کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الجزء الأول

مقدمة المصنف

(سورة البقرة)

الفهرس

الجزء الثاني

(سورة آل عمران و هي مدنية)

(سورة النساء

الفهرس

الجزء الثالث

(تفسير سورة الأنعام

(سورة الأعراف)

الفهرس

الجزء الرابع

الفهرس

الجزء الخامس

الفهرس

الجزء السادس

الفهرس

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان


صفحه قبل

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏4، ص: 230

يكون النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير و ترك التواني، لأن من يلتفت لا بد أن يقع له أدنى وقفة وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ‏ قال الجوهري: مضى الشي‏ء مضيا ذهب، و مضى في الأمر مضيا أنفذه. و قال في الكشاف: عدى‏ وَ امْضُوا إلى‏ حَيْثُ‏ تعديته إلى الظرف المبهم لأن‏ حَيْثُ‏ مبهم في الأمكنة، و كذلك الضمير في‏ تُؤْمَرُونَ‏ قلت:

حاصل الكلام يرجع إلى قوله: اذهبوا إلى المكان الذي تؤمرون بالذهاب إليه، أو أنفذوا أمر الذهاب إلى هنالك. عن ابن عباس: إنه الشام. و قيل: مصر. و قال المفضل: حيث يقول لكم جبرائيل و كانت قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط. ثم أخبر عن حالهم مجملا فقال: وَ قَضَيْنا ضمن معنى أوحينا و لذلك عدي بإلى كأنه قيل: و أوحينا. إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ مقتضيا مبتوتا. ثم فسر ذلك الأمر بقوله: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ‏ أي يستأصلون عن آخرهم حال ظهور الصبح و دخولهم فيه. و في هذا الإجمال و التفسير تفخيم لشأن الأمر و تعظيم له.

ثم حكى ما أبدى قوم لوط من الفعال بعد نزول الملائكة فقال: وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أي أهل سذوم التي ضرب بقاضيها المثل فقيل أجور من قاضي سذوم.

يَسْتَبْشِرُونَ‏ بظهور السرور بمجي‏ء الملائكة لأنهم رأوهم مردا حسان الوجوه‏ قالَ‏ لوط لما قصدوا أضيافه‏ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ‏ بفضيحة ضيفي لأن الضيف يجب إكرامه فإذا أسي‏ء إليه في دار المضيف كان ذلك إهانة و فضيحة للمضيف. يقال: فضحه يفضحه فضحا و فضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ‏ مر في «هود» قالُوا في جواب لوط أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ‏ أي ألسنا نهيناك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ و كانوا يتعرضون لكل أحد، و كان لوط عليه السلام ينهاهم عن ذلك فأوعدوه نظيره‏ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ‏ [الشعراء: 116] و قيل: نهوه عن ضيافة الناس و إنزالهم‏ قالَ هؤُلاءِ بَناتِي‏ من الصلب أو أراد نساء أمته كما مر في «هود». قال جار اللّه‏ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ‏ شك في قبولهم لقوله كأنه قال و ما أظنكم تفعلون. و قيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فبما أحل اللّه دون ما حرم. ثم قالت الملائكة للوط عليه السلام‏ لَعَمْرُكَ‏ مبتدأ محذوف الخبر لكثرة الاستعمال أي قسمي أو هو مما أقسم به. و العمر و العمر بالفتح و الضم واحد إلّا أنهم خصوا القسم بالمفتوح اتباعا للأخف، فإن الحلف كثير الدور على ألسنتهم‏ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ‏ غوايتهم التي أذهبت عقولهم حتى لم يميزوا بين خطئهم و صوابك‏ يَعْمَهُونَ‏ يتحيرون فكيف يقبلون قولك الذي تأمرهم به من ترك البنين إلى البنات؟ و قيل: إنه‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏4، ص: 231

سبحانه خاطب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أقسم بحياته صلى اللّه عليه و سلم كرامة له صلى اللّه عليه و سلم و ما أقسم بحياة أحد قط و ذلك يدل على أنه أكرم الخلق على اللّه‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ‏ داخلين في الشروق و هو بزوغ الشمس كان ابتداء العذاب من أول الصبح لقوله: مُصْبِحِينَ‏ أليس الصبح بقريب؟ و غلبته كانت عند طلوع الشمس قال المفسرون: هي صيحة جبرائيل. قلت:

و يحتمل أن تكون صيحة قلب المدائن و إرسال الحجارة عليهم. قال بعض المفسرين: إنما قال: وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ‏ و في سورة هود وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها [الآية: 82] لأنه أراد هاهنا من شذ من القرية منهم. و قيل: سبب تخصيص هذه السورة بجمع المذكر هو بناء القصة على قوله: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ‏ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ‏ للمتفرسين.

