کتابخانه تفاسیر
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 13
«الرحيم» صيغة مبالغة فعلى القول بأن الرحمن صفة قيل دلالتهما واحدة كندمان و نديم و قيل معناهما مختلف فالرحمن أكثر مبالغة و أردف بالرحيم ليكون كالتتمة ليتناول ما دق منها و لطف و قيل الرحيم أكثر مبالغة و الذي يظهر ان جهة المبالغة مختلفة فلا تكون من باب التوكيد فمبالغة فعلان من حيث الاستيلاء و الغلبة و مبالغة فعيل من حيث التكرار و الوقوع بمحال الرحمة و لذلك لا يتعدى فعلان و يتعدى فعيل و من ذهب إلى أنهما بمعنى واحد و ليس توكيدا احتاج أن يخص كل واحد منهما بشيء فقيل رحمن الدنيا و رحيم الآخرة و قيل العكس و قيل لأهل السماء و الأرض و قيل غير هذا و سمعت إضافة الرحمن في قولهم رحمن الدنيا و الآخرة و سمع أيضا استعماله بغير أل و بغير إضافة في قولهم لا زلت رحمانا و وصفه تعالى بذلك مجاز عن إنعامه على عباده ألا ترى أن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم إحسانه فعلى هذا هي في حق اللّه صفة فعل و قيل صفة ذات و هي إرادة الخير لمن أراد اللّه له ذلك.
«الْحَمْدُ» مصدر حمد يحمد و الأصل في المصدر أن لا يجمع. و حكى ابن الاعرابي جمعه على أحمد.
قال الشاعر: و أبلج محمود الثناء خصصته بأفضل أقوالي و أفضل أحمدي و أل في الحمد الظاهر أنها لتعريف الجنس فتدل على استغراق الأحمد كلها بالمطابقة و قراءة الجمهور و الحمد بالرفع و هو يدل على ثبوت الحمد و استقراره للّه تعالى فيكون قد أخبر بأن الحمد مستقر له تعالى أي حمده و حمد الحامدين و قرىء بالنصب على إضمار فعل قيل من لفظه تقديره حمدت الحمد للّه فيتخصص الحمد بتخصيص فاعله و أشعر بالتجدد و الحدوث و يكون من المصادر التي حذف فعلها و أقيمت مقامه و ذلك في الاخبار نحو قولهم شكرا لا كفرا و قيل التقدير اقرؤوا الحمد للّه أو الزموا الحمد للّه و اللام في قراءة الرفع تكون للاستحقاق و في قراءة النصب تكون للتبيين فيتعلق بمحذوف تقديره.
«لِلَّهِ» أعني نحو قولهم سقيا لزيد. و قرىء بكسر الدال اتباعا لحركة اللام فاحتمل أن يكون الاتباع في مرفوع أو منصوب و قرىء بضم لام الجر اتباعا لحركة الدال.
«الرب» السيد و المالك و المعبود و المصلح و هو اسم فاعل حذفت ألفه كما
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 14
قيل بار و بر و قيل مصدر وصف به و يطلق الرب على اللّه وحده و بقيد الاضافة على غيره نحو رب الدار و قرىء رب بالنصب على المدح و يضعف الخفض الصفات بعدها إلا أن فرع على أن الرحمن علم.
«الْعالَمِينَ» العالم لا مفرد له كالأنام و اشتقاقه من العلم أو العلامة و المختار أنه كل مصنوع و جمع لاختلاف أنواع المصنوعات بالواو و الياء على جهة الشذوذ و رب و الرحمن و الرحيم صفات مدح لأن ما قبله علم لم يعرض بالتسمية فيه اشتراك فيتخصص و بدىء بالرب لأن له التصريف في المسوّد و المملوك و العابد بما أراد من خير أو شر و اتبع بالرحمانية و الرحيمية لينبسط أمل العبد في العفو إن زل و إن كان الرب بمعنى المصلح كان الوصف بالرحمة مشعرا بعلة الاصلاح لأن الحامل للشخص على إصلاح العبد العمل رحمته له و معنى سياق هذه الأوصاف ان المتصف بها مستحق للحمد و قرىء بنصب الرحمن الرحيم و رفعهما و إذا قلنا بأن التسمية من الفاتحة كان تكرار هاتين الصفتين تنبيها على قدر عظمهما.
