کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 50
لعبادة اللّه تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته و لا يثني عليه كما يليق به، و العبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب اللّه تعالى كما قال بعضهم: [السريع]
لا تدعني إلا بيا عبدها
فإنه أشرف أسمائي
و قد سمى اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و سلم بعبده في أشرف مقاماته فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف: 1] وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19]، سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] فسماه عبدا عند إنزاله عليه و عند قيامه في الدعوة و إسرائه به و أرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين حيث يقول: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 97- 99] و قد حكى الرازي في تفسيره عن بعضهم أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة لكون العبادة تصدر من الخلق إلى الحق و الرسالة من الحق إلى الخلق، قال:
و لأن اللّه يتولى مصالح عبده و الرسول يتولى مصالح أمته، و هذا القول خطأ و التوجيه أيضا ضعيف لا حاصل له و لم يتعرض له الرازي بتضعيف و لا رد، و قال بعض الصوفية: العبادة إما لتحصيل ثواب أو درء عقاب، قالوا: و هذا ليس بطائل إذ مقصوده تحصيل مقصوده، و إما للتشريف بتكاليف اللّه تعالى و هذا أيضا عندهم ضعيف، بل العالي أن يعبد اللّه لذاته المقدسة الموصوفة بالكمال، قالوا: و لهذا يقول المصلي: أصلي للّه، و لو كان لتحصيل الثواب و درء العقاب لبطلت الصلاة و قد رد ذلك عليهم آخرون و قالوا: كون العبادة للّه عز و جل لا ينافي أن يطلب معها ثوابا و لا أن يدفع عذابا كما قال ذلك الأعرابي: أما أني لا أحسن دندنتك و لا دندنة معاذ إنما أسأل اللّه الجنة و أعوذ به من النار فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم «حولها ندندن» «1» .
[سورة الفاتحة (1): آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
قراءة الجمهور بالصاد و قرئ السراط و قرئ بالزاي، قال الفراء: و هي لغة بني عذرة و بني كلب. لما تقدم الثناء على المسؤول تبارك و تعالى ناسب أن يعقب بالسؤال كما قال: «فنصفها لي و نصفها لعبدي و لعبدي ما سأل» و هذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته و حاجة إخوانه المؤمنين بقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ لأنه أنجح للحاجة و أنجع للإجابة، و لهذا أرشد اللّه إليه لأنه الأكمل، و قد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل و احتياجه كما قال موسى عليه السلام رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] و قد يتقدمه مع ذلك وصف المسؤول كقول ذي النون لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ و قد يكون بمجرد الثناء على المسؤول كقول الشاعر: [الوافر]
(1) الحديث أخرجه أحمد في المسند (ج 5 ص 386) عن بعض أصحاب النبي و أخرجه أبو داود (صلاة، باب 124) و ابن ماجة (إقامة، باب 46؛ و دعاء، باب 4)
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 51
أ أذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما
كفاه من تعرضه الثناء
و الهداية هاهنا الإرشاد و التوفيق، و قد تعدى الهداية بنفسها كما هنا اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فتضمن معنى ألهمنا أو وفقنا أو ارزقنا أو أعطنا وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] أي بينا له الخير و الشر، و قد تعدى بإلى كقوله تعالى: اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:
121] فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] و ذلك بمعنى الإرشاد و الدلالة و كذلك قوله وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] و قد تعدى باللام كقول أهل الجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: 43] أي وفقنا لهذا و جعلنا له أهلا.
و أما الصراط المستقيم فقال الإمام أبو جعفر بن جرير «1» : أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه و كذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي: [الوافر]
أمير المؤمنين على صراط
إذا اعوج الموارد مستقيم «2»
قال: و الشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر. قال: ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول و عمل وصف باستقامة أو اعوجاج فتصف المستقيم باستقامته و المعوج باعوجاجه. ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف و الخلف في تفسير الصراط، و إن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد و هو المتابعة للّه و للرسول، فروي أنه كتاب اللّه، قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثني يحيى بن يمان عن حمزة الزيات عن سعد و هو أبو المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «الصراط المستقيم كتاب اللّه» و كذلك رواه ابن جرير «3» من حديث حمزة بن حبيب الزيات. و قد تقدم في فضائل القرآن فيما رواه أحمد و الترمذي «4» من رواية الحارث الأعور عن علي مرفوعا «و هو حبل اللّه المتين و هو الذكر الحكيم و هو الصراط المستقيم» و قد روي هذا موقوفا عن علي رضي اللّه عنه و هو أشبه و اللّه أعلم. و قال الثوري عن منصور عن أبي وائل عن عبد اللّه قال:
الصراط المستقيم كتاب اللّه، و قيل هو الإسلام. قال الضحاك عن ابن عباس قال: قال جبريل لمحمد عليهما السلام «قل يا محمد اهدنا الصراط المستقيم» يقول: اهدنا الطريق الهادي و هو
(1) تفسير الطبري 1/ 103.
