کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن العظيم، ج2، ص: 381
الطلاق» «1» . ثم رواه أبو داود عن أحمد بن يونس، عن معروف عن محارب، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فذكر معناه مرسلا.
و قوله: وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً و إن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن و تقسموا لهن أسوة أمثالهن، فإن اللّه عالم بذلك و سيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء.
و قوله تعالى: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه و إن وقع القسم الصوري ليلة و ليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة و الشهوة و الجماع كما قاله ابن عباس و عبيدة السلماني و مجاهد و الحسن البصري و الضحاك بن مزاحم، و قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا حسين الجعفي عن زائدة، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، قال:
نزلت هذه الآية وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ في عائشة، يعني أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم كان يحبها أكثر من غيرها، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد و أهل السنن من حديث حماد بن سلمة عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد اللّه بن يزيد، عن عائشة قالت:
كان رسول اللّه يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك و لا أملك» يعني القلب، هذا لفظ أبي داود «2» ، و هذا إسناد صحيح، لكن قال الترمذي: رواه حماد بن زيد و غير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلا، قال: و هذا أصح.
و قوله: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي فتبقى هذه الأخرى معلقة. قال ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير و الحسن و الضحاك و الربيع بن أنس و السدي و مقاتل بن حيان: معناها لا ذات زوج و لا مطلقة. و قال أبو داود الطيالسي: أنبأنا همام عن قتادة، عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هرير، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة و أحد شقيه ساقط»، و هكذا رواه الإمام أحمد «3» و أهل السنن من حديث همام بن يحيى عن قتادة به. و قال الترمذي: إنما أسنده همام و رواه هشام الدستوائي عن قتادة، قال: كان يقال: و لا يعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث همام.
و قوله: وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي و إن أصلحتم في أموركم و قسمتم بالعدل فيما تملكون و اتقيتم اللّه في جميع الأحوال غفر اللّه لكم ما كان من ميل إلى
(1) سنن أبي داود (طلاق باب 3) و سنن ابن ماجة (طلاق باب 1)
(2) سنن أبي داود (نكاح باب 38)
(3) مسند أحمد 3/ 347.
تفسير القرآن العظيم، ج2، ص: 382
بعض النساء دون بعض، ثم قال تعالى: وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً و هذه هي الحالة الثالثة، و هي حالة الفراق و قد أخبر اللّه تعالى أنهما إذا تفرقا فإن اللّه يغنيه عنها و يغنيها عنه بأن يعوضه اللّه من هو خير له منها، و يعوضها عنه بمن هو خير لها منه، وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً أي واسع الفضل عظيم المن حكيما في جميع أفعاله و أقداره و شرعه.
[سورة النساء (4): الآيات 131 الى 134]
يخبر تعالى أنه مالك السموات و الأرض و أنه الحاكم فيهما، و لهذا قال: وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أي وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى اللّه عز و جل بعبادته وحده لا شريك له. ثم قال: وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الآية كما قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لقومه إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم: 8]. و قال: فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن: 6] أي غني عن عباده، (حميد) أي محمود في جميع ما يقدره و يشرعه.
قوله: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي هو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب الشهيد على كل شيء. و قوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً أي هو قادر على إذهابكم و تبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، و كما قال: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38] و قال بعض السلف: ما أهون العباد على اللّه إذا أضاعوا أمره. و قال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ* [إبراهيم: 19- 20] أي و ما هو عليه بممتنع.
و قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ أي يا من ليس له همة إلا الدنيا، اعلم أن عند اللّه ثواب الدنيا و الآخرة، و إذا سألته من هذه أغناك و أعطاك و أقناك، كما قال تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ* وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ* أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة: 200- 202]، و قال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: 20]، و قال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ - إلى قوله- انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الإسراء: 18- 21] الآية، و قد زعم ابن جرير «1»
(1) تفسير الطبري 4/ 318.
تفسير القرآن العظيم، ج2، ص: 383
أن المعنى في هذه الآية مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا أي من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا و هو ما حصل من المغانم و غيرها مع المسلمين، و قوله:
وَ الْآخِرَةِ أي و عند اللّه ثواب الآخرة و هو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم و جعلها كقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها - إلى قوله- وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15- 16] و لا شك أن هذه الآية معناها ظاهر، و أما تفسير الآية الأولى بهذا ففيه نظر، فإن قوله:
فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ظاهر في حصول الخير في الدنيا و الآخرة أي بيده هذا و هذا، فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا و الآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر و النفع، و هو اللّه الذي لا إله إلا هو الذي قد قسم السعادة و الشقاوة بين الناس في الدنيا و الآخرة، و عدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا و ممن يستحق هذا. و لهذا قال: وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً
[سورة النساء (4): آية 135]
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يمينا و لا شمالا، و لا تأخذهم في اللّه لومة لائم و لا يصرفهم عنه صارف، و أن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه، و قوله: شُهَداءَ لِلَّهِ كما قال: وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ [الطلاق: 2] أي ليكن أداؤها ابتغاء وجه اللّه، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا خالية من التحريف و التبديل و الكتمان، و لهذا قال وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي اشهد الحق و لو عاد ضررها عليك، و إذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه و لو عادت مضرته عليك، فإن اللّه سيجعل لمن أطاعه فرجا و مخرجا من كل أمر يضيق عليه. و قوله: أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ أي و إن كانت الشهادة على والديك و قرابتك فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق و إن عاد ضررها عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد.