قرىء في السبعة.
«مالِكِ» و ملك و قرىء (؟ ملك) على وزن سهل و ملكي بإشباع كسرة الكاف و ملك على وزن عجل و برفع الكاف و مالك بنصب الكاف و مالكا بالألف و النصب و التنوين و بالرفع و التنوين و مليك و ملاك و مالك بالامالة المحضة و ملك فعلا ماضيا فينتصب بعده و بعد المنون يوم و هذه القراءات بعضها راجع لمعنى الملك و بعضها لمعنى الملك و كلاهما قهر و تسليط فالملك على من تأتت منه الطاعة باستحقاق و راجع بغيره و الملك على من تأتت منه و من لا تتأت و ذلك باستحقاق فبينهما عموم و خصوص. و اليوم هو المدة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس و يطلق أيضا على مطلق الوقت.
«و الدِّينِ» الجزاء دناهم كما دانوا و القضاء و لا تأخذكم بهما رأفة في دين اللّه و الطاعة في دين عمرو و العادة كدينك من أم الحويرث قبلها.
و الملة و رضيت لكم الاسلام دينا و الاضافة إلى يوم الدين اتساع إذ متعلق الملك و الملك غير اليوم و الاضافة على معنى اللام و الظاهر تغاير ملك و مالك فقيل هما بمعنى واحد كالفره و الفاره و اليوم هنا زمان يمتد إلى أن ينقضي الحساب فيستقر كل فيما قدر له من جنة أو نار و متعلق الملك، أو الملك هو
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 15
الأمر أي ملك أو مالك الأمر في يوم الدين و فائدة الاختصاص بهذا اليوم و إن كان ملكا أو مالكا للأزمنة كلها التنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه و لما اتصف تعالى بالرحمة انبسط أمل العبد فنبه بالصفة بعدها ليكون من عمله على وجل و ان لعمله يوما تظهر له فيه ثمرته من خير أو شر.
«إِيَّاكَ» ضمير نصب منفصل و فيه خلاف مذكور في النحو و قرىء بفتح الهمزة و شد الياء و كسرها و تخفيف الياء و بإبدال الهمزة المفتوحة هاء و القول باشتقاق أيا ضعيف و الكلام على وزنها فضول.
«نَعْبُدُ» العبادة التذلل عبدت اللّه تذللت له و قرىء نعبد بكسر النون و نعبد مبنيا للمفعول و هي قراءة مشكلة و توجيهها أن فيها استعارة و التفاتا فالاستعارة إحلال المنصوب موضع المرفوع فكأنه قال أنت ثم التفت فأخبر عنه اخبار الغائب فقال نعبد و غرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة.
«نَسْتَعِينُ» و الاستعانة طلب العون و الطلب أحد معاني استفعل و هي اثنا عشر معنى و قرىء نستعين بكسر النون و إياك مفعول مقدم و التقدم للاعتناء و التهمم.
قال الزمخشري: التقدم للتخصيص و قد تقدم الرد عليه في بسم اللّه و إياك التفات من غيبة إلى خطاب و من أعرب ملك منادى فلا التفات لأنه خطاب بعد خطاب و دعوى الزمخشري ثلاث التفاتات في تطاول ليلك و ما بعدها خطأ إنما هما التفاتان و فائدة الالتفات أنه لما ذكر أن الحمد للّه المتصف بالربوبية و الرحمة و الملك لليوم المذكور أقبل على المحمود و أخبر أنه و غيره يعبده و يخضع له و لذلك أتى بالنون لانها تكون له و لغيره فكما أن الحمد يستغرق الحامدين كذلك العبادة تستغرق المتكلم و غيره و قرنت العبادة بالاستعانة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى اللّه و بين ما يطلبه من جهته و ليكون ذلك توطئة للدعاء في قوله اهدنا و قدمت العبادة على الاستعانة لتقدم الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الاجابة إليها و أطلق العبادة و الاستعانة ليتناول كل معبود به و مستعان عليه و كرر و إياك ليكون كل من العبادة و الاستعانة سيقا في جملتين و كل جملة منهما مقصودة و للتنصيص على أن الذي يطلب العون منه هو تعالى.
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 16
«اهْدِنَا» الهداية هنا الإرشاد و الدلالة و تتعدى إلى الثاني بالى و باللام و هنا تعدى بنفسه.
«و الصِّراطَ» الطريق و أصله السين و قرىء به و بين الزاي و الصاد و بالزاي خالصة و هي لغة لعذرة و كعب و بني القين و الصاد لغة قريش و عامة العرب على اشمام الصاد الزاي و تذكير الصراط أكثر من تأنيثه و يجمع في الكثرة على صراط و قياسه في القلة أصرطة ان كان مذكرا و اصرط إن كان مؤنثا.
«الْمُسْتَقِيمَ» اسم فاعل من استقام و هو استفعل بمعنى الفعل المجرد و هو قام و القيام هو الانتصاب و الاستواء من غير اعوجاج.
«و
الَّذِينَ» اسم موصول و الخلاف في لغته و فيما يعرف به الموصول مذكور في كتب النحو و الذين يخص العقلاء و ما أجرى مجراهم.
«أَنْعَمْتَ» و النعمة لين العيش و نعم الرجل إذا كان في نعمة و الهمزة في أنعمت لجعل الشيء صاحب نعمة و هو أحد المعاني التي لأفعل و ضمّن معنى التفضيل فعدي بعلى و أصله التعدية بنفسه أنعمته جعلته صاحب نعمة و التاء في أنعمت ضمير المخاطب المذكر المفرد و على حرف جر عند الأكثرين ظرف عند سيبويه و جماعة و معنى على الاستعلاء حقيقة أو مجازا و قرىء.
«عَلَيْهِمْ» : بضم الهاء و سكون الميم و بكسر الهاء و الميم بغير ياء و كذا بياء بعدها و بكسر الهاء و ضم الميم بواو بعدها و بضمهما و واو بعدها و بضمهما بغير واو و بكسر الهاء و ضم الميم بغير واو و بضم الهاء و كسر الميم بياء بعدها و كذلك بغير ياء.
«اهْدِنَا» صورته صورة الأمر. و معناه الطلب و الرغبة و لما أخبر المتكلم أنه و من معه يعبدون اللّه تعالى و يطلبون منه العون سأل له و لهم الهداية إلى الطريق الواضح لأنهم بالهداية إليه تصح منهم العبادة.
«صِراطَ الَّذِينَ» بدل عين المبدل منه إذ فيه بعض إبهام ليكون المسؤول الهداية إليه قد جرى ذكره مرتين و صار يذكر البدل منه حوالة على طريق من أنعم اللّه عليهم فكان ذلك أثبت و أؤكد، و البدل على الصحيح على نية تكرار العامل فكأنهم كرروا طلب الهداية و فسر المنعم عليهم بأقوال أولاها الأنبياء و من ذكر
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 17
معهم في قوله فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين، الآية. و لم يقيد الانعام ليعم جميع المنعم به على سبيل البدل و بناء أفعل للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية أي طلبنا منك الهداية إذ سبق إنعامك فمن إنعامك إجابة سؤالنا و مضمون الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم عليهم لأن من صدر منه حمدا للّه و أخبر بأنه يعبده و يستعينه فقد حصلت الهداية له لكنه يسأل استمرارها.
«غَيْرِ» مفرد مذكر دائما و مدلوله المخالفة بوجه ما و أصله الوصف و يستثنى به و يلزم الاضافة لفظا أو معنى و إدخال أل عليه خطأ و لا يتعرف و ان أضيف إلى معرفة.
«الْمَغْضُوبِ» و الغضب يغير الطبع كما يروه.
«عَلَيْهِمْ» و عليهم الأولى في موضع نصب و الثانية في موضع رفع و غير بدل من الضمير في عليهم أو من الذين. و هو ضعيف و ان قاله أبو علي أو نعت على مذهب سيبويه إذ قد تتعرف غير إذا أضيفت إلى معرفة أو على مذهب ابن السراج في أنها تتعرف إذا وقعت على مخصوص لا شائع و قرىء غير و هو حال من الضمير في عليهم.
و قال المهدوي من الذين و الحال من المضاف إليه الذي لا موضع له من رفع أو نصب، المشهور أنه لا يجوز.
و قال الأخفش و الزجاج: نصب على الاستثناء المنقطع و المغضوب عليهم اليهود لأنهم كفروا عن علم و عاندوا و النصارى ضالون أي كفروا جهلا فلهذا خص كل بوصف و لا في قوله «وَ لَا الضَّالِّينَ» حرف خلافا للكوفيين و دخلت لتأكيد معنى النفي الذي تدل عليه غير أنه كأنه قيل لا المغضوب عليهم و لا الضالين و أشعر أن الضالين هم غير المغضوب عليهم و إن كان كلهم قد اشتراك في الغضب و الضلال، و لتقارب معنى غير و لا أجاز الزمخشري أنا زيدا غير ضارب قال: كما جاز أنا زيدا لا ضارب فأوردهما مورد الوفاق و في المسألتين خلاف. «و الضلال» سلوك سبيل غير القصد. ضل عن الطريق سلك غير جادتها، و الضلال: الهلاك و الضلال الحيرة و الغفلة و كانت صلة الذين فعلا
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 18
ماضيا و صلة أل اسما لأن المقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام اللّه عليهم وصله أل بالاسم ليشمل سائر الأزمان و بناه للمفعول لأن من طلب منه الهداية و نسب الانعام إليه لا يناسب أن يواجه بوصف الانتقام و ليكون المغضوب توطئة للختم بالضالين فيعطف موصول بال على موصول بال مثله و المراد بالانعام الانعام الديني.
و روي عدي بن حاتم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: إن المغضوب عليهم هم اليهود و إن الضالين هم النصاري. و الغضب من اللّه تعالى إن كان إرادة الانتقام من المعاصي فهو من صفات الذات و إن كان إحلال العقوبة به كان من صفات الفعل و مناسبة ذكر الغضب أثر النعمة لأن الغضب يقابل الانتقام لا الضلال فبينهما تطابق معنوي. و أيضا تشجيع فقد جمعت هذه الصورة حسن الافتتاح و براعة المطلع إذ كان مفتتحا باسم اللّه تعالى. و المبالغة في الثناء بعموم أل في الحمد للّه، و الاختصاص باللام في للّه، و بالإضافة في ملك يوم الدين، و حسن التقديم و التأخير في نعبد و نستعين و المغضوب عليهم و الضالين، و التفسير بعد الابهام في صراط الذين، و الالتفات في إياك نعبد و ما بعده، و طلب الشيء و المقصود استدامته. و سرد الصفات لبيان خصوصيته في الموصوف أو مدح أو ذم، و التشجيع في الرحيم و المستقيم و في نستعين و الضالين.
تفسير النهر المارد من البحر المحيط، ج1، ص: 19
سورة البقرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
«الم» حروف التهجي هذه التي في أوائل السور اختلف الناس في المراد بها اختلافا كثيرا و لم يقم دليل على تعيين شيء مما ذكروه و الذي اختاره هو ما ذهب إليه الشعبي و الثوري و جماعة من المحدثين قالوا: هي سر اللّه في القرآن و هي من المتشابه الذي انفرد اللّه تعالى بعلمه نؤمن بها و نمرها كما جاءت و إلى هذا ذهب الوزير الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الظاهري رحمه اللّه تعالى قال: هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر اللّه بعلمه و سائر كلامه تعالى محكم «انتهى». و هذه الحروف أوردت مفردة من غير عامل و لا عطف فاقتضت أن تكون مسكنة كأسماء الأعداد إذا أوردت من غير عامل و لا عطف فلا محل لها من الاعراب و قال الكوفيون: ألم و نظائرها آية في خلاف لهم في بعضها.