کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 229
المخلوقين و مجالسته معهم، و اسمعه كلامي و كلام ملائكتي، و اعرّفه السرّ الذي سترته عن خلقي، و البسه الحياء، حتى يستحيي منه الخلق كلّهم، و يمشي على الأرض مغفورا له، و أجعل قلبه و اعيا و بصيرا، و لا اخفي عليه شيئا «1» من جنّة و لا نار، و اعرّفه ما يمرّ على الناس في القيامة من الهول و الشدّة، و ما احاسب به الأغنياء و الفقراء و الجهّال و العلماء، و انوّره في قبره، و انزّل عليه منكرا و نكيرا حتى يسألاه، و لا يرى غمّ الموت و ظلمة القبر و اللحد و هول المطّلع، ثمّ أنصب له ميزانه و أنشر ديوانه، ثمّ أضع كتابه في يمينه، فيقرأه منشورا، ثمّ لا أجعل بيني و بينه ترجمانا، فهذه صفات المحبّين.
يا أحمد! اجعل همّك همّا واحدا، و اجعل لسانك لسانا واحدا، و اجعل بدنك حيّا لا يغفل أبدا، من يغفل «2» عنّي لم ابال في أيّ «3» واد هلك». «4»
و في البحار عن الكافي و المعاني و نوادر الراوندي بأسانيد مختلفة عن الصادق و الكاظم- عليهما السلام- و اللفظ المنقول هاهنا لما في الكافي- قال:
«استقبل رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله و سلم- حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري، فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني «5» ؟ فقال: يا رسول اللّه! مؤمن حقّا، فقال له رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-: لكلّ شيء حقيقة، فما حقيقة قولك؟ فقال: يا رسول اللّه! عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، و أظمأت هواجري، و كأنّي أنظر إلى عرش ربّي و قد وضع للحساب، و كأنّي
(1). في المصدر: «شيء»
(2). في المصدر: «غفل»
(3). في المصدر: «لا ابال بأيّ»
(4). ارشاد القلوب 1: 204- 205؛ بحار الأنوار 74: 28- 29.
(5). هذه الكلمة ليست في المصدر، بل في بحار الأنوار.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 230
أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنّة، و كأنّي أسمع عواء أهل النار في النار، فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله و سلم-: عبد نوّر اللّه قلبه، أبصرت فاثبت». «1»
أقول: و خصوصيّات مضامين الروايتين مؤيّدة بروايات اخرى متفرّقة سيمرّ بك بعضها إن شاء اللّه، و مستفادة من الآيات، غير أنّ كثرتها منعت عن إيرادها هاهنا، و سنتعرّض إن شاء اللّه لكلّ في محلّه.
قوله سبحانه: وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
الصلاح- و هو اللياقة بوجه- ربّما نسب في كلامه تعالى إلى عمل الإنسان، و ربّما نسب إلى ذاته و نفسه؛ قال سبحانه: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً «2» و قال:
وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ. «3»
و صلاح العمل و إن لم يرد به تفسير من نفس كلامه سبحانه، لكن نسب إليه من الأثر:
أنّه صالح لوجه اللّه، قال سبحانه: صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ «4» و قال: وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ. «5» و قال: وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ. «6»
و أنّه صالح لأن يثاب عليه، قال سبحانه: ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ
(1). الكافي 2: 54، الحديث: 3؛ بحار الأنوار 22: 126، الحديث: 98؛ 64: 287، الحديث: 9؛ 67: 174، الحديث: 29؛ المحاسن 1: 246؛ معانى الأخبار: 187، الحديث: 5، نوادر للراوندي: 20.
(2). الكهف (18): 110.
(3). النور (24): 32.
(4). الرعد (13): 22.
(5). البقرة (2): 272.
(6). النمل (27): 19.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 231
صالِحاً «1» و الآيات في هذا المعنى كثيرة جدّا.
و أنّه صالح ليرفع الكلم الطيّب فيصعد إلى اللّه، قال سبحانه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «2» و يمكن أن يرجع إليه قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً. «3»
فيستفاد من هذه الآثار المنسوبة إلى العمل الصالح: أنّ الصلاح في العمل بمعنى تهيّئه و لياقته لأن يؤجر عليه و إمداده لصعود الكلم الطيّب إلى اللّه و لصلوحه إلى لقاء اللّه سبحانه، قال تعالى: وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ «4» و قال تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ «5» فعطاؤه بمنزلة الصورة، و صلاح العمل بمنزلة المادّة، هذا.
و أمّا الصلاح الذاتي- و هو المراد بصلاح الصالحين- فلم يرد فيه ما يلوح تفسيره منه غير ما في قوله سبحانه: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «6» و قوله: وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ «7» و قوله حكاية عن سليمان: وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «8» و قوله: وَ لُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً «9» إلى قوله: وَ أَدْخَلْناهُ
(1). القصص (28): 80.
(2). فاطر (35): 10.
(3). الكهف (18): 110.
(4). الحج (22): 37.
(5). الاسراء (17): 20.
(6). النساء (4): 69.
(7). الانبياء (21): 84.
(8). النمل (27): 19.
