کتابخانه تفاسیر
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 87
الرَّحْمنِ صفة ثانية للجلالة، مجرور بالكسرة الظاهرة. الرَّحِيمِ صفة ثالثة لها. مالِكِ صفة رابعة لها، و هو مضاف. يَوْمِ الدِّينِ مضاف إليه.
إِيَّاكَ إيّا ضمير نصب منفصل، في محل النصب مفعول به مقدم؛ لغرض الحصر، و الكاف حرف دالّ على الخطاب. نَعْبُدُ فعل مضارع مرفوع بالضمة، و فاعله ضمير مستتر فيه وجوبا؛ لإسناده إلى المتكلم، تقديره: نحن يعود على القارىء و من معه، أو على المعظم نفسه، و الجملة مستأنفة استئنافا نحويا.
وَ إِيَّاكَ الواو عاطفة. إِيَّاكَ ضمير نصب منفصل في محل النصب مفعول مقدم. نَسْتَعِينُ فعل مضارع مرفوع، و فاعله ضمير مستتر يعود على القارىء و من معه، و الجملة معطوفة على جملة نَعْبُدُ . اهْدِنَا (اهد) فعل دعاء سلوكا مسلك الأدب مع البارىء سبحانه، و فاعله ضمير مستتر فيه وجوبا؛ لإسناده إلى المخاطب، تقديره: أنت يعود على اللّه، و الجملة مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب، أو في محلّ النصب مقول قولوا كسابقها، أو جملة دعائية لا محل لها من الإعراب. (نا) ضمير نصب متصل، يعود على القارىء و من معه، في محل النصب مفعول أول، مبني بسكون على الألف المحذوفة؛ للتخلّص من التقاء الساكنين. الصِّراطَ مفعول ثان الْمُسْتَقِيمَ صفة للصراط.
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ (7).
صِراطَ بدل من الصراط، بدل كلّ من كلّ، و هو مضاف. الَّذِينَ اسم موصول للجمع المذكر في محلّ الجر بالإضافة، مبني على الفتح، أو على الياء على الخلاف المذكور في محلّه؛ لشبهه بالحرف شبها افتقاريا، و إنّما حرك مع كون الأصل في المبني السكون؛ ليعلم أنّ له أصلا في الإعراب، و كانت الحركة فتحة؛ للخفة مع ثقل الموصول. أَنْعَمْتَ فعل و فاعل. عَلَيْهِمْ متعلّق بأنعمت، و الجملة صلة الموصول، و العائد ضمير عليهم. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ غَيْرِ بدل من الذين، أو من الضمير في عليهم، بدل كلّ من كلّ، أو نعت للموصول، مجرور بالكسرة الظاهرة، و هو مضاف. الْمَغْضُوبِ مضاف إليه،
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 88
مجرور بالكسرة الظاهرة. عَلَيْهِمْ جار و مجرور في محلّ الرفع نائب فاعل للمغضوب؛ لأنّه اسم مفعول يعمل عمل الفعل المغيّر. وَ لَا الواو عاطفة. لا:
زائدة زيدت؛ لتأكيد النفي المفهوم من غير. الضَّالِّينَ . معطوف على المغضوب عليهم، مجرور بالياء؛ لأنّه جمع مذكر سالم، و النون عوض عن التنوين و الحركة اللذين كانا في الاسم المفرد.
آمين: اسم فعل أمر؛ أي: دعاء سلوكا مسلك الأدب مع البارىء سبحانه؛ بمعنى: استجب، مبنّي على الفتح؛ لشبهه بالحرف شبها استعماليا، و الشبه الاستعمالي: هو أن يشبه الاسم الحرف في كونه عاملا لا معمولا، و إنّما حرك؛ ليعلم أنّ له أصلا في الإعراب، أو فرارا من التقاء الساكنين، كما في أين و كيف، و كانت الحركة فتحة؛ للخفة، و فاعله ضمير مستتر فيه وجوبا لإسناده إلى المخاطب، تقديره: أنت يعود على البارىء سبحانه، و الجملة من اسم الفعل و فاعله لا محلّ لها من الإعراب؛ لأنّ اسم الفعل عامل غير معمول، أو جملة دعائية، و المعنى: اسمع يا اللّه قراءتنا و استجب دعاءنا! و تقدم الخلاف في معناه.
التّصريف و مفردات اللغة
رَبِّ الْعالَمِينَ و الرب: هو السيّد، و المالك، و المصلح، و غير ذلك من المعاني المارّة، فهو اسم فاعل من ربّ يربّ ربّا، نظير: نمّ ينم نمّا، إذا نقل الحديث على وجه الإفساد، فهو ربّ و ذاك مربوب. أصله: رابّ، حذفوا ألفه؛ اعتباطا، كما في برّ و بارّ. الْعالَمِينَ : جمع عالم بفتح اللام، و جمع جمع المذكر السالم العاقل؛ تغليبا للعقلاء، و المراد به جميع الكائنات، و العالم لا واحد له من لفظه، و لا من غير لفظه؛ لأنّه اسم جمع لأشياء مختلفة الحقائق.
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ و المالك: إمّا من الملك بضمّ الميم، و هو عبارة عن السلطان القاهر و الاستيلاء الباهر، أو من الملك بكسر الميم، و هو السلطنة الخاصّة، و الدين: الجزاء، و هو المراد هنا، و يوم الجزاء: هو يوم القيامة، و الطاعة، كقوله تعالى: فِي دِينِ الْمَلِكِ ، و الدين أيضا الملّة، و في «القرطبي» ما نصّه: إن قال قائل: كيف قال: مالك يوم الدين، و يوم الدين لم يوجد بعد،
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 89
فكيف وصف نفسه سبحانه بملك ما لم يوجد؟ قيل له: اعلم أنّ مالكا: اسم فاعل من ملك يملك، و اسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده، و هو بمعنى الفعل المستقبل، و يكون ذلك عندهم كلاما سديدا معقولا صحيحا، كقولك: هذا ضارب زيد غدا؛ أي: سيضرب زيدا، و هكذا حاجّ بيت اللّه في العام المستقبل تأويله: سيحج في العام المستقبل، أفلا ترى أنّ الفعل قد ينسب إليه و هو لم يفعل بعد؛ و إنّما أريد به الاستقبال، فكذلك قوله عزّ و جل: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ على تأويل الاستقبال؛ أي: سيملك يوم الدين، أو في يوم الدين إذا حضر.
وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أصله: نستعون بوزن نستخرج، فهو سداسيّ أجوف واويّ؛ لأنّه من العون، ففيه إعلال بالنقل و القلب، فاستثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى الساكن قبلها على حدّ قول ابن مالك في «الخلاصة» في باب التصريف:
لساكن صحّ انقل التحريك من
ذي لين آت عين فعل كأبن
فسكنت الواو بعد النقل، و انكسر ما قبلها فقلبت ياء، و هذه قاعدة مطردة عند الصرفيّين، نحو: ميزان و ميقات، و هما من الوزن و الوقت. اه. «سمين» مع زيادة. و في «المصباح»: استعان به فأعانه، و قد يتعدى بنفسه، فيقال: أعانه، و الاسم: المعونة و المعانة بالفتح. اه. و الاستعانة: طلب العون، و الطلب أحد معاني استفعل، و هي ثلاثة عشر، فمنها: هذا، و الاتخاذ، و التحوّل، و إلقاء الشيء بمعنى: ما صيغ منه و عدّه كذلك، و مطاوعة أفعل و موافقته، و موافقة تفعّل، و افتعل، و الفعل المجرد، و الاغناء عنه و عن فعّل، و موافقة تفاعل. مثل ذلك: استطعم، و استعبده، و استنسر، و استعظمه، و استحسنه، و إن لم يكن كذلك، و استشلى مطاوع أشلّ، و استنبل موافق و مطاوع أبل، و استكبر موافق تكبّر، و استعصم موافق اعتصم، و استغنى موافق غني، و استنكف، و استحيا مغنيان عن المجرّد، و استرجع، و استعان حلق عانته مغنيا عن فعل، فاستعان طلب العون، كاستغفر، و استعظم، و استمسك بالشيء، و تماسك به، و مسك به بمعنى واحد أي: احتبست به. اه. من «البحر المحيط». و قد بسطنا الكلام على
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 90
أبنية الفعل المزيد، و وضعنا لها جدولا في كتابنا «مناهل الرجال على لاميّة الأفعال» في الصرف، فراجعه.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و وزن اهد إفع، حذفت لامه، و هي الياء حملا للأمر على المضارع المجزوم، و المجزوم تحذف لامه إذا كانت حرف علة.
و الصراط، كالطريق و السبيل في التذكير و التأنيث، كما مرّ، يجمع على صرط، ككتاب و كتب. و المستقيم: اسم فاعل من استقام السداسيّ الذي من باب استفعل بمعنى: الفعل المجرد من الزوائد، فهو هنا بمعنى: قام إذا استوى و انتصب، و أصله: مستقوم بوزن مستفعل، استثقلت الكسرة على الواو، ثمّ نقلت إلى الساكن قبلها، فقلبت الواو ياء؛ لسكونها و انكسار ما قبلها، فصار مستقيم.
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و همزة أنعم؛ لجعل الشيء صاحب ما صيغ منه؛ أي:
جعلتهم أصحاب نعمة، و هذا أحد المعاني التي لأفعل، و هي أربعة و عشرون معنى، و هذا أحدها، و التعدية، و الكثرة، و الصيرورة، و الإعانة، و التعريض، و السلب إلى آخر ما في مطوّلات الصرف فراجعها. و التاء المتصلة بأنعمت:
ضمير المخاطب المنزه عن الذكورة و الأنوثة الباري سبحانه، و هي حرف خطاب في أنت، و الضمير هناك أن، فهو مركب من اسم و حرف.
وَ لَا الضَّالِّينَ جمع ضالّ، اسم فاعل من ضلّ الثلاثي، فأصله:
الضّاللين، سكّنت اللام الأولى؛ لثقل توالي كسرتين فالتقى ساكنان، فأدغمت اللام في اللام، فصار ضالّين، و وزن ضالّين فاعلين، و قد تقدم لك أنّ أيّوب السختياني يقرأ وَ لَا الضَّالِّينَ ؛ فرارا من التقاء الساكنين، قال أبو زيد: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌ ، فظننته قد لحن، حتى سمعت من العرب دأبّة، و شأبّة.
البلاغة
و قد تضمّنت هذه السورة الكريمة ضروبا من البلاغة، و أنواعا من الفصاحة، و البيان، و البديع:
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 91
فمنها: حسن الافتتاح و براعة المطلع، فإن كان أوّلها بسم اللّه الرحمن الرحيم على قول من عدّها منها، فناهيك بذلك حسنا، إذ كان مطلعها مفتتحا باسم اللّه، و إن كان أولها الحمد للّه فحمد اللّه و الثناء عليه بما هو أهله، و وصفه بما له من الصفات العليّة، أحسن ما افتتح به الكلام، و قدم بين يدي النثر و النظم، و قد تكرّر الافتتاح بالحمد في كثير من السور. و المطلع ينقسم إلى حسن و قبيح، و الحسن إلى ظاهر و خفيّ على ما قسم في علم البديع.
و منها: المبالغة في الثناء على اللّه؛ و ذلك لعموم أل في الْحَمْدُ على التفسير الذي مرّ.
و منها: تلوين الخطاب على قول بعضهم، فإنّه ذكر أنّ الْحَمْدُ لِلَّهِ صيغته صيغة الخبر، و معناه الأمر، كقوله: لا ريب فيه و معناه: النهي؛ أي: لا ترتابوا فيه.
و منها: الاختصاص باللام التي في للّه، إذ دلّت على أنّ جميع المحامد مختصّة به تعالى، فهو مستحق لها، و بالإضافة في مالك يوم الدين؛ لزوال الأملاك و الممالك عن سواه تعالى في ذلك اليوم، و تفرّده فيه بالملك و الملك، قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؛ و لأنّه لا يجازي في ذلك اليوم على الأعمال سواه.
و منها: الحذف، و هو على قراءة من نصب الحمد ظاهر، و تقدم هل يقدّر من لفظ الحمد، أو من غير لفظه، قال بعضهم: و منه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد، و هو الذي يقدّر بكائن، أو مستقرّ، قال: و منه حذف صراط من قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، التقدير: صراط غير المغضوب عليهم و صراط غير الضالّين، و حذف سورة إن قدّرنا العامل في الحمد إذا نصبناه باذكروا، أو اقرؤا، تقديره: اقرءوا سورة الحمد.
و منها: الإتيان بالرحمن الرحيم عقب اتصافه بربّ العالمين؛ لإفادة الترغيب بعد الترهيب، فيكون أرغب للعبد على الطاعة، و أمنع من المعصية.
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 92
و منها: تقديم المعمول على عامله في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، لإفادة الحصر و الاختصاص.
و منها: الإضافة لأدنى ملابسة في يَوْمِ الدِّينِ كإضافة سائر الظروف إلى ما وقع فيها من الحوادث، كيوم الأحزاب، و يوم الفتح.
و منها: تقديم العبادة على الاستعانة في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ ليوافق رؤوس الآي؛ و ليعلم أنّ تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة.
و منها: إعادة إيّاك مع الفعل الثاني؛ ليفيد أنّ كلّا من العبادة و الاستعانة مقصود بالذات، فلا يستلزم كلّ منهما الآخر.
و منها: الالتفات من الغيبة في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى الخطاب في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ... إلخ؛ تطريبا للنفس، و زيادة في نشاطها جريا على أساليبهم.
و منها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ حيث شبّه دين الإسلام بالطريق الحسّيّ، بجامع أنّ كلّا يوصل إلى المقصود، و استعير اسم المشبّه به للمشبّه.
و منها: طلب الشيء مرادا به طلب دوامه و استمراره في قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، أي: ثبّتنا عليه.
و منها: التفسير و البيان في قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بعد الإبهام في قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ؛ لأنّه أوقع في النفس، و أرسخ فيه.
و منها: نسبة الغضب إلى المجهول في قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، حيث لم يقل: غير الذين غضبت عليهم؛ تعليما لعباده الأدب، حيث أسند الخير إلى نفسه، و أبهم في الشرّ، نظير قوله تعالى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها ، فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما ، و قوله: وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ .
تفسير حدائق الروح و الريحان فى روابى علوم القرآن، ج1، ص: 93
و منها: زيادة لا في قوله: وَ لَا الضَّالِّينَ ؛ لتأكيد النفي المستفاد من غير.
و منها: الزيادة و الحذف في عدّة مواضع «1» .
و اللّه سبحانه و تعالى أعلم