کتابخانه تفاسیر
تفسير القرآن الكريم، ج4، ص: 321
لرضاهم بما هم فيه، فإن استعدادهم يطلب ذلك، كالاتوني الذي يفتخر بما هو فيه، و عظم عذابه بالنّسبة إلى من يعرف أن وراء مرتبتهم مرتبة، و أن ما هم فيه عذاب بالنسبة إليها.
و أنواع العذاب غير مخلّد على أهله من حيث أنّه عذاب، لانقطاعه بشفاعة الشافعين
«و آخر من يشفع هو أرحم الراحمين» كما جاء في الحديث الصحيح
، لذلك ينبت الجرجير في قعر جهنم لانطفاء النار و انقطاع العذاب، و بمقتضى
«سبقت رحمتي غضبي»
فظاهر الآيات التي جاء في حقّهم بالتعذيب كلها حقّ، و كلام الشيخ- رضي اللّه عنه- لا ينافي ذلك، لأن كون الشيء من وجه عذابا، لا ينافي كونه من وجه آخر عذبا «1» .
(1) و ليعلم ان المصنف- قدس سره- في كتابه «الحكمة العرشية»- الذي قيل انه آخر مصنفاته- صرح بدوام الخلود و تسرمد العذاب حيث قال:
«و أما أنا و الذي لاح لي بما أنا مشتغل به من الرياضات العلمية و العملية ان الجحيم ليست بدار نعيم، و انما هي موضع الألم و المحن، و فيها العذاب الدائم، و لكن آلامها متفننة متجددة على الاستمرار بلا انقطاع، و الجلود فيها متبدلة و ليست هناك موضع راحة و اطمئنان».
و كما أشار في أواسط المنظر الرابع بقوله: «فيجب على طالب الايمان على سبيل التقليد أن لا يشك فيه حتى ينكشف له حقيقة الامر و يظهر له السر المصون ...» (خواجوى)
تفسير القرآن الكريم، ج4، ص: 322
المنظر الخامس في ذكر جملة من خواص أولياء اللّه و علاماتهم و خواص أولياء الطاغوت و علاماتهم. ليعرف الإنسان أحوال المؤمن الحقيقي من أحوال المنافق، لينكشف لمّية كون أحدهما من أهل اللّه و أهل النور، و كون الثاني من أهل الطاغوت و أهل النار
أما أحوال أولياء اللّه- و هم المؤمنون حقا- فمنها ما ذكره اللّه تعالى بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [8/ 2] معناه أن المؤمن الحقيقي و العارف اليقيني الذي كتب اللّه بقلم العناية في قلبه الايمان، و أيّده بروح منه فهو على نور من ربّه، فإذا ذكر اللّه و جل قلبه فإن وجل القلب عند سماع ذكر اللّه من خصوصية المعرفة و الحكمة باللّه و صفاته و أفعاله، إذ الحكمة هي النور المنبسط الايمانى الذي قذف اللّه في قلوبهم، و من شأن نور الايمان أن يرقّ القلب و يصفيه عن كدورات صفات النفس و ظلمتها، و يلين قسوته فتلين إلى ذكر اللّه و يحنّ شوقا إلى اللّه.
و هذا حال أهل البدايات، أمّا حال أهل النهايات فهي الطمأنينة و السكون بالذكر، لقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [13/ 28].
و
قال صلّى اللّه عليه و آله- فيما روي عنه-: «ان أحب القلوب إلى اللّه أصلبها في دين اللّه و أصفاها عن الذنوب، و أرّقها على الإخوان، و إذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا»
فجعل من شروط الايمان الحاصل في القلوب ازدياده عن سماع القرآن
تفسير القرآن الكريم، ج4، ص: 323
و تلاوته، لاشتماله على ذكر اللّه و المعارف الإلهيّة.
و ذلك لأن الايمان الحقيقي هو النور الواقع في القلوب بقدر انفتاح روزنة القلوب من أنوار تجلّي شموس صفاته و حقائق أفعاله للقلوب المشتاقة فيكون وجوه قلوبهم الخالية (الناظرة- ن) من دنس حب الدنيا بسبب ذلك النور إلى ربّها و حبيبها ناظرة؛ فإن «الايمان يجرّ بعضه إلى بعض» و «بالمعرفة يكتسب المعرفة» فكلّما تليت على أصحابها الآيات أو تلوها أو ذكر اللّه أو ذكروه، زاد انفتاح (انفساخ- ن) روزنتها بقدر صدقها و شوقها و مناسبتها، فيزيد فيها نور الايمان فيزدادوا ايمانا مع ايمانهم.
