کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن الكريم، ج1، ص: 95
و لهذا اقتصر إدراكها على ما يخصّها و لا يتجاوز عنه إلى المحسوسات الأربع الباقية و لخلوص القوّة المتخيّلة عن هذه الكيفيّات المحسوسة كلّها أدركت الجميع و أحضرتها لأنّ جوهر النفس الخياليّة غير مبصرة و لا مسموعة و لا مشمومة و لا مذوقة و لا ملموسة و لها قوّة قبول هذه الأشياء كلّها فلا جرم تقبلها كلّها.
و منها: إنّ ملكة العدالة النفسانية التي هي عبارة عن توسّط النفس الإنسانيّة في الشهوة بين الفجور و الخمود و في الغضب بين الجبن و التهوّر و في القوّة الإدراكيّة بين الجربزة و البلاهة لمّا كانت بمنزلة كون النفس خالية عن الاتّصاف بهذه الصفات الستّة التي كلّ منها هيئة نفسانيّة شاغلة إيّاها إذا كانت راسخة عن طلب الحقّ و سلوك الآخرة صارت بسببها مستعدّة للكمال العلمي، لأنّها عند انكسار هذه القوى و انقهارها عن طلب مشتهياتها و مقتضياتها تخلص عن انقيادها و طاعتها فيقع لها بقوّة عقلها الهيولاني- هيئة استعلائيّة عليها و قوّة نوريّة استعداديّة لطاعة الحقّ و انقياده و قبول أنوار المعارف الإلهيّة و أسرار المقاصد الربوبيّة فيصير عقله المنفعل علّامة بالحق مطيعا للّه تعالى.
فإذا علمت حال هذه الأمثلة فقس عليها حال السالك العارف باللّه عند عدم التفاته بما سواه و عند كونه غير مشغول السرّ بغير اللّه و غير متبجح بزينة ذاته من حيث هي ذاته و إن كانت بصورة المعرفة و هيئة العبوديّة بل مع غيبته 80 عن ذاته و غيبته عن غيبة ذاته و فنائه عن فنائه و حينئذ يكون باقيا ببقاء اللّه 81 فوق ما كان باقيا بابقاء اللّه 82 كما كان قبل الوصول و هذا هو مقام الفناء في التوحيد و المحو و إليه الإشارة بقوله: إيّاك نعبد.
فإذا بقي في هذا المحو و لم يرجع إلى الصحو كان مستغرقا في الحقّ محجوبا بالحقّ عن الخلق كما كان قبل ذلك محجوبا بالخلق عن الحقّ لضيق وعائه الوجودي و امتناع قبوله التجلّي الذاتي الشهودي فكذلك الموجود في مقام هذا التجلّى و الشهود احتجب
تفسير القرآن الكريم، ج1، ص: 96
التفصيل عن شهوده و اضمحلّت الكثرة في وجوده ما زاغ بصره عن مشاهدة جماله و سبحات نور جلاله لاستغراقه في بحر التوحيد فلا ينظر إلى ما سواه و لا يستعين إلّا إيّاه فيقول عند ذلك: إيّاك نستعين. أي في مشاهدة آلائك بمشاهدة ذاتك و صفاتك فحينئذ يرجع من الحقّ بالحقّ 83 84 إلى الخلق و هذا هو السفر الثالث من الأسفار الأربعة الواقعة من الكاملين المكملين.
فإذا رجع بالوجود الحقّاني الموهوب إلى حالة الصحو بعد المحو و انشرح صدره و وسع الحقّ و الخلق صار منتصبا في مقام الاستقامة كما أمر اللّه به الرسول- صلّى اللّه عليه و آله في قوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [81/ 112] متوسّطا في صراط الحقّ بين التشبيه و التعطيل، ناظرا بعين الجمع إلى التفصيل و إليه الإشارة بقوله: اهدنا الصراط المستقيم.
و ذلك هو الفوز العظيم و المنّ الجسيم فقوله: ايّاك نعبد إشارة إلى مقام السلوك إلى اللّه و التقرّب إليه بالعبوديّة التامّة له و هي مرتبة الولاية المشار إليها في قوله: «1» لا يزال يتقرّب العبد إليّ بالنوافل حتّى أحببته. و قوله: و ايّاك نستعين. إشارة إلى مقام الصحو بعد المحو و هي مرتبة النبوة، المشار إليها في قوله تعالى: فإذا أحببته كنت سمعه و بصره 85 و يده و رجله- الحديث.
بصيرة [سر تقديم العبادة على الاستعانة]
قيل: قدّمت 86 العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤس الآي. و قيل: إنّ العبادة وسيلة لطلب الحاجة و تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة و أسرع للقبول.
(1) راجع التوحيد للصدوق (ره): 400. و البخاري: 8/ 131.
تفسير القرآن الكريم، ج1، ص: 97
و أقول: لمّا علمت إنّ أشرف مراتب الإنسان بما هو إنسان و أجلّ مقاماته تحصيل نسبة الإمكان و الافتقار إليه سبحانه بالعبادة و العبوديّة و لهذا قدّم ذكر العبوديّة على ذكر الرسالة في قولك: أشهد انّ محمدا عبده و رسوله 87 و ذلك لأن الاولى عبارة عن نسبة العبد إليه تعالى و الثانية عبارة عن نسبته إلى الخلق فالاولى يكون أقدم من الثانية بالشرف و إن كان الرسول أفضل من الوليّ لكونه جامعا للمنزلتين جميعا فكذلك الكلام هاهنا فإنّ العبادة لكونها وسيلة إلى الحقّ أشرف من الاستعانة لكونها وسيلة إلى الخلق.
و اعلم إنّ في تقديم العبوديّة على الرسالة في التشهّد وجها آخر و هو إنّ لكلّ من الولاية و النبوّة حدوثا و بقاء فالولاية أقدم حدوثا و أدوم بقاء من الرسالة فناسب التقدم الوضعي للتقديم الزماني.
وجه آخر
قيل لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه كأنّه أوهم ذلك تبجحا بزينة ذاته من جهة نسبة العبادة و اعتدادا منه بما يصدر عنه. فعقّبه بقوله إيّاك نستعين ليدل على أن العبادة أيضا مما لا يتمّ و لا يستتبّ إلّا بمعونة منه و توفيق و قيل الواو للحال. 88
تفسير القرآن الكريم، ج1، ص: 98
قوله جل اسمه: [سورة الفاتحة (1): آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
الهداية لغة الإرشاد بلطف و لهذا يستعمل في الخير لا في الشر و قوله تعالى:
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [37/ 23] يحتمل أن يكون على سبيل التحكّم 89 90 و منه الهديّة و هوادي الوحش 91 لمقدّماتها و الفعل منه هدى.
و قيل: معناه الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب و نقض بقوله إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [28/ 56] و قيل: بل الدلالة الموصلة إلى المطلوب و هو أيضا منقوض بقوله وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [41/ 17] و الحمل على المجاز في كل منهما و الحقيقة في الاخرى متصوّر.
و قيل: إنّه تارة يتعدّى بنفسها و تارة باللام أو بإلى كما في قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17/ 9] و قوله: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [42/ 52] و معناه على الاول الإيصال و على الأخيرين إرائة الطريق.
و في الكشاف «1» : إنّ أصله أن يعدى باللام أو إلى فعومل معاملة «اختار» في قوله تعالى:
وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [7/ 155].
و الصراط: الطريق الواضح المتّسع و أصله السين لأنه من سرط الطعام إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة «2» و لهذا سمّي لقما لأنّه يلتقمهم فمن قرء بالسين كابن كثير برواية قنبل و رويس عن يعقوب راعى الأصل، و من قرء بالصاد فلما بين الصاد و الطاء من المواخاة في
(1) الكشاف: في تفسير الاية: 1/ 53.
(2) السابلة: المارة.
تفسير القرآن الكريم، ج1، ص: 99
الاطباق و الاستعلاء كقولهم مصيطر في مسيطر.
و قرء حمزة بإشمام الصاد الزاي ليكون أقرب إلى المبدل عنه إذ قد يشمّ الصاد صوت الزاي و فصحاهنّ اخلاص الصاد و هي لغة قريش و يجمع على «فعل» ككتاب على كتب و يستوي فيه المذكّر و المؤنث كالطريق و السبيل.
