کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 129
أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال: نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بأعرابي فأكرمه، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «تعاهدنا؟» فأتاه الأعرابي، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «ما حاجتك؟» قال: ناقة برحلها و أعنز يحتلبها أهلي، فقال «أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟» فقال له أصحابه: و ما عجوز بني إسرائيل يا رسول اللّه؟ قال «إن موسى عليه السلام لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: نحن نحدثك أن يوسف عليه السلام لما حضرته الوفاة أخذ علينا موثقا من اللّه أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى: فأيكم يدري أين قبر يوسف؟ قالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل.
فأرسل إليها فقال لها: دليني على قبر يوسف، فقالت: و اللّه لا أفعل حتى تعطيني حكمي، فقال لها: و ما حكمك؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة، فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له: أعطها حكمها- قال- فانطلقت معهم إلى بحيرة- مستنقع ماء- فقالت لهم: انضبوا هذا الماء، فلما أنضبوه قالت: احفروا، فلما حفروا استخرجوا قبر يوسف، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار» و هذا حديث غريب جدا، و الأقرب أنه موقوف، و اللّه أعلم.
فلما أصبحوا و ليس في ناديهم داع و لا مجيب، غاظ ذلك فرعون، و اشتد غضبه على بني إسرائيل لما يريد اللّه به من الدمار، فأرسل سريعا في بلاده حاشرين، أي من يحشر الجند و يجمعه كالنقباء و الحجاب، و نادى فيهم إِنَّ هؤُلاءِ يعني بني إسرائيل لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ أي لطائفة قليلة وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي كل وقت يصل منهم إلينا ما يغيظنا وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، و إني أريد أن أستأصل شأفتهم، و أبيد خضراءهم، فجوزي في نفسه و جنده بما أراد لهم، قال اللّه تعالى: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ أي فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم، و تركوا تلك المنازل العالية و البساتين و الأنهار و الأموال و الأرزاق، و الملك و الجاه الوافر في الدنيا كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ كما قال تعالى: وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف: 137] الآية، و قال تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص: 5- 6] الآيتين.
[سورة الشعراء (26): الآيات 60 الى 68]
ذكر غير واحد من المفسرين أن فرعون خرج في جحفل عظيم و جمع كبير، هو عبارة عن
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 130
مملكة الديار المصرية في زمانه، أولي الحل و العقد و الدول من الأمراء و الوزراء و الكبراء و الرؤساء و الجنود، فأما ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات من أنه خرج في ألف ألف و ستمائة ألف فارس، منها مائة ألف على خير دهم، و قال كعب الأحبار: فيهم ثمانمائة ألف حصان أدهم، و في ذلك نظر، و الظاهر أن ذلك من مجازفات بني إسرائيل، و اللّه سبحانه و تعالى أعلم، و الذي أخبر به القرآن هو النافع، و لم يعين عدتهم إذ لا فائدة تحته، إلا أنهم خرجوا بأجمعهم.
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس، و هو طلوعها، فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي رأى كل من الفريقين صاحبه، فعند ذلك قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ و ذلك أنهم انتهى بهم السير إلى سيف البحر، و هو بحر القلزم، فصار أمامهم البحر و قد أدركهم فرعون بجنوده، فلهذا قالوا إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي لا يصل إليكم شيء مما تحذرون، فإن اللّه سبحانه هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم، و هو سبحانه و تعالى لا يخلف الميعاد، و كان هارون عليه السلام في المقدمة، و معه يوشع بن نون، و مؤمن آل فرعون، و موسى عليه السلام في الساقة، و قد ذكر غير واحد من المفسرين أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون، و جعل يوشع بن نون أو مؤمن آل فرعون، يقول لموسى عليه السلام:
يا نبي اللّه هاهنا أمرك ربك أن تسير؟ فيقول، نعم، فاقترب فرعون و جنوده و لم يبق إلا القليل، فعند ذلك أمر اللّه نبيه موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر، فضربه و قال: انفلق بإذن اللّه.