(2) البيت لجرير في ديوانه ص 218؛ و تهذيب اللغة 12/ 330؛ و تاج العروس (ورد)؛ و جمهرة اللغة ص 714؛ و مقاييس اللغة 6/ 105؛ و أساس البلاغة (ورد)؛ و لسان العرب (ورد، سرط)؛ و مجمل اللغة 4/ 522.
(3) تفسير الطبري 1/ 104.
(4) الترمذي، ثواب القرآن، باب 14.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 52
دين اللّه الذي لا اعوجاج فيه. و قال ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قال: ذاك الإسلام. و قال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن أبي مالك و عن أبي صالح عن ابن عباس و عن مرة الهمداني عن ابن مسعود و عن ناس من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم اهدنا الصراط المستقيم قالوا: هو الإسلام. و قال عبد اللّه بن محمد بن عقيل عن جابر اهدنا الصراط المستقيم قال: هو الإسلام قال: هو أوسع مما بين السماء و الأرض. و قال ابن الحنفية في قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قال: هو دين اللّه الذي لا يقبل من العباد غيره. و قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: اهدنا الصراط المستقيم قال: هو الإسلام. و في هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده «1» حيث قال: حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء حدثنا ليث يعني ابن سعد عن معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «ضرب اللّه مثلا صراطا مستقيما و على جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة و على الأبواب ستور مرخاة و على باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا و لا تعوجوا «2» ، و داع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه- فإنك إن تفتحه تلجه- فالصراط الإسلام و السوران حدود اللّه و الأبواب المفتحة محارم اللّه و ذلك الداعي على رأس الصراط كتاب اللّه و الداعي من فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مسلم» و هكذا رواه ابن أبي حاتم و ابن جرير من حديث الليث بن سعد به. و رواه الترمذي و النسائي جميعا عن علي بن حجر عن بقية عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان به، و هو إسناد حسن صحيح و اللّه أعلم. و قال مجاهد: اهدنا الصراط المستقيم قال: الحق. و هذا أشمل و لا منافاة بينه و بين ما تقدم. و روى ابن أبي حاتم و ابن جرير من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم، حدثنا حمزة بن المغيرة عن عاصم الأحول عن أبي العالية اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قال هو النبي صلّى اللّه عليه و سلم و صاحباه من بعده. قال عاصم فذكرنا ذلك للحسن فقال صدق أبو العالية و نصح «3» . و كل هذه الأقوال صحيحة و هي متلازمة فإن من اتبع الإسلام فقد اتبع النبي صلّى اللّه عليه و سلم و اقتدى باللذين من بعده أبي بكر و عمر فقد اتبع الحق و من اتبع الحق فقد اتبع الإسلام و من اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن و هو كتاب اللّه و حبله المتين و صراطه المستقيم، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضا، و للّه الحمد. و قال الطبراني حدثنا محمد بن الفضل السقطي حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد اللّه قال: الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. و لهذا قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه اللّه: و الذي
(1) المسند ج 6 ص 199.
(2) في المسند «و لا تتفرّجوا»،
(3) تفسير الطبري 1/ 105.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 53
هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أعني- اهدنا الصراط المستقيم- أن يكون معنيا به: وفقنا للثبات على ما ارتضيته و وفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول و عمل ذلك هو الصراط المستقيم لأن من وفق لما وفق له من أنعم اللّه عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين فقد وفق للإسلام و تصديق الرسل و التمسك بالكتاب و العمل بما أمره اللّه به و الانزجار عما زجره عنه و اتباع منهاج النبي صلّى اللّه عليه و سلم و منهاج الخلفاء الأربعة، و كل عبد صالح و كل ذلك من الصراط المستقيم «1» .
فإن قيل فكيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة و غيرها و هو متصف بذلك؟ فهل هذا من باب تحصيل الحاصل أم لا؟
فالجواب أن لا، و لو لا احتياجه ليلا و نهارا إلى سؤال الهداية لما أرشده اللّه تعالى إلى ذلك، فإن العبد مفتقر في كل ساعة و حالة إلى اللّه تعالى في تثبيته على الهداية و رسوخه فيها و تبصره و ازدياده منها و استمراره عليها فإن العبد لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا إلا ما شاء اللّه فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة و الثبات و التوفيق، فالسعيد من وفقه اللّه تعالى لسؤاله فإنه قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه و لا سيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل و أطراف النهار، و قد قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء: 136] فقد أمر الذين آمنوا بالإيمان و ليس ذلك من باب تحصيل الحاصل لأن المراد الثبات و الاستمرار و المداومة على الأعمال المعينة على ذلك و اللّه أعلم. و قال تعالى آمرا لعباده المؤمنين أن يقولوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] و قد كان الصديق رضي اللّه عنه يقرأ بهذه الآية في الركعة الثالثة من صلاة المغرب بعد الفاتحة سرا، فمعنى قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ استمر بنا عليه و لا تعدل بنا إلى غيره.
[سورة الفاتحة (1): آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
قد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخرها أن اللّه يقول «هذا لعبدي و لعبدي ما سأل» و قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مفسر للصراط المستقيم و هو بدل منه عند النحاة و يجوز أن يكون عطف بيان و اللّه أعلم. و الذين أنعم اللّه عليهم هم المذكورون في سورة النساء حيث قال تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً [النساء: 69- 70] و قال الضحاك عن ابن عباس: صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك و عبادتك من ملائكتك و أنبيائك و الصديقين و الشهداء و الصالحين. و ذلك نظير
(1) تفسير الطبري 1/ 104.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 54
ما قال ربنا تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية. و قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ قال: هم النبيّون، و قال ابن جريج عن ابن عباس: هم المؤمنون، و كذا قال مجاهد و قال وكيع: هم المسلمون، و قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم النبي صلّى اللّه عليه و سلم و من معه، و التفسير المتقدم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أعم و أشمل و اللّه أعلم.
و قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ قرأ الجمهور (غير) بالجر على النعت، قال الزمخشري: و قرئ بالنصب على الحال، و هي قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و عمر بن الخطاب، و رويت عن ابن كثير «1» و ذو الحال الضمير في عليهم و العامل أنعمت و المعنى: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم و نعتهم و هم أهل الهداية و الاستقامة و الطاعة للّه و رسله و امتثال أوامره و ترك نواهيه و زواجره غير صراط المغضوب عليهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق و عدلوا عنه و لا صراط الضالين و هم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق. و أكد الكلام بلا ليدل على أن ثمّ مسلكين فاسدين و هما طريقتا اليهود و النصارى، و قد زعم بعض النحاة أن غير هاهنا استثنائية فيكون على هذا منقطعا لاستثنائهم من المنعم عليهم و ليسوا منهم، و ما أوردناه أولى لقول الشاعر: [الوافر]
كأنك من جمال بني أقيش
يقعقع عند رجليه بشنّ «2»
أي كأنك جمل من جمال بني أقيش فحذف الموصوف و اكتفى بالصفة، و هكذا. غير المغضوب عليهم، أي غير صراط المغضوب عليهم. و اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف، و قد دل سياق الكلام و هو قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ثم قال تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ و منهم من زعم أن لا في قوله تعالى وَ لَا الضَّالِّينَ زائدة و أن تقدير الكلام عنده: غير المغضوب عليهم و الضالين و استشهد ببيت العجاج: [الرجز]
في بئر لا حور سرى و ما شعر «3»
(1) هو عبد اللّه بن كثير، القارئ المتوفى سنة 120 ه.
(2) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 126؛ و خزانة الأدب 5/ 67؛ و شرح أبيات سيبويه 2/ 58؛ و شرح المفصل 3/ 59؛ و الكتاب 2/ 345؛ و لسان العرب (وقش، قعع، شنن)؛ و المقاصد النحوية 4/ 67.
و البيت قاله النابغة في هجاء عيينة بن حصن الفزاري يصفه بالجبن و الخور كأنه جمل من جمال بني أقيش المعروفة بشدة النفار إذا سمعت صوت شنّ (قربة بالية) يقعقع به.