و على ربّهم يتوكّلون: يعني فحينئذ على ربّهم يتوكّلون، لا على الدنيا و أهلها، فإن من شاهد جمال الحقّ و جلاله بنور الايمان فقد استغرق في بحر سطوات جلاله، فيكون توكّلهم عليه لا على غيره. و منها- ما وصفهم اللّه بقوله وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [11/ 29] يعني: إن المؤمن من يكون درجته درجة الملائكة المقرّبين الذين يلاقون ربّهم من فوقهم، لا واسطة بينهم و بين ربّهم، و ذلك لارتقائهم عن عالم الطبيعة بجناحي العلم و العمل إلى جوار اللّه.
و من العلامات المختصّة بهم ما ذكره تعالى مخاطبا لإبليس اللعين:
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [15/ 42] و حكى أيضا قول إبليس محاربا للّه جلّت عظمته: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [15/ 40].
و منها ما وصفهم بقوله تعالى وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً إلى آخر السورة [25/ 63- 77] و منها ما أشار إليه بقوله: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [26/ 89].
و هذه عمدة صفاتهم، لأن الأصل في جميع الخيرات سلامة الصدر من
تفسير القرآن الكريم، ج4، ص: 324
الغلّ و الغشّ و الدغل و الحسد و البغض و الكبر و الحرص و الطمع و المكر و الزنا و الخديعة و النفاق و ما أشبهها من الخصال المذمومة التي أكثرها ينشأ من التشبّه بأهل العلم في الزّي و المنطق من غير عرفان، و طلب الترفّع من غير استيهال، و هو بذر النفاق و العناد و مادّة السيّئات.
و منها الخوف و الخشية كما في قوله تعالى: وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [21/ 28] و قوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [35/ 28].
فهذه و ما أشبهها خصال أولياء اللّه بحسب الملكات و الأخلاق العملية.
و أمّا الأعمال و الأفعال الواجبة أو المندوبة فجميعها يرجع إلى تصفية القلب، و هي أمر عدمي عبارة عن رفع المانع و ازالة الحجاب عن الوصول إلى الحق و الحقيقة من الطبع و الرين الحاصل في مرآة القلب بحسب غبار الهيئات المرتفعة إليه من عوالم الحواس و معدن الوسواس.
و أما علاماتهم و خصالهم العلمية التي هي غاية قصودهم و ثمرة وجودهم- لأن الايمان و العرفان باللّه و صفاته و ملائكته و أفعاله و كتبه و رسله و اليوم الآخر هي الغاية القصوى و الثمرة العليا من وجود الإنسان و بقائه- فمنها طريق تحصيلهم للمعارف و سبيل سيرهم إلى اللّه، و هو الصراط الذي وصفه اللّه بالمستقيم، و قال تعليما لعباده استدعاء ذلك من اللّه بقوله:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [1/ 6].
و هو الصراط الذي سلكه جميع أنبيائه و أوليائه كما أشير إليه بقوله تعالى وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً [6/ 126] و قوله شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى الآية
تفسير القرآن الكريم، ج4، ص: 325
[42/ 13] و قوله: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [42/ 3] و قوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [21/ 25] و قوله: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى* صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى [87/ 18- 19].
و هو الطريق الذي لا يتطرّق إليه نسخ و تغيّر، و لا فيه تخالف و تناقض، لكونه من عند اللّه و بتوفيقه و إلهامه، لا من جهة التقليد و التعصّب و اتّباع الآباء و ملازمة الأهواء، لقوله: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [4/ 82].
و هو مسلك التوحيد الذي سلكه أفضل الأنبياء عليه و عليهم السلام و متابعوه و شيعتهم لقوله تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي [12/ 108].
و هو الطريق المستقيم الذي أمر اللّه نبيّه أن يعلّم الناس سلوكهم و يهديهم إليه و يأمرهم باتّباعه و نهاهم عن سلوك طريق غيره، و هو في قوله تعالى: أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [6/ 153].