و قوله: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أي لا ترعاه لغناه و لا تشفق عليه لفقره، اللّه يتولاهما بل هو أولى بهما منك و أعلم بما فيه صلاحهما. و قوله: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا أي فلا يحملنكم الهوى و العصبية و بغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم و شؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8]، و من هذا القبيل قول عبد اللّه بن رواحة لما بعثه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يخرص على أهل خيبر ثمارهم و زروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: و اللّه لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي، و لأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة
تفسير القرآن العظيم، ج2، ص: 384
و الخنازير و ما يحملني حبي إياه، و بغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات و الأرض، و سيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة إن شاء اللّه تعالى.
و قوله: وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا قال مجاهد و غير واحد من السلف: تلووا، أي تحرفوا الشهادة و تغيروها، و اللي هو التحريف و تعمد الكذب، قال تعالى: وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ [آل عمران: 78]، و الإعراض هو كتمان الشهادة و تركها، قال تعالى: وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283] و قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» «1» و لهذا توعدهم اللّه بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي و سيجازيكم بذلك.
[سورة النساء (4): آية 136]
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان و شعبه و أركانه و دعائمه و ليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل من باب تكميل الكامل و تقريره و تثبيته و الاستمرار عليه، كما يقول المؤمن في كل صلاة اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] أي بصرنا فيه و زدنا هدى و ثبتنا عليه، فأمرهم بالإيمان به و برسوله، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ [الحديد: 28]. و قوله: وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ يعني القرآن، وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ و هذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة، و قال في القرآن:
نزل لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم و معادهم، و أما الكتب المتقدمة، فكانت تنزل جملة واحدة، لهذا قال تعالى: وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ، ثم قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً أي فقد خرج عن طريق الهدى و بعد عن القصد كل البعد.
[سورة النساء (4): الآيات 137 الى 140]
يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان، ثم رجع عنه، ثم عاد فيه، ثم رجع و استمر على ضلاله و ازداد حتى مات، فإنه لا توبة بعد موته و لا يغفر اللّه له و لا يجعل له مما هو فيه فرجا و لا مخرجا و لا طريقا إلى الهدى، و لهذا قال: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا . قال
(1) رواه أحمد في المسند 4/ 118 و 5/ 192 من حديث زيد بن خالد الجهني بلفظ: «خير الشهادة ما شهد بها صاحبها قبل أن يسألها».
تفسير القرآن العظيم، ج2، ص: 385
ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا حفص بن جميع عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال: تمموا على كفرهم حتى ماتوا، و كذا قال مجاهد. و روى ابن أبي حاتم من طريق جابر المعلى عن عامر الشعبي، عن علي رضي اللّه عنه، أنه قال: يستتاب المرتد ثلاثا، ثم تلا هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ، ثم قال: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني أن المنافقين من هذه الصفة، فإنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم، ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة يوالونهم و يسرون إليهم بالمودة، و يقولون لهم إذا خلوا بهم: إنما نحن معكم، إنما نحن مستهزئون، أي بالمؤمنين، في إظهارنا لهم الموافقة.
قال اللّه تعالى منكرا عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ، ثم أخبر اللّه تعالى بأن العزة كلها له وحده لا شريك له و لمن جعلها له، كما قال تعالى في الآية الأخرى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر: 10]. و قال تعالى: وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8]، و المقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب اللّه و الإقبال على عبوديته و الانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا، و يوم يقوم الأشهاد، و يناسب هنا أن نذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد «1» : حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أبو بكر بن عياش بن حميد الكندي، عن عبادة بن نسيء، عن أبي ريحانه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا و فخرا، فهو عاشرهم في النار» تفرد به أحمد، و أبو ريحانة هذا هو أزدي، و يقال أنصاري، و اسمه شمعون، بالمعجمة، فيما قاله البخاري، و قال غيره: بالمهملة، و اللّه أعلم.