(3) تتمة الرجز: «بإفكه حتى رأى الصّبح جشر». و هو للعجاج في ديوانه 20؛ و الأزهية ص 154؛ و الأشباه النظائر 2/ 164؛ و خزانة الأدب 4/ 51؛ و شرح المفصل 8/ 136؛ و تاج العروس (حور، لا)؛ و تهذيب اللغة 5/ 228؛ و لسان العرب (حور). قال في اللسان: أراد: في بئر لا حؤور، فأسكن الواو الأولى و حذفها لسكونها و سكون الثانية بعدها. قاله الفراء: أراد في بئر ماء لا يحير عليه شيئا. و حار يحور حورا و حؤورا: رجع. و في الحديث: «من دعا رجلا بالكفر و ليس كذلك حار عليه» أي رجع إليه ما نسب إليه.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 55
أي في بئر حور، و الصحيح ما قدمناه، و لهذا روى أبو القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه كان يقرأ (غير المغضوب عليهم و غير الضالين) و هذا الإسناد صحيح، و كذلك حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك، و هو محمول على أنه صدر منهما على وجه التفسير، فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء بها لتأكيد النفي لئلا يتوهم أنه معطوف على الذين أنعمت عليهم، و للفرق بين الطريقتين ليتجنب كل منهما فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق و العمل به، و اليهود فقدوا العمل، و النصارى فقدوا العلم، و لهذا كان الغضب لليهود و الضلال للنصارى، لأن من علم و ترك استحق الغضب خلاف من لم يعلم، و النصارى لما كانوا قاصدين شيئا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه، و هو اتباع الرسول الحق، ضلوا، و كل من اليهود و النصارى ضال مغضوب عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة: 60] و أخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] و بهذا جاءت الأحاديث و الآثار و ذلك واضح بين فيما قال الإمام أحمد «1» : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت سماك بن حرب يقول: سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم، قال:
جاءت خيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فأخذوا عمتي و ناسا فلما أتوا بهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم صفوا له فقالت:
يا رسول اللّه، نأى الوافد و انقطع الولد و أنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة فمنّ علي منّ اللّه عليك، قال «من وافدك؟» قالت عدي بن حاتم، قال «الذي فر من اللّه و رسوله» قالت فمنّ علي، فلما رجع و رجل إلى جنبه ترى أنه علي، قال: سليه حملانا فسألته فأمر لها، قال فأتتني فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه و أتاه فلان فأصاب منه فأتيته فإذا عنده امرأة و صبيان، و ذكر قربهم من النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: فعرفت أنه ليس بملك كسرى و لا قيصر، فقال «يا عدي ما أفرك؟ أن يقال لا إله إلا اللّه؟ فهل من إله إلا اللّه؟ ما أفرك أن يقال اللّه أكبر فهل شيء أكبر من اللّه عز و جل؟» قال: فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر و قال: «إن المغضوب عليهم اليهود و إن الضالين النصارى» «2» ، و ذكر الحديث و رواه الترمذي من حديث سماك بن حرب «3» ، و قال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه: قلت: و قد رواه حماد بن سلمة عن
(1) المسند ج 7 ص 98- 99،
(2) و لهذا الحديث بقية تنظر في مظنتها المشار إليها. و عدي هذا هو ابن حاتم الطائي الجواد المشهور. كان نصرانيا و قد فرّ لما بعث النبي، ثم رجع و أسلم سنة 9 ه و حسن إسلامه و صحبته. و قد قام في حرب الردة بأعمال كبيرة حتى قال ابن الأثير؛ خير مولود في أرض طيء و أعظمه بركة عليهم (الأعلام 4/ 220)
(3) الترمذي، كتاب التفسير، سورة 101.
تفسير القرآن العظيم، ج1، ص: 56
مرّيّ بن قطريّ عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن قوله تعالى غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قال: هم اليهود وَ لَا الضَّالِّينَ قال: النصارى هم الضالون. و هكذا رواه سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم به، و قد روي حديث عدي هذا من طرق و له ألفاظ كثيرة يطول ذكرها. و قال عبد الرزاق: و أخبرنا معمر عن بديل العقيلي أخبرني عبد اللّه بن شقيق أنه أخبره من سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هو بوادي القرى و هو على فرسه و سأله رجل من بني القين فقال: يا رسول اللّه من هؤلاء؟ قال: المغضوب عليهم و أشار إلى اليهود و الضالون هم النصارى. و قد رواه الجريري و عروة و خالد الحذاء عن عبد اللّه بن شقيق فأرسلوه و لم يذكروا من سمع من النبي صلّى اللّه عليه و سلم و وقع في رواية عروة تسمية عبد اللّه بن عمر فاللّه أعلم. و قد روى ابن مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد اللّه بن شقيق عن أبي ذر قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن المغضوب عليهم قال: اليهود، قلت: الضالين قال: النصارى. و قال السدي عن أبي مالك و عن أبي صالح عن ابن عباس و عن مرة الهمداني عن ابن مسعود، و عن أناس من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم: غير المغضوب عليهم هم اليهود و لا الضالين هم النصارى. و قال الضحاك و ابن جريج عن ابن عباس: غير المغضوب عليهم هم اليهود و لا الضالين النصارى، و كذلك قال الربيع بن أنس و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم و غير واحد، و قال ابن أبي حاتم: و لا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافا.
و شاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم و النصارى ضالون، الحديث المتقدم، و قوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ [البقرة: 90] و قال في المائدة قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 60] و قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78- 79] و في السيرة «1» عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه لما خرج هو و جماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف قالت له اليهود: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب اللّه، فقال: أنا من غضب اللّه أفر، و قالت له النصارى إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط اللّه، فقال: لا أستطيعه. فاستمر على فطرته و جانب عبادة الأوثان و دين المشركين و لم يدخل مع أحد من اليهود و لا النصارى، و أما أصحابه فتنصروا و دخلوا في دين النصرانية لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذك، و كان منهم ورقة بن نوفل حتى هداه اللّه بنبيه لما بعثه آمن بما وجد من الوحي رضي اللّه عنه.