و روى ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد، حدثنا محمد بن حمزة بن محمد بن يوسف عن عبد اللّه بن سلام أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر قال: يا من كان قبل كل شيء، و المكون لكل شيء، و الكائن بعد كل شيء، اجعل لنا مخرجا، فأوحى اللّه إليه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ . و قال قتادة: أوحى اللّه تلك الليلة إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فاسمع له و أطع، فبات البحر تلك الليلة و له اضطراب، و لا يدري من أي جانب يضربه موسى، فلما انتهى إليه موسى، قال له فتاه يوشع بن نون:
يا نبي اللّه أين أمرك ربك عز و جل؟ قال: أمرني أن أضرب البحر، قال: فاضربه. و قال محمد بن إسحاق، أوحى اللّه- فيما ذكر لي- إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له، قال: فبات البحر يضطرب و يضرب بعضه بعضا فرقا من اللّه تعالى، و انتظارا لما أمره اللّه، و أوحى اللّه إلى موسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضربه بها، ففيها سلطان اللّه الذي أعطاه، فانفلق، ذكر غير واحد أنه جاء فكناه، فقال: انفلق عليّ أبا خالد بحول اللّه.
قال اللّه تعالى: فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي كالجبل الكبير، قاله ابن مسعود و ابن عباس و محمد بن كعب و الضحاك و قتادة و غيرهم. و قال عطاء الخراساني: هو
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 131
الفج بين الجبلين. و قال ابن عباس صار البحر اثني عشر طريقا لكل سبط طريق، و زاد السدي:
و صار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض، و قام الماء على حيلة كالحيطان. و بعث اللّه الريح إلى قعر البحر فلفحته، فصار يبسا كوجه الأرض، قال اللّه تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى [طه: 77]. و قال في هذه القصة وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي هنا لك. قال ابن عباس و عطاء الخراساني و قتادة و السدي وَ أَزْلَفْنا أي قربنا من البحر فرعون و جنوده، و أدنيناهم إليه وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي أنجينا موسى و بني إسرائيل و من اتبعهم على دينهم، فلم يهلك منهم احد، و أغرق فرعون و جنوده فلم يبق منهم رجل إلا هلك.
و روى ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا شبابة، حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد اللّه هو ابن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون ذلك، فأمر بشاة فذبحت، و قال: لا و اللّه لا يفرغ من سلخها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط، فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر، فقال له: انفرق، فقال له البحر: قد استكبرت يا موسى، و هل انفرقت لأحد من ولد آدم، فأنفرق لك؟ قال، و مع موسى رجل على حصان له، فقال له ذلك الرجل، أين أمرت يا نبي اللّه؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه، قال: و اللّه ما كذب و لا كذبت، ثم اقتحم الثانية فسبح ثم خرج، فقال: أين أمرت يا نبي اللّه؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه. قال: و اللّه ما كذب و لا كذبت، قال: فأوحى اللّه إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه موسى بعصاه، فانفلق، فكان فيه اثنا عشر سبطا لكل سبط طريق يتراءون، فلما خرج أصحاب موسى، و تتام أصحاب فرعون، التقى البحر عليهم فأغرقهم.
و في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد اللّه قال: فلما خرج آخر أصحاب موسى، و تكامل أصحاب فرعون، انطم عليهم البحر، فما رئي سواد أكثر من يومئذ، و غرق فرعون لعنه اللّه، ثم قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي في هذه القصة و ما فيها من العجائب و النصر و التأييد لعباد اللّه المؤمنين، لدلالة و حجة قاطعة و حكمة بالغة وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ تقدم تفسيره.
[سورة الشعراء (26): الآيات 69 الى 77]
هذا إخبار من اللّه تعالى عن عبده و رسوله و خليله إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء، أمر اللّه تعالى رسوله محمدا صلى اللّه عليه و سلم أن يتلوه على أمته ليقتدوا به في الإخلاص و التوكل، و عبادة اللّه وحده
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 132
لا شريك له، و التبري من الشرك و أهله، فإن اللّه تعالى آتى إبراهيم رشده من قبل، أي من صغره إلى كبره، فإنه من وقت نشأ و شب أنكر على قومه عبادة الأصنام مع اللّه عز و جل إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ أي ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي مقيمين على عبادتها و دعائها قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ يعني اعترفوا بأن أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك، و إنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون، فهم على آثارهم يهرعون، فعند ذلك قال لهم إبراهيم أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ أي إن كانت هذه الأصنام شيئا و لها تأثير، فلتخلص إلي بالمساءة، فإني عدو لها لا أبالي بها و لا أفكر فيها.
و هذا كما قال تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ [يونس:
71] الآية، و قال هود عليه السلام إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 54- 56] و هكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم فقال وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ [الأنعام: 81] الآية. و قال تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ - إلى قوله- حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4] و قال تعالى: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني لا إله إلا اللّه.
[سورة الشعراء (26): الآيات 78 الى 82]
يعني لا. أعبد إلا الذي يفعل هذه الأشياء الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أي هو الخالق الذي قدر قدرا، و هدى الخلائق إليه، فكل يجري على ما قدر له، و هو الذي يهدي من يشاء و يضل من يشاء وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ أي هو خالقي و رازقي بما سخر و يسر من الأسباب السماوية و الأرضية، فساق المزن، و أنزل الماء و أحيا به الأرض، و أخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد، و أنزل الماء عذبا زلالا وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً .
و قوله وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أسند المرض إلى نفسه، و إن كان عن قدر اللّه و قضائه و خلقه، و لكن أضافه إلى نفسه أدبا، كما قال تعالى آمرا للمصلي أن يقول اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخر السورة، فأسند الأنعام و الهداية إلى اللّه تعالى، و الغضب حذف فاعله أدبا، و أسند الضلال إلى العبيد، كما قالت الجن وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن: 10] و كذا قال إبراهيم وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أي إذا وقعت في
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 133
مرض، فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ أي هو الذي يحيي و يميت لا يقدر على ذلك أحد سواه، فإنه هو الذي يبدئ و يعيد وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أي لا يقدر على غفران الذنوب في الدنيا و الآخرة إلا هو، و من يغفر الذنوب إلا اللّه، و هو الفعال لما يشاء.
[سورة الشعراء (26): الآيات 83 الى 89]
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
و هذا سؤال من إبراهيم عليه السلام أن يؤتيه ربه حكما. قال ابن عباس: و هو العلم. و قال عكرمة: هو اللب، و قال مجاهد: هو القرآن. و قال السدي: هو النبوة. و قوله وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي اجعلني مع الصالحين في الدنيا و الآخرة، كما قال النبي صلى اللّه عليه و سلم عند الاحتضار «اللهم في الرفيق الأعلى» «1» قالها ثلاثا. و في الحديث في الدعاء «اللهم أحينا مسلمين، و أمتنا مسلمين، و ألحقنا بالصالحين غير خزايا و لا مبدلين» «2» و قوله وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي و اجعل لي ذكرا جميلا بعدي أذكر به و يقتدى بي في الخير، كما قال تعالى:
وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 108- 110].
قال مجاهد و قتادة وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ يعني الثناء الحسن. قال مجاهد: كقوله تعالى وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [النحل: 122] الآية، و كقوله وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا [العنكبوت: 27] الآية، قال ليث بن أبي سليم: كل ملة تحبه و تتولاه، و كذا قال عكرمة. و قوله تعالى: وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي نعم عليّ في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي، و في الآخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم. و قوله وَ اغْفِرْ لِأَبِي الآية، كقوله رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ [إبراهيم: 41] و هذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ - إلى قوله- إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 114] و قد قطع تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه فقال تعالى:
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ - إلى قوله- وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة: 4].
و قوله: وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي أجرني من الخزي يوم القيامة يوم يبعث الخلائق أولهم و آخرهم. و قال البخاري عند هذه الآية: قال إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب عن
(1) أخرجه البخاري في الرقاق باب 42، و مسلم في السلام حديث 46.
(2) أخرجه أحمد في المسند 3/ 423.
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 134
سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال «إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة و القترة» «1» . و في رواية أخرى: حدثنا إسماعيل، حدثنا أخي عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال «يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنك وعدتني أنك لا تخزيني يوم يبعثون، فيقول اللّه تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين» «2» هكذا رواه عند هذه الآية. و في أحاديث الأنبياء بهذا الإسناد بعينه منفردا به، و لفظه «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، و على وجه آزر قترة و غبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصيني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقول اللّه تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم انظر تحت رجلك، فينظر، فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» و قال عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه الكبير.
