کتابخانه تفاسیر
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 283
و مشوا فكان مشيهم بين الناس بركة، لو لا الآجال التي [قد] كتبت عليهم لم تستقر «1» أرواحهم في أجسادهم خوفا من العذاب و شوقا إلى الثواب» «2» .
و لا ينافي ما مرّ و سيجيء أنّ هؤلاء لا يريدون إلّا وجه اللّه، و لا يلتفتون إلى عذاب و لا ثواب، فإنّ الثواب و العذاب يتبدّلان عندهم بالقرب و البعد و الرضا و السخط.
و في الكافي أيضا عن الباقر- عليه السلام- قال: «قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه و آله-: إذا استحقّت ولاية اللّه و السعادة جاء الأجل بين العينين، و ذهب الأمل وراء الظّهر، و إذا استحقّت ولاية الشيطان و الشقاوة جاء الأمل بين العينين، و ذهب الأجل وراء الظهر» «3» .
و لنرجع إلى ذيل الآية ثم قال سبحانه: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ «4» .
فأفاد أنّ الولاية لا تجامع الظلم، و قد عرفت في سورة الفاتحة أنّ كلّ شرك و معصية ظلم، بل كلّ ما يشغل الإنسان و يلهيه عن ذكر اللّه ظلم و خسران، قال تعالى: لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ «5» ، و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ* أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «6» ، و قال تعالى: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ
(1). في المصدر: «لم تقّر»
(2). الكافي 2: 237، الحديث: 25.
(3). الكافي 3: 257.
(4). الجمعة (62): 7.
(5). المنافقون (63): 9.
(6). يونس (10): 7- 8.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 284
فمن كان من أولياء اللّه و دخل في حظيرتهم و انسلك في زمرتهم لا يشتغل عنه بغيره، و لا يلبس لباس الظلم فيستقرّ في صفّ الذين عنوا بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ «2» و تنطبق الآية على قوله: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ «3» فهم المأمونون لا يخافون منه شرا و لا ظلما و لا هضما، إذ لم يلبسوا إيمانهم بظلم و لا من غيره تعالى، إذ ايمانهم باللّه حق الإيمان، و معرفتهم بحقيقة الملك الربوبي يمنع عن ذلك، و قد تقدم في سورة الفاتحة في قوله: صِراطَ الَّذِينَ «4» أنّ صراط العبادة الذي لا ظلم و لا ضلال فيه هو صراط اللّه و هو الصراط المستقيم، فصراط الولاية هو صراط اللّه و هو الصراط المستقيم.
ثم أقول: و هو صراط التوحيد، صراط لا يعبد فيه إلّا اللّه كما يفيده أمثال قوله: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي «5» و قوله: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «6» .
و الناس في تلقّي المراد من هذا اللفظ،- أعني إخلاص العبادة و إخلاص الدين- على مراتب مختلفة و درجات متفاوتة، تذهب في الجانبين إلى غايات
(1). الاعراف (7): 205- 206.
(2). الأنعام (6): 82.
(3). يونس (10): 62- 63.
(4). الفاتحة (1): 7.
(5). الزمر (39): 14.
(6). غافر (40): 14.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 285
بعيدة، قال سبحانه: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ «1» و قال سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «2» .
و لا يغرّنك إطلاق العلم على كلّ صورة ذهنيّة مأخوذة من معلوم على ما يعتوره الناس من هذا اللفظ، فهو سبحانه لا يعدّ علما إلا ما يرتضيه، قال سبحانه: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ «3» ، فتراه سبحانه يعدّ العلم- و هو علم- ضلالا، و السمع صمما و البصر عمى، و فهم القلب ركودا، و إنّما يرتضى لمعنى العلم الهداية التي منه تعالى، التي سمّاها في موارد أخر نورا، قال: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ «4» . و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله على ما روي عنه: «ليس العلم بكثرة التعلّم و إنّما هو نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء» «5» .
و قد مرّ فيما مرّ جمل من القول في هذه المعاني.
و بالجملة، فما نتلقّاه من الإخلاص في الدين في بادئ النظر ما يقابل فعال الوثنيّين و عبدة الأصنام، ثم كلّما أمعنّا و رمنا حقيقة الكلمة وجدنا الإخلاص و التوحيد أدقّ، حتى إذا جرّدنا اللفظ عن كل تجوّز و مسامحة و أخذنا حقيقته حقا، وجدنا أنّ أدنى الركون و الإلتفات إلى غيره سبحانه شرك يجب تنزّه الموحّد عنه، فلا ينفكّ عنه و لا يلتفت إلى غيره إلّا به، فيعود عامّة العبادة شركا،
(1). يوسف (12): 76.
(2). المجادلة (58): 11.
(3). الجاثية (45): 23.
(4). الانعام (6): 122.
(5). منية المريد: 167 مع تفاوت؛ مصباح الشريعة: 16؛ بحار الأنوار 67: 139.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 286
و من جملتها عبادة العابد رغبة في الجنة، و عبادته خوفا من النار، و عبادته حبّا للعبادة، فكلّ ذلك من الشرك حقيقة غير مندوب إليه في حقيقة الخطابات الإلهية، و قد مرّت عدّة من الروايات في سورة الفاتحة عند قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1» في ذلك.
ثم أقول: و أنت إذا تأمّلت في إراداتك وجدنك لا تزيد شيئا إلّا لغاية تحبّ أن تنالها، فلا إرادة إلّا عن حبّ، و هذا حكم وجداني لا يحتاج إلى إقامة برهان، و هذا هو السبب لما يقال: إنّ صراط الولاية صراط الحبّ، أي سبيل مقطوع بالحب.
و قد تحصّل من قوله: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إلى قوله: بِالظَّالِمِينَ «2» فيما مرّ أنّ آية ذلك تمنّي اللقاء و عدم الظلم، أي فقدان المعصية و وجدان الحبّ، فجلّ عتبة الحق سبحانه أن ينسب إليه المجاز في أمثال هذه الحقائق، و عزّ جنابه أن يتحقّق معه لقاء جسماني، فما حبّ لقاء اللّه سبحانه إلّا حبّ اللّه عزّ و جلّ حيث لا يحجب عن الحضور معه حواجب الذنوب و موانع المعاصي، فالولاية كما مرّ هي طريق الحب المنعكس، و يغفر عنده الذنوب فينطبق بعينه على قوله سبحانه. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ «3» .
و من الدليل على رفعة قدر الحب ما في سورة يوسف و خاصة من قوله:
وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ «4» إلى آخرها، و قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ
(1). الفاتحة (1): 7.
(2). الجمعة (62): 6- 7.
(3). آل عمران (3): 31.
(4). يوسف (13): 30.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 287
كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً «1» و لم يقيّد بالآخرة و ظاهرها الدنيا.
و يظهر من هنا أنّ من وجد نفسه بالحبّ و الإتباع فليستبشر بالولاية و مغفرة الذنب، و أيضا، إنّ من إنقلع عن ذنب حبا للّه سبحانه فليتحقق بمغفرته، فما المغفرة إلّا ستره سبحانه أو إمحائه و بال الذنب عن القلب، قال سبحانه:
وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ «2» ، فإذا أحسّ بانقلاع القلب عن الذنب فهو المغفرة.
و بالجملة، فصراط الولاية صراط الحبّ.
ثم أقول: و أفعال الإنسان يرتضع من الوصف الغالب الراسخ في نفسه، و كذا عامة أوصافه من الوصف النفساني المستقر فيه، و ذلك كمواليد الأنواع تشاكل أمهاتها، و أبناء النوع تستأنس و تجتمع عند صاحبتها كالحمام على الحمامة، فلا تكاد ترى متكبرا طاغيا إلّا و عامّة أفعاله و أقواله مصاديق للتكبّر و الطغيان، و لا مترفا لاهيا إلّا و قيامه و قعوده و كلامه و سكوته أنواع الأتراف و اللهو و هكذا، و قد قال سبحانه: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ «3» .
و إذ كان الأمر على ذلك، فغريزة المحبة هي العنوان لما يستقبله المحبّ من أوصاف و أفعال و هي و إن كانت محدودة يسيرة في جنب جماعات الأوصاف و الأفعال التي في حومة النفوس عند أول بروق بارقتها، لكنّها لا تزال تسري من واحد إلى آخر، و من قرين إلى قرين حتى تفني الجميع و تهدم الأساس
(1). الإنسان (76): 5- 6.
(2). البقرة (2): 225.
(3). الإسراء (17): 84.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 288
كمثل الحريق يبدأ من نويرة، ثمّ تأخذ في الاتّساع حتى تستوعب المكان فتكون بلوى، و هذا حال المؤمن إذا أراد أن يهاجر إلى ربّه بدليل المحبّة الإلهية، و راحلته اتّباع الرسول فيما آتاه لقوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ «1» ، يأخذ في تهذيب نفسه في أوصافها و أفعالها على بصيرة حسبما يفسّرها الدين الحنيف، و يدعو إليها كتاب اللّه و سنة رسوله- صلّى اللّه عليه و آله- غير أن عامّة الوعد و الوعيد، و الإنذار و التبشير تتبدّل في حقّه كما مرّ، فلا يريد إلّا وجه اللّه سبحانه.
و لئن تذكّرت ما قدّمناه في قوله تعالى: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ «2» ، من سورة البقرة وجدت أنّ هذا المسلك هو المسلك الثالث من مسالك تهذيب الأخلاق الثلاثة في الإسلام، و أوّل ما يطلع عليه من طلائع الحب أنّ نفسه تأخذ في الإنصراف عن زخارف الدنيا و الإقبال إلى الحياة التي عند اللّه سبحانه فيجد الحياة الدنيا على نظامها و جهاتها بناء مشيّدا على أساس تعارفات و رسومات لا تزيد على الوهم و الخيال، و لعبا و لهوا تشتغل، بها أبنائها و ترتضيها طلّابها و حقّت عنده كلمة ربّه، إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ «3» ، و قوله: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها «4» ، و قوله: أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ «5» ، ثم إذا سمع قوله تعالى: وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ
(1). آل عمران (3): 31.
(2). البقرة (2): 156.
(3). محمد (47): 36.
(4). الكهف (18): 7.
(5). النور (24): 39.
تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج3، ص: 289
وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ «1» . بان عنده بطلان العلوم و الآراء المبني عليها نظام الإجتماع و أساس الحياة الدنيا و تبدّل عنده ما كان يذعنه و يعتبره مما يسمعه أو يعقله من المعارف الإلهية المتعلّقة بالمبدأ و المعاد و غيرهما من الحقائق، تبدّل الباطل بالحق و نسخ الظلمة بالنور، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «2» .
ثم بعدئذ يأخذ اساس الاسباب التي كانت تقف عندها القلوب، و تغترّ بتأثيرها النفوس، في الإضطراب و التزلزل، فلا يزال يشتدّ إيمانه بأنّ الأمر إلى اللّه سبحانه، و أنّ الملك و الربوبيّة و الولاية له وحده لا شريك له، فلا يزال يتسع نطاقه في الأفعال، ثم في الأوصاف، فيعقل حقيقة الملك و حدّ النسب الذي في الأشياء، و مكان ملكه سبحانه لها، فليس لها من نفسها و تأثيراتها شيء إلّا بإذن اللّه، يعقّل ذلك تعقّل المشاهد لا خيال المتوهّم، فهذا الإنسان يسير من جانب إلى الراحة و السلام، كلّما بدا له سقوط سبب من الإستقلال في تأثيره، انهدم من أركان اضطرابه و تشويشه، و خوفه و حزنه، و كل مكروه يناله بمقداره، حتى إذا سرى الأمر في الجميع تخلّص عن كل محذور يهابه، و شرّ يخافه و مكروه يتوقّعه، فليس له شيء يخاف عليه، أو يحزن له، و لا لغير اللّه سبحانه تأثير و أمر يخشاه. قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «3» ، و قال: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ «4» .
(1). الدخان (44): 38- 39.
(2). البقرة (2): 257.
(3). الرعد (13): 28.