و قوله: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ، أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم و رضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات اللّه و يستهزأ و ينتقص بها و أقررتموهم على ذلك، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه، فلهذا قال تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ في المأثم، كما جاء في الحديث «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر، فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر» و الذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك هو قوله تعالى في سورة الأنعام، و هي مكية وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام:
68]، قال مقاتل بن حيان: نسخت هذه الآية التي في سورة الأنعام، يعني نسخ قوله: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ لقوله- وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَ لكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام: 69].
(1) مسند أحمد 4/ 133.
تفسير القرآن العظيم، ج2، ص: 386
و قوله: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً أي كما أشركوهم في الكفر كذلك يشارك اللّه بينهم في الخلود في نار جهنم أبدا و يجمع بينهم في دار العقوبة و النكال و القيود و الأغلال و شراب الحميم و الغسلين لا الزلال.
[سورة النساء (4): آية 141]
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء بمعنى ينتظرون زوال دولتهم و ظهور الكفر عليهم و ذهاب ملتهم، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ أي نصر و تأييد و ظفر و غنيمة قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة، وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أي إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان كما وقع يوم أحد، فإن الرسل تبتلى ثم يكون لها العاقبة قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ساعدناكم في الباطن، و ما ألوناهم خبالا و تخذيلا حتى انتصرتم عليهم، و قال السدي: نستحوذ عليكم نغلب عليكم، كقوله: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ [المجادلة: 19] و هذا أيضا تودد منهم إليهم، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء و هؤلاء ليحظوا عندهم و يأمنوا كيدهم، و ما ذاك إلا لضعف إيمانهم و قلة إيقانهم، قال تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي بما يعلمه منكم أيها المنافقون من البواطن الرديئة فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهرا في الحياة الدنيا، لما له في ذلك من الحكمة، فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم بل هو يوم تبلى فيه السرائر و يحصل ما في الصدور.
و قوله: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن الأعمش، عن ذر، عن سبيع الكندي، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذه الآية وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فقال علي رضي اللّه عنه: ادنه ادنه، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ، و كذا روى ابن جريج عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ، قال: ذاك يوم القيامة، و كذا روى السدي عن أبي مالك الأشجعي، يعني يوم القيامة. و قال السدي: سبيلا أي حجة، و يحتمل أن يكون المعنى و لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا، أي في الدنيا بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، و إن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا و الآخرة، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [غافر: 51]، و على هذا يكون ردا على المنافقين فيما أملوه و رجوه و انتظروه من زوال دولة المؤمنين، و فيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفا
تفسير القرآن العظيم، ج2، ص: 387
على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كما قال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ - إلى قوله- نادِمِينَ [المائدة: 52] و قد استدل كثير من العلماء بهذا الآية الكريمة على أصح قولي العلماء، و هو المنع من بيع العبد المسلم للكافر، لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه و الإذلال، و من قال منهم بالصحة، يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال لقوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا .
[سورة النساء (4): الآيات 142 الى 143]
قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 9]، و قال هاهنا: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ و لا شك أن اللّه لا يخادع، فإنه العالم بالسرائر و الضمائر، و لكن المنافقين لجهلهم و قلة علمهم و عقلهم يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس و جرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا، فكذلك يكون حكمهم عند اللّه يوم القيامة و أن أمرهم يروج عنده كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة و السداد، و يعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده، كما قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة: 18]، و قوله: هُوَ خادِعُهُمْ أي هو الذي يستدرجهم في طغيانهم و ضلالهم، و يخذلهم عن الحق و الوصول إليه في الدنيا، و كذلك يوم القيامة، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ - إلى قوله- وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد: 13] و قد ورد في الحديث «من سمّع سمّع اللّه به، و من رأيا رأيا اللّه به» «1» . و في حديث آخر «إن اللّه يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس و يعدل به إلى النار».
عياذا باللّه من ذلك.
و قوله: وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى الآية، هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال و أفضلها و خيرها، و هي الصلاة إذا قاموا إليها، قاموا و هم كسالى عنها، لأنهم لا نية لهم فيها و لا إيمان لهم بها و لا خشية، و لا يعقلون معناها كما روى ابن مردويه من طريق عبيد اللّه بن زحر عن خالد بن أبي عمران عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، قال: يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة و هو كسلان، و لكن يقوم إليها طلق الوجه عظيم الرغبة شديد الفرح، فإنه يناجي اللّه و إن اللّه تجاهه يغفر له و يجيبه إذا دعاه، ثم يتلو هذه الآية وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى و روي من غير هذا الوجه عن ابن عباس نحوه، فقوله تعالى: وَ إِذا قامُوا