و قوله وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أخبرنا أحمد بن حفص بن عبد اللّه، حدثني أبي، حدثني إبراهيم بن طهمان عن محمد بن عبد الرحمن، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة و القترة، و قال له: قد نهيتك عن هذا فعصيتني، قال: لكني اليوم لا أعصيك واحدة، قال: يا رب وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فإن أخزيت أباه فقد أخزيت الأبعد. قال: يا إبراهيم إني حرمتها على الكافرين فأخذ منه. قال: يا إبراهيم أين أبوك؟ قال: أنت أخذته مني، قال: انظر أسفل منك، فنظر، فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه، فأخذ بقوائمه فألقي في النار» و هذا إسناد غريب، و فيه نكارة، و الذيخ هو الذكر من الضباع، كأنه حول آزر إلى صورة ذيخ متلطخ بعذرته فيلقى في النار كذلك، و قد رواه البزار بإسناده من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم و فيه غرابة، و رواه أيضا من حديث قتادة عن جعفر بن عبد الغافر عن أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه و سلم بنحوه.
و قوله يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ أي لا يقي المرء من عذاب اللّه ماله و لو افتدى بملء الأرض ذهبا وَ لا بَنُونَ أي و لو افتدى بمن على الأرض جميعا، و لا ينفع يومئذ إلا الإيمان باللّه و إخلاص الدين له، و التبري من الشرك و أهله، و لهذا قال إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي سالم من الدنس و الشرك. قال ابن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن اللّه حق، و أن الساعة آتية لا ريب فيها، و أن اللّه يبعث من في القبور. و قال ابن عباس إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ حيي أن يشهد أن لا إله إلا اللّه. و قال مجاهد و الحسن و غيرهما بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يعني من الشرك. و قال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو القلب الصحيح، و هو قلب المؤمن، لأن
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء باب 26، في الترجمة.
(2) أخرجه البخاري في الأنبياء باب 8.
تفسير القرآن العظيم، ج6، ص: 135
قلب المنافق مريض، قال اللّه تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ* . قال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب السالم من البدعة، المطمئن إلى السنة.
[سورة الشعراء (26): الآيات 90 الى 104]
أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قربت و أدنيت من أهلها مزخرفة مزينة لناظريها، و هم المتقون الذين رغبوا فيها على ما في الدنيا، و عملوا لها في الدنيا وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ أي أظهرت و كشف عنها، و بدت منها عنق فزفرت زفرة بلغت منها القلوب الحناجر، و قيل لأهلها تقريعا و توبيخا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ أي ليست الآلهة التي عبدتموها من دون اللّه من تلك الأصنام و الأنداد تغني عنكم اليوم شيئا، و لا تدفع عن أنفسها، فإنكم و إياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون.
و قوله فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ قال مجاهد: يعني فدهوروا فيها. و قال غيره: كبّبوا فيها، و الكاف مكررة، كما يقال صرصر، و المراد أنه ألقى بعضهم على بعض من الكفار و قادتهم الذين دعوهم إلى الشرك وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ أي ألقوا فيها عن آخرهم قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي يقول الضعفاء للذين استكبروا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ [غافر: 47] و يقولون و قد عادوا على أنفسهم بالملامة تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي نجعل أمركم مطاعا كما يطاع أمر رب العالمين، و عبدناكم مع رب العالمين وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أي ما دعانا إلى ذلك إلا المجرمون فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ قال بعضهم: يعني من الملائكة كما يقولون فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الأعراف: 53] و كذا قالوا فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أي قريب.
قال قتادة: يعلمون و اللّه أن الصديق إذا كان صالحا نفع، و أن الحميم إذا كان صالحا شفع «1» فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و ذلك أنهم يتمنون أن يردوا إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون، و اللّه تعالى يعلم أنهم لو ردّهم إلى دار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون، و قد أخبر اللّه تعالى عن تخاصم أهل النار في سورة (ص) ثم قال تعالى:
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] ثم قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