و حقيقة التوسم التثبت في النظر حتى يعرف حقيقة سمة الشي‏ء فعبر به عن التأمل و التفكر وَ إِنَّها يعني تلك القرى و آثارها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ‏ ثابت يسلكه الناس المارة من الحجاز إلى الشام يشاهدون آثار قهر اللّه و غضبه هنالك. قال بعضهم: إنما جمع الآيات في قوله:

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ‏ لأنه أشار إلى ما تقدم عن ضيف إبراهيم و قصة لوط و قلب المدينة و إمطار الحجارة عليها و على من غاب منهم. و قال في الثانية وَ إِنَّها أي القرية لَبِسَبِيلٍ‏ و هذه واحدة من تلك الآيات فلذلك قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ‏ و قيل: ما جاء من القرآن من الآيات فلجمع الدلائل، و ما جاء من الآية فلوحدانية المدلول عليه، فلما ذكر عقيبه المؤمنين و هم مقرون بوحدانيته وحد الآية نظيره في «العنكبوت» خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ‏ [الآية: 44].

ثم أجمل قصة قوم شعيب فقال: وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ‏ «إن» مخففة من الثقيلة و لذلك دخلت اللام الفارقة في خبرها. كانوا أصحاب غياض و مواضع ذات شجر فنسبوا إليها. و الأيكة الشجر الملتف، و الضمير في قوله: وَ إِنَّهُما يعود إلى قرى قوم لوط و إلى الأيكة. و قيل: بل إلى الأيكة و مدين لأن شعيبا كان مبعوثا إليهما فدل بذكر أحد الموضعين هاهنا- و هو الأيكة- على الآخر لَبِإِمامٍ مُبِينٍ‏ لبطريق واضح. قال الفراء و الزجاج: سمي الطريق إماما لأنه يؤم و يتبع. و قال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده. ثم ختم القصص بقصة ثمود فقال: وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ‏ و هو واد بين الشام و المدينة. و جمع المرسلين لأن تكذيب نبي واحد- و هو صالح- كتكذيب جميع الأنبياء، أو لأن القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل، أو أراد صالحا و من معه من المؤمنين. وَ آتَيْناهُمْ‏ أي أعطينا رسولهم‏ آياتِنا أراد الناقة و كانت فيها آيات خروجها من الصخرة و عظم خلقها و كثرة لبنها إلى غير ذلك كما حكينا

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏4، ص: 232

في «الأعراف» فَكانُوا عَنْها أي عن النظر فيها و الاعتبار بها مُعْرِضِينَ‏ و فيه أن التقليد مذموم و الاستدلال واجب‏ وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ‏ من أن تنهدم و يتداعى بنيانها أو يقع سقفهم عليهم، أو آمنين من عذاب اللّه أو من حوادث الدهر. فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ‏ لم يدفع عنهم شيئا من عذاب اللّه‏ ما كانُوا يَكْسِبُونَ‏ من بناء البيوت الوثيقة و من جمع الأموال و العدد. و لما فرغ من القصص قال: وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ‏ أي متلبسة بالفوائد و الغايات و الحكم الصحيحة منها: اشتغال المكلفين بالعبادة و الطاعة حتى لو تركوها و أعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم و تطهير الأرض منهم، و هذا النظم يناسب أصول الاعتزال، قال الجبائي: فيه بطلان مذهب الجبرية الذين يزعمون أن أكثر ما خلق اللّه بين السموات و الأرض من الكفر و المعاصي باطل. و أجيب بأن أفعال العباد من جملة ما بين السموات و الأرض فوجب أن يكون اللّه خالقها. و يمكن أن يقال في وجه النظم: إن هذا ابتداء شروع في تسلية النبي صلى اللّه عليه و سلم و تصبيره على أذيات قومه بعد اقتصاص أحوال الأمم السالفة و معاملاتهم مع أنبيائهم، و يؤيد هذا النظم قوله: وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ معناه أن اللّه سينتقم لك فيها من أعدائك و يجازيك و إياهم على حسناتك و سيئاتهم فإنه ما خلق السموات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و العدل فكيف يليق بحكمته و فضله إهمال أمرك؟ و لما صبره على أذى قومه رغبه في الصفح فقال: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ‏ أي فأعرض عنهم إعراضا جميلا بحلم و إغضاء إن كان اللام الجنس فالمراد هذا النوع من الصفح لا الذين يشتمل على حقد و اجتهال و مكر، و إن كان للعهد فلعل المراد ما أمر به في نحو قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ‏ [الأعراف:

199] و قيل: هذا منسوخ بآية السيف و الأظهر أن حسن المعاشرة و المخالقة مأمور به ما أمكن فلا حاجة إلى ارتكاب النسخ‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ‏ كثير الخلق‏ الْعَلِيمُ‏ الكامل العلم يعلم ما يجري بين الخلائق من الأحوال و الأخلاق و إن كثروا و كثرت فيجازيهم يوم القيامة على حسب ذلك. و قيل: أراد أنه الذي خلقكم و علم ما هو الأصلح لكم، فاليوم الصفح أصلح فاصفحوا إلى أن يكون السيف أصلح.

ثم حثه على الصفح و التجاوز بذكر النعم العظام التي خصه بها فقال: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي‏ أكثر المفسرين على‏

أن المراد بها فاتحة الكتاب و هو قول عمر و علي رضي اللّه عنهما

و ابن مسعود و أبي هريرة و الحسن و أبي العالية و مجاهد و الضحاك و سعيد بن جبير و قتادة. و ذلك أنها سبع آيات. و المثاني جمع مثناة من التثنية أو جمع مثنية لأنها تثنى في كل صلاة. و قال الزجاج: تثنى بما يقرأ بعدها معها. و أيضا قسمت‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏4، ص: 233

بنصفين قسم ثناء و قسم دعاء، و

قد ورد الحديث‏ في هذا المعنى «قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين» «1»

و قد مر في أول الكتاب. و أيضا كلماتها مثناة مثل: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ إِيَّاكَ‏ و إِيَّاكَ‏ الصِّراطَ صِراطَ عَلَيْهِمْ‏ عَلَيْهِمْ‏ و اشتمالها على ثناء اللّه تعالى و تحميده مقرر و مما يتفرع على هذا القول ما نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنه قال: كان ابن مسعود لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب. فقيل: كأنه رأى أنه تعالى عطف عليه قوله: وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ‏ و العطف يوجب المغايرة فوجب أن تكون السبع المثاني غير القرآن. و الجواب أنه قد يكون بعطف الجزء على الكل كقوله: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ‏ [البقرة: 98] أو بالعكس كما في الآية. و المقصود في الوصفين تميز البعض عن الكل تنبيها على مزية ذلك البعض و شرفه. فإن قلت: ليس لعطف الكل على البعض نظير، و الاستدلال بالآية استدلال بصورة النزاع من غير دليل. قلنا: يكفي بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ‏ دليلا على أنه من القرآن. و عن ابن عمر و سعيد بن جبير في رواية: أن السبع المثاني هي السبع الطوال سميت بذلك لما وقع فيها من تكرير القصص و المواعظ و الوعد و الوعيد و غير ذلك، أو لأنها تثني على اللّه بأفعاله العظمى و صفاته الحسنى. و أنكر الربيع هذا القول لأن هذه السورة مكية و أكثر تلك السورة مدنية. و أجيب بأن المراد من الإيتاء إنزالها إلى السماء الدنيا، و المكية و المدنية في ذلك سيان، و ضعف بأن إطلاق لفظ الإيتاء على ما لم يصل بعد إليه خلاف الظاهر. و قال قوم: السبع المثاني هي التي دون الطوال و المئين و فوق المفصل، و احتجوا عليه بما

روى ثوبان‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «إن اللّه أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، و أعطاني المئين مكان الإنجيل، و أعطاني المثاني مكان الزبور و فضلني ربي بالمفصل» «2» .

قال الواحدي: و القول في تسمية هذه السور مثاني كالقول في تسمية الطول مثاني. و روي عن ابن عباس و إليه ذهب طاوس أنها هي القرآن لقوله سبحانه: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ‏ [الزمر: 23] و أنها سبعة أسباع كرر فيها دلائل التوحيد و النبوة و التكاليف. و معنى العطف على هذا القول الجمعية كقوله: إلى الملك القرم و ابن الهمام. و كأنه قيل: آتيناك ما هو الجامع لكونه سبعا مثاني و لكونه قرآنا عظيما. قال الزجاج و وافقه صاحب الكشاف: و «من» في‏ مِنَ الْمَثانِي‏ للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطول، و للبيان إذا أردت الأسباع.

(1، 2) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث: 38، 40. أبو داود في كتاب الصلاة باب: 132. الترمذي في كتاب تفسير سورة الفاتحة باب: 1. النسائي في كتاب الافتتاح باب: 23. ابن ماجه في كتاب الأدب باب: 52. أحمد في مسنده (2/ 241، 285).

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏4، ص: 234

و لما عرف رسوله نعمه الدينية و رغبه فيها نفره من اللذات العاجلة الزائلة لأن كل نعمة و إن عظمت فإنها بالنسبة إلى نعمة القرآن ضيئلة حقيرة، و منه‏

الحديث‏ «من لم يتغن بالقرآن أي لم يستغن به- فليس منا» «1»

و قول أبي بكر: من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما و عظم صغيرا. فمن حق قارئ القرآن الواقف على معانيه أن لا يشغل سره بالالتفات إلى الدنيا و زهرتها. قال الواحدي: إنما يكون مادّا عينيه إلى الشي‏ء إذا أدام النظر نحوه، و إدامة النظر إليه تدل على استحسانه و تمنيه. و قال في الكشاف: معنى‏ لا تَمُدَّنَ‏ لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمن له‏ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ‏ أي أصنافا من الكفار قاله ابن قتيبة. و قال الجوهري:

الأزواج القرناء. و قال بعضهم: لا تمدن عينيك أي لا تحسدنّ أحدا على ما أوتي من الدنيا. و ضعف بأن الحسد منهي عنه مطلقا فكيف يحسن تخصيص الرسول به؟ و يمكن أن يجاب بأن المراد منه نهي التكوين كقوله: وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏ [الأنعام: 14]. أو المراد الغبطة فهي محظورة عليه صلى اللّه عليه و سلم لجلالة منصبه و إن كانت جائزة لأمته. و يروى أنه وافت من بلاد الشام سبع قوافل ليهود بني قريظة و النضير فيها أنواع البز و الطيب و الجوهر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها و لأنفقناها في سبيل اللّه.

فقال لهم اللّه عز و جل: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع. و إنما قال في هذه السورة لا تَمُدَّنَ‏ بغير واو العطف لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه. ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم و أمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم أنفسهم و إن لم يحصل لهم في قلبه قدر و وزن فقال: وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏ أي على أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام و ينتعش بهم المؤمنون، و كما أمره بالتكبر على الأغنياء و الترفع عنهم إذا كانوا كفارا أمره بالتواضع للفقراء إذا كانوا مؤمنين فقال: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏ الخفض نقيض الرفع، و جناحا الإنسان يداه، و خفضهما كناية عن اللين و الرفق. و إنما قال في سورة الشعراء بزيادة لِمَنِ اتَّبَعَكَ‏ [الآية: 215] لأنه قال قبله‏ وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ‏ [الآية: 214] فلو لم يذكر هذه الزيادة لكان الظاهر أن اللام للعهد فصار الأمر بخفض الجناح مختصا بالأقربين من عشيرته فزيد لِمَنِ اتَّبَعَكَ‏ [الشعراء: 215] ليعلم أن هذا التشريف شامل لجميع متبعيه من الأمة. و لما بعثه على الرفق بأهل الإيمان أمره بالإنذار لكل المكلفين فقال: وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ‏

(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب: 44. أبو داود في كتاب الوتر باب: 20. الدارمي في كتاب الصلاة باب: 171. أحمد في مسنده (1/ 172، 175).

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏4، ص: 235

و يدخل تحت كونه نذيرا كونه مبلغا لجميع التكاليف، لأن كل ما كان واجبا ترتب على تركه عذاب، و كل ما كان حراما ترتب على فعله عقاب. و يدخل في كونه مبينا كونه شارحا لجميع مراتب أهل التكاليف من الجنة و النار، فالإنذار بالنار و الإحذار بالجنة هو الإخبار عن موجب الحرمان عنها.

و في متعلق قوله: كَما أَنْزَلْنا و جهان بعد ما مر به في الوقوف: أحدهما أن يتعلق بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ‏ أي أنزلنا عليك ما أنزلنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ‏ و من هم؟ قيل: أهل الكتاب‏ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ‏ أي أجزاء جمع عضة و أصلها عضوة «فعلة» من عضى الشاة إذا جعلها أجزاء و أعضاء، أو «فعلة» من عضهته إذا بهته فالمحذوف منها الهاء لا الواو. و عن عكرمة: العضه السحر بلسان قريش يقولون للساحرة عاضهة. و لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم العاضهة و المستعضهة فينقصانها الهاء أيضا. و جمعت العضة بالمعاني جمع العقلاء لما لحقها من الحذف، فجعلوا الجمع بالواو و النون عوضا عما لحقها من الحذف كسنين. فمعنى الآية أن اليهود اقتسموا القرآن إلى حق و باطل و جزؤه فقالوا بعضه حق موافق للتوراة و الإنجيل، و بعضه باطل مخالف لهما. و يجوز أن يراد بالقرآن ما يقرأونه من كتبهم و قد اقتسموه بتحريفهم و تكذيبهم، و الإقرار بالبعض و التكذيب بالبعض كقوله:

أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏ [البقرة: 85] و في هذا تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن تكذيب قومه و عداوتهم، و لهذا وسط بين المتعلق بقوله: لا تَمُدَّنَ‏ الآية لأنه مدد للتسلية لما فيه من النهي عن الالتفات إلى دنياهم و التأسف على كفرهم و من الإقبال بالكلية على المؤمنين. الوجه الثاني أن يتعلق بقوله: النَّذِيرُ الْمُبِينُ‏ و على هذا لا يكون بد من التزام إضمار أو زيادة، أما الإضمار فأن يكون التقدير: أنا النذير عذابا كما أنزلنا كقولك رأيت كالقمر في الحسن أي وجها كالقمر، و أما الزيادة فأن تكون الكاف زائدة كقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ [الشورى: 11] و يمكن أن يقال: الكاف بمعنى مثل و لا حاجة إلى الالتزام و التقدير: أنذر قريشا مثل ما أنزلنا على المقتسمين و هم إما اليهود و يراد بالعذاب ما جرى على قريظة و النضير فيكون قد جعل المتوقع بمنزلة الواقع و هو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون و قد كان، و إما غيرهم من أهل مكة أو من قوم صالح. قال ابن عباس: هم الذين اقتسموا طرق مكة و مداخلها أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان باللّه و رسوله. يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر، و يقول الآخر كذاب، و الآخر شاعر، فأهلكهم اللّه يوم بدر و قبله بآفات و كانوا قريبا من أربعين، منهم الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و الأسود بن عبد المطلب. و قال‏

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج‏4، ص: 236

عكرمة: اقتسموا القرآن استهزاء و كان يقول بعضهم سورة البقرة لي و يقول الآخر سورة آل عمران لي و قال مقاتل: اقتسموه. قال بعضهم سحر، و بعضهم شعر، و بعضهم كذب، و بعضهم أساطير الأولين. و قال ابن زيد: المقتسمون هم الذين تقاسموا باللّه ليبيتن صالحا كما سيجي‏ء في سورة النمل، فرمتهم الملائكة بالحجارة و قتلوهم، و على هذا يكون قوله:

الَّذِينَ جَعَلُوا منصوبا بالنذير أي أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر و شعر و أساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين.

ثم أقسم على سبيل الوعيد فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ‏ الآية و قد مر تفسير مثله في أول «الأعراف» و ذلك قوله‏ فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ‏ [الأعراف: 6]. و الأظهر أن الضمير عائد إلى جميع المكلفين المنذرين، و أن السؤال يكون عن جميع الأعمال، و قد يخص الضمير بالمقتسمين و السؤال بالاقتسام. ثم شجع نبيه قائلا فَاصْدَعْ‏ أي اجهر بِما تُؤْمَرُ و أظهره و فرق بين الحق و الباطل. و أصل الصدع الشق و الفصل و منه سمي الصبح صديعا كما سمي فلقا. و صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا. قال النحويون: الجار محذوف و المعنى بالذي تؤمر به من الشرائع مثل «أمرتك الخير». و جوز أن تكون «ما» مصدرية أي بأمرك و شأنك مصدر من المبني للمفعول. و قالوا: و ما زال النبي صلى اللّه عليه و سلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية. ثم قال: وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ‏ أي لا تبال بهم و لا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة و هذا لا ينافي آية القتال حتى يلزم النسخ على ما ظن بل يؤكدها. ثم أكد النهي عن الاكتراث بهم و قوّى قلبه فقال: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ‏ و لا ريب أنهم طبقة ذو شوكة قدروا على الاستهزاء بالرسول مع جلالة قدره. و الآية لا تفيد إلا هذا القدر لكن المفسرين ذكروا عددهم و أسماءهم مع اختلاف بينهم. و الأشهر على ما رواه عروة بن الزبير أنهم خمسة نفر من الأشراف: الوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل، و الأسود بن عبد يغوث، و الأسود بن المطلب، و الحرث بن الطلاطلة. و عن ابن عباس:

ماتوا كلهم قبل يوم بدر. و

قال جبرائيل عليه السلام لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخذه فأصاب عرقا في عقبة فقطعه فمات. و أومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال:

لدغت لدغت فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى و مات، و أشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي، و أشار إلى أنف الحرث فامتخط قيحا فمات، و إلى الأسود بن عبد يغوث و هو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجر و يضرب وجهه بالشوك حتى مات،

صفحه بعد