(9). الانبياء (21): 84.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 232
فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. «1»
و ليس المراد به الصلاح لمطلق الرحمة الإلهيّة العامّة لكلّ شيء، و لا المختصّة بالمؤمنين فحسب على ما يفيده قوله: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ «2» إذ الصالحون طائفة خاصّة من المؤمنين، و من الرحمة ما يختصّ بالبعض دون البعض، قال تعالى: وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ. «3»
و ليس أيضا مطلق كرامة الولاية، و هي تولّيه سبحانه امر عبده، فإنّ الصالحين و إن شرّفوا بذلك على ما بيّنا في ذيل قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «4» من سورة الفاتحة، فإنّ هذه صفة مشتركة بينهم و بين النبيّين و الصدّيقين و الشهداء كما مرّ بيانه، فلا يستقيم إذا عدّهم طائفة في قبالهم.
و ليس الصلاح أيضا إيتاء الحكم و العلم و الاصطفاء، على ما هو ظاهر من الآيات المشتملة عليه.
نعم، يبقى له من الأثر الخاصّ: الإدخال في الرحمة و هو الأمن التامّ من العذاب، كما ورد المعنيان معا في الجنّة: قال سبحانه: فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ «5» أي في الجنّة، و قال: [ يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ] «6» أيّ في الجنّة.
و أنت إذا تدبّرت معنى الصلاح و هو اللياقة، و قوله: وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا،
(1). الانبياء (21): 75.
(2). الأعراف (7): 156.
(3). البقرة (2): 105.
(4). الفاتحة (1): 6.
(5). الجاثية (45): 30.
(6). الدخان (44): 55.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 233
و لم يقل: و دخل، و قوله: وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ «1» و أنّه سبحانه قصر في كلامه الأجر و الشكر على العمل و السعي، قضيت بأنّ الصلاح الذاتي كرامة ليست بحذاء العمل و الإرادة، و يتبيّن حينئذ معنى قوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ* «2» و هو ما بالعمل، وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ «3» و هو أمر غير ما بالعمل، و ليس من شأنه أن يتعلّق به المشيئة، فهو أمر غير محدود، إذ كلّ خير محدود يتعلّق به المشيئة، فافهم.
و في تفسير القمّي في قوله تعالى: وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ «4» قال- عليه السلام-:
«النظر إلى رحمة اللّه». «5»
و في المجمع عن النبيّ- صلى اللّه عليه و آله و سلّم- يقول اللّه: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ...» «6» الحديث.
ثمّ إنّك إذا تأمّلت حال إبراهيم- عليه السلام- و أنّه نبيّ مرسل، و أحد اولي العزم و أشرفهم و سيّدهم و أشرف الأنبياء جميعا بعد محمد- صلى اللّه عليه و آله و سلم-، على ما يعطيه القرآن، و أنّه مقتدى من بعده من الأنبياء و المرسلين، و أنّه من الصالحين بنصّ قوله: وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ «7» الظاهر في الصلاح
(1). الانبياء (21): 72.
(2). الشورى (42): 22؛ الزمر (39): 34.
(3). ق (50): 35.
(4). ق (50): 35.
(5). تفسير القمي 2: 327.
(6). بحار الانوار 8: 92؛ مجمع البيان 8: 108.
(7). الانبياء (21): 72.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 234
المعجّل، على أنّ من هو دونه في الفضل، مكرم بالصلاح المعجّل، و هو- عليه السلام- مع ذلك يسأل الصلاح بمثل قوله: وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ* «1» الظاهر في أنّ هناك قوما من الصالحين سبقوه، و هو يسأل اللحوق بهم فيما سبقوه إليه، و اجيب بذلك في الآخرة، كما يحكيه تعالى في ثلاثة مواضع من كلامه:
قال تعالى: وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
و قال: وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. «2» و قال:
وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. «3»
فإذا تأمّلت ذلك كلّه حقّ التأمّل، قضيت بأنّ الصلاح ذو مراتب و لم تستبعد- لو قرع سمعك-، أنه سأل اللحوق بمحمد و الطاهرين من آله فاجيب بذلك في الآخرة لا في الدنيا، و محمّد- صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- يدّعيه لنفسه بقوله سبحانه: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ «4» «5» و الأخبار في ذلك كثيرة.
(1). يوسف (12): 101؛ الشعراء (26): 83.
(2). النحل (16): 122.
(3). النحل (16): 122.
(4). الأعراف (7): 196.
(5). و إنّما مورد الاستشهاد قوله: «الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ» [منه- رحمه اللّه-].
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج1، ص: 235
[سورة البقرة (2): الآيات 133 الى 134]
قوله سبحانه: قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ ...
روى العيّاشي عن الباقر- عليه السلام- «أنّها جرت في القائم- عليه السلام-». «1»
أقول: قال في الصافي: لعلّ مراده أنّها [جارية] في قائم آل محمد- صلى اللّه عليه و آله و سلم-، فكلّ قائم منهم يقول ذلك حين موته «2» لبنيه، و يجيبونه بما أجابوا به. «3»
قوله سبحانه: وَ إِلهَ آبائِكَ
في إطلاق لفظ الآباء على الجدّ و العمّ و الوالد- من غير مصحّح للتغليب- حجّة فيما سيجيء من خطاب إبراهيم لآزر بالأب.
(1). تفسير العيّاشي 1: 61 الحديث: 102.
(2). في المصدر: «الموت ذلك»