و اعلم إنّ الأمر و الدعاء يتشاركان صيغة و معنى لأنّ كلّا منهما طلب و إنّما يتفاوتان بالاستعلاء و التسفّل أو بالرتبة. و أمّا معنى هذا الدعاء ففيه وجوه:
منها: إنّ معناه ثبّتنا على الدين الحقّ لأن اللّه قد هدى الخلق كلّهم إلى الصراط.
أي طريق الحقّ من ملّة الإسلام إلّا انّ الإنسان قد تزلّ قدمه عن جادته و ترد عليه الخواطر الرديّة فيحسن منه أن يسأل اللّه التثبّت على دينه و الزيادة على هذا كما قال اللّه تعالى:
وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [47/ 17] و هذا كقولك لمن يأكل الطعام عندك:
كل أي: دم على أكله.
و منها: إن المراد دلّنا على الدين الحقّ في مستقبل العمر، كما دللتنا عليه في الماضي و يجوز الدعاء بالشيء الذي يكون حاصلا كقوله تعالى: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ [21/ 112] و ليس فيه تحصيل للحاصل. 92 و منها: إنّ نفس الدعاء 93 عبادة شريفة من جملة العبادات و فيه اظهار للانقطاع إليه تعالى، و يجوز أن يكون لنا فيه مصلحة من الخضوع و الخشوع و التذلّل و سائر ما يوجب تليين القلوب و التبتّل إليه فتحسن المسألة.
و قيل في معنى الصراط المستقيم وجوه:
أحدها:
إنّه كتاب اللّه 94 و هو المروي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و عن على عليه السلام
تفسير القرآن الكريم، ج1، ص: 100
و ابن مسعود «1» .
و ثانيها: إنّه الإسلام و هو المرويّ عن جابر و ابن عبّاس.
و ثالثها: إنّه دين اللّه الذي لا يقبل غيره عن محمد بن الحنفيّة.
و الرابع:
إنّه النبيّ و الأئمة القائمون مقامه و هو المروي «2» في أخبار أصحابنا و المأثور من أئمّتنا و أنوارنا 95 عليهم السلام.
و الأولى حمل الآية 96 على العموم ليكون أجمع و أشبه 97 منه بكلام من له الأحديّة الجمعيّة.
قال بعض المحقّقين: هداية اللّه يتنوّع أنواعا لا يحصيها عدّ لكنّها في أجناس مرتبة.
الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكّن المرء من الاهتداء إلى مصالحه. كالقوّة العقليّة و الحواسّ الباطنة و المشاعر الظاهرة كما في قوله: الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [20/ 50] و الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحقّ و الباطل في الاعتقادات و الصلاح و الفساد في الأعمال حيث قال: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [90/ 10] و قال فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [41/ 17] و الثالث: الهداية بإرسال الرسل و إنزال الكتب و ايّاها عنى بقوله: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [21/ 73] و قوله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ و الرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر و يريهم الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام و المنامات الصادقة و هذا القسم يختصّ بنيله الأنبياء و الأولياء و إيّاه عنى بقوله:
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [6/ 90] و قوله:
(1) الدر المنثور: 1/ 15.
(2) نور الثقلين: 1/ 21.
تفسير القرآن الكريم، ج1، ص: 101
وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [29/ 69] فالمطلوب هاهنا إمّا زيادة ما منحوه من الهدى أو الثبات عليه أو حصول المراتب المرتّبة عليه، فإذا قال العارف الواصل: اهدنا عنى أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنّا ظلمات أحوالنا و تميط غواشي أبداننا لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك.
مكاشفة [الصراط و مرور الإنسان عليه]
اعلم إنّ معرفة حقيقة الصراط و استقامتها و المرور عليه و الضلال عنه من المعارف القرآنيّة التي يختص بدركها أهل المكاشفة و المشاهدة و ليس لغيرهم من سائر المسلمين إلّا مجرّد التصديق و الإذعان به تسليما و ايمانا بالغيب لا ببصيرة حاصلة من نور اليقين و نعم ما قيل: من لا كشف له لا علم له.
و اللمعة اليسيرة من هذا العلم: