قوله في سورة
(1). معاني الأخبار: 126- 127، الحديث: 1.
(2). في المصدر: «أن يجعله»
(3). الكافي 1: 176، الحديث: 2.
(4). الكافي 1: 175- 176، الحديث: 1.
(5). الكافي 1: 176، الحديث: 4.
(6). الاختصاص: 22.
(7). الأنبياء (21): 56.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 199
طه: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً «1» و هو أوّل أمر إبراهيم لموضع قوله:
و قوله- عليه السلام-: «اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه خليلا»، يستفاد ذلك من آيات كثيرة، غير أن الرسالة لمّا كانت أخصّ من النبوّة- على ما سيجيء- كان إثبات نبوّته فقط- كما في الآيات السابقة- هو المحتاج إليه بعد ظهور رسالته في كثير من موارد الآيات، كما لا يخفى.
و قوله- عليه السلام-: «اتّخذه خليلا قبل أن يتّخذه إماما»، يستفاد ذلك من قوله سبحانه: وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، «2» حيث إنّ الظاهر أنّ اتّخاذه ايّاه خليلا بعد ما صار ذا ملّة حنيفيّة و بسببها، و إنّما صار كذلك بعد ما كان رسولا إذ المقام مقام بيان شرف هذه الملّة الحنيفيّة التي تشرّف بسببها إبراهيم- عليه السلام- بالخلّة.
و قد وصف هذه الملّة بالحنف، و هو ميل في القدم، لميلها عن الشرك إلى التوحيد على ما يعطيه قصص إبراهيم- عليه السلام- و سيجيء بيانه إن شاء اللّه تعالى.
و الخليل من الخلّة؛ و هو: الفقر و الحاجة، و به سمّي الخليل- و هو الصديق- خليلا، و أحد المتحابّين يسمّى صديقا إذا صدق في معاشرته و مؤانسته، ثمّ يصير خليلا لقصره حوائجه على صديقه و بالعكس، فهما خليلان.
و لإبراهيم- عليه السلام- منصب آخر بيّنه بقوله سبحانه: وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي
(1). مريم (19): 41- 42.
(2). النساء (4): 125.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 200
الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1» و قال تعالى فيه و في إسحاق و يعقوب: وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ «2» فهو مصطفى بإسلامه، و يشعر به أيضا قوله: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «3» فالمصطفى هو الدين، و إبراهيم- عليه السلام- صار مصطفى بتحقّقه التامّ بالدين، فمقام الاصطفاء هو مقام التحقّق التامّ بالدين، و إنّ الدين عند اللّه الإسلام.
و إذا عرفت هذا علمت أنّ مدلول قوله: وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا «4» أنّ الخلّة مقام متأخّر عن مقام الاصطفاء، حيث جعله وصفا له متفرّعا على الملّة و الحنف جميعا، فافهم ذلك.
فمقام الخلّة متأخّر عن الدين و الاصطفاء، المتفرعين على النبوّة و الرسالة جميعا، و قد عرفت أنّ الإمامة- و هي الاهتداء باللّه، و الهداية بأمر اللّه- أمر وراء هذه الامور جميعا، و محتدها و منشأها غير ما لتلك، و قد قال سبحانه: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً و هو وحي.
و أيضا معظم الابتلاءات التي وقعت له- عليه السلام- كانت في زمان نبوّته و رسالته على ما يحكيه سبحانه في كلامه، فالإمامة آخر هذه المقامات المعدودة؛ أعني العبوديّة و النبوّة و الرسالة و الخلّة ثمّ الإمامة.
(1). البقره (2): 130.
(2). ص (38): 47.
(3). البقرة (2): 132.