و ذلك لأن استقامة الطريق يفضى سالكه إلى المقصد في أقرب زمان، و لا بد للسالك أن يتحرّي أقرب الطرقات، فإنه أسهلها مسلكا و أقربها وصولا و هو الذي لا عوائق فيه و لا عوج له، فلذلك ينبغي للقاصدين إلى اللّه بعد تصفية نفوسهم عن درن الشهوات، و الراغبين في نعيم الآخرة في دار السلام الذين يريدون الصعود إلى ملكوت السموات و الدخول في زمرة الملائكة بالولادة الثانية أن يتحرّوا أقرب الطرق إليه و أسهلها مسلكا و أوثقها اعتمادا كما في قوله تعالى: فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً [72/ 14].
تفسير القرآن الكريم، ج4، ص: 326
و نحن نريد أن نبيّن الطريق المستقيم الذي أوصانا اللّه به و أمرنا باتّباعه على ألسنة أنبيائه صلوات اللّه عليهم ما هو؟ و كيف ينبغي أن نسلكه حتى نصل إلى ما وعدنا به ربّنا؟ كما قال تعالى: أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ [7/ 44] و لكن لا يمكننا بيان ذلك إلا بكلام موزون و حكمة بالغة و برهان نيّر و دلائل واضحة:
أما البرهان النيّر فبالنظر إلى حقيقة الوجود و ما يلزمه و ما يبدء منه، كما قال سبحانه: أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [41/ 53].
و أما الدلائل الواضحة فعلى مثل بيان اللّه و سنّة أنبيائه و أوليائه عليهم السّلام بالوصف البليغ بسائر (لسائر- ن) آيات اللّه في الآفاق و في أنفسنا حتّى يتبيّن أنه الحق، كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ ... لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2/ 164] و قوله: وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ [51/ 20] و في قوله: وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ [51/ 21] فإذا فعلوا ذلك فتحت أبواب العلوم المخزونة و الأسرار المكنونة التي لا يمسّها الّا المطهّرون.
و مما يجب أن يعلم أن كل من أراد أن يتّبع سبيل أولياء اللّه أنه لا ينبغي أن يتكلّم في ذات الباري و لا في صفاته و لا في أفعاله- من حيث هي أفعاله- بالحزر «1» و التخمين و لا قبل تصفية النفس، فإن ذلك يؤدّى إلى الشكوك و الحيرة و الضلال كما قال اللّه تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ [22/ 8].
و من لطائف خواصهم العلميّة أنهم في الكمالات العلميّة إمّا في
(1) حزر الشيء: قدره بالحدس و خمنه.
تفسير القرآن الكريم، ج4، ص: 327
مرتبة التامّ بذاته- و هي بحسب أرواحهم التي مرتبتها مرتبة العقول الفعالة- و إما في مرتبة المكتفي بذاته- و هي بحسب نفوسهم التي في درجة نفوس الأفلاك- بخلاف غيرهم من اولي العلوم، إذ لا يمكنهم الاكتفاء في علومهم بالأسباب الداخلة (الداخليّة- ن) و المقوّمات الداخليّة، فإن علومهم ليست من إفاضة اللّه فقط بتوسط الملائكة النوريّة التي هي خزائن علم اللّه، بل يحتاجون في انحفاظ علومهم إلى أسباب خارجيّة، و أوضاع حسيّة، و أسانيد متقدمة، حتى إن فرض ارتفاع الأسانيد و الأوضاع الخارجيّة الحسيّة التي كانت جملتها من الأمور المتغيّرة المتصرّمة لبطلت علومهم و زالت كمالاتهم.
فجميع المنتسبين إلى العلوم التي هي دون علوم الأولياء و العرفاء ناقصون في كمالاتهم العلمية، إذ ليسوا في مرتبة التمام كالعقول القادسة و الملائكة العلميّة الذين كمالاتهم بالفعل من كلّ الوجوه، و لا كمال منتظر لهم؛ و ليسوا أيضا في مرتبة المكتفين بذواتهم و ذوات عللهم المقوّمة الداخليّة كالملائكة العمّالة بإذن اللّه في تحريك الأجرام العالية و استخراج الكمالات النفسيّة من القوّة إلى الفعل، بل هؤلاء يكونون أبدا محتاجين إلى المشايخ و الأسانيد، كالأعمى الذي يحتاج أبدا إلى قائد خارجيّ و إلى ما يسند إليه في سلوكه و مشيه.
و معنى الوراثة في
«كون العلماء ورثة الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين»