کتابخانه تفاسیر
تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج4، ص: 230
يكون النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير و ترك التواني، لأن من يلتفت لا بد أن يقع له أدنى وقفة وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قال الجوهري: مضى الشيء مضيا ذهب، و مضى في الأمر مضيا أنفذه. و قال في الكشاف: عدى وَ امْضُوا إلى حَيْثُ تعديته إلى الظرف المبهم لأن حَيْثُ مبهم في الأمكنة، و كذلك الضمير في تُؤْمَرُونَ قلت:
حاصل الكلام يرجع إلى قوله: اذهبوا إلى المكان الذي تؤمرون بالذهاب إليه، أو أنفذوا أمر الذهاب إلى هنالك. عن ابن عباس: إنه الشام. و قيل: مصر. و قال المفضل: حيث يقول لكم جبرائيل و كانت قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط. ثم أخبر عن حالهم مجملا فقال: وَ قَضَيْنا ضمن معنى أوحينا و لذلك عدي بإلى كأنه قيل: و أوحينا. إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ مقتضيا مبتوتا. ثم فسر ذلك الأمر بقوله: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ أي يستأصلون عن آخرهم حال ظهور الصبح و دخولهم فيه. و في هذا الإجمال و التفسير تفخيم لشأن الأمر و تعظيم له.
ثم حكى ما أبدى قوم لوط من الفعال بعد نزول الملائكة فقال: وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أي أهل سذوم التي ضرب بقاضيها المثل فقيل أجور من قاضي سذوم.
يَسْتَبْشِرُونَ بظهور السرور بمجيء الملائكة لأنهم رأوهم مردا حسان الوجوه قالَ لوط لما قصدوا أضيافه إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ بفضيحة ضيفي لأن الضيف يجب إكرامه فإذا أسيء إليه في دار المضيف كان ذلك إهانة و فضيحة للمضيف. يقال: فضحه يفضحه فضحا و فضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ مر في «هود» قالُوا في جواب لوط أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي ألسنا نهيناك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ و كانوا يتعرضون لكل أحد، و كان لوط عليه السلام ينهاهم عن ذلك فأوعدوه نظيره لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ [الشعراء: 116] و قيل: نهوه عن ضيافة الناس و إنزالهم قالَ هؤُلاءِ بَناتِي من الصلب أو أراد نساء أمته كما مر في «هود». قال جار اللّه إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ شك في قبولهم لقوله كأنه قال و ما أظنكم تفعلون. و قيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فبما أحل اللّه دون ما حرم. ثم قالت الملائكة للوط عليه السلام لَعَمْرُكَ مبتدأ محذوف الخبر لكثرة الاستعمال أي قسمي أو هو مما أقسم به. و العمر و العمر بالفتح و الضم واحد إلّا أنهم خصوا القسم بالمفتوح اتباعا للأخف، فإن الحلف كثير الدور على ألسنتهم إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ غوايتهم التي أذهبت عقولهم حتى لم يميزوا بين خطئهم و صوابك يَعْمَهُونَ يتحيرون فكيف يقبلون قولك الذي تأمرهم به من ترك البنين إلى البنات؟ و قيل: إنه
تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج4، ص: 231
سبحانه خاطب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أقسم بحياته صلى اللّه عليه و سلم كرامة له صلى اللّه عليه و سلم و ما أقسم بحياة أحد قط و ذلك يدل على أنه أكرم الخلق على اللّه فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ داخلين في الشروق و هو بزوغ الشمس كان ابتداء العذاب من أول الصبح لقوله: مُصْبِحِينَ أليس الصبح بقريب؟ و غلبته كانت عند طلوع الشمس قال المفسرون: هي صيحة جبرائيل. قلت:
و يحتمل أن تكون صيحة قلب المدائن و إرسال الحجارة عليهم. قال بعض المفسرين: إنما قال: وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ و في سورة هود وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها [الآية: 82] لأنه أراد هاهنا من شذ من القرية منهم. و قيل: سبب تخصيص هذه السورة بجمع المذكر هو بناء القصة على قوله: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ للمتفرسين.
و حقيقة التوسم التثبت في النظر حتى يعرف حقيقة سمة الشيء فعبر به عن التأمل و التفكر وَ إِنَّها يعني تلك القرى و آثارها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ثابت يسلكه الناس المارة من الحجاز إلى الشام يشاهدون آثار قهر اللّه و غضبه هنالك. قال بعضهم: إنما جمع الآيات في قوله:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ لأنه أشار إلى ما تقدم عن ضيف إبراهيم و قصة لوط و قلب المدينة و إمطار الحجارة عليها و على من غاب منهم. و قال في الثانية وَ إِنَّها أي القرية لَبِسَبِيلٍ و هذه واحدة من تلك الآيات فلذلك قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ و قيل: ما جاء من القرآن من الآيات فلجمع الدلائل، و ما جاء من الآية فلوحدانية المدلول عليه، فلما ذكر عقيبه المؤمنين و هم مقرون بوحدانيته وحد الآية نظيره في «العنكبوت» خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [الآية: 44].
ثم أجمل قصة قوم شعيب فقال: وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ «إن» مخففة من الثقيلة و لذلك دخلت اللام الفارقة في خبرها. كانوا أصحاب غياض و مواضع ذات شجر فنسبوا إليها. و الأيكة الشجر الملتف، و الضمير في قوله: وَ إِنَّهُما يعود إلى قرى قوم لوط و إلى الأيكة. و قيل: بل إلى الأيكة و مدين لأن شعيبا كان مبعوثا إليهما فدل بذكر أحد الموضعين هاهنا- و هو الأيكة- على الآخر لَبِإِمامٍ مُبِينٍ لبطريق واضح. قال الفراء و الزجاج: سمي الطريق إماما لأنه يؤم و يتبع. و قال ابن قتيبة: لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده. ثم ختم القصص بقصة ثمود فقال: وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ و هو واد بين الشام و المدينة. و جمع المرسلين لأن تكذيب نبي واحد- و هو صالح- كتكذيب جميع الأنبياء، أو لأن القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل، أو أراد صالحا و من معه من المؤمنين. وَ آتَيْناهُمْ أي أعطينا رسولهم آياتِنا أراد الناقة و كانت فيها آيات خروجها من الصخرة و عظم خلقها و كثرة لبنها إلى غير ذلك كما حكينا
تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج4، ص: 232
في «الأعراف» فَكانُوا عَنْها أي عن النظر فيها و الاعتبار بها مُعْرِضِينَ و فيه أن التقليد مذموم و الاستدلال واجب وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من أن تنهدم و يتداعى بنيانها أو يقع سقفهم عليهم، أو آمنين من عذاب اللّه أو من حوادث الدهر. فَما أَغْنى عَنْهُمْ لم يدفع عنهم شيئا من عذاب اللّه ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة و من جمع الأموال و العدد. و لما فرغ من القصص قال: وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ أي متلبسة بالفوائد و الغايات و الحكم الصحيحة منها: اشتغال المكلفين بالعبادة و الطاعة حتى لو تركوها و أعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم و تطهير الأرض منهم، و هذا النظم يناسب أصول الاعتزال، قال الجبائي: فيه بطلان مذهب الجبرية الذين يزعمون أن أكثر ما خلق اللّه بين السموات و الأرض من الكفر و المعاصي باطل. و أجيب بأن أفعال العباد من جملة ما بين السموات و الأرض فوجب أن يكون اللّه خالقها. و يمكن أن يقال في وجه النظم: إن هذا ابتداء شروع في تسلية النبي صلى اللّه عليه و سلم و تصبيره على أذيات قومه بعد اقتصاص أحوال الأمم السالفة و معاملاتهم مع أنبيائهم، و يؤيد هذا النظم قوله: وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ معناه أن اللّه سينتقم لك فيها من أعدائك و يجازيك و إياهم على حسناتك و سيئاتهم فإنه ما خلق السموات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و العدل فكيف يليق بحكمته و فضله إهمال أمرك؟ و لما صبره على أذى قومه رغبه في الصفح فقال: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي فأعرض عنهم إعراضا جميلا بحلم و إغضاء إن كان اللام الجنس فالمراد هذا النوع من الصفح لا الذين يشتمل على حقد و اجتهال و مكر، و إن كان للعهد فلعل المراد ما أمر به في نحو قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف:
199] و قيل: هذا منسوخ بآية السيف و الأظهر أن حسن المعاشرة و المخالقة مأمور به ما أمكن فلا حاجة إلى ارتكاب النسخ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ كثير الخلق الْعَلِيمُ الكامل العلم يعلم ما يجري بين الخلائق من الأحوال و الأخلاق و إن كثروا و كثرت فيجازيهم يوم القيامة على حسب ذلك. و قيل: أراد أنه الذي خلقكم و علم ما هو الأصلح لكم، فاليوم الصفح أصلح فاصفحوا إلى أن يكون السيف أصلح.
ثم حثه على الصفح و التجاوز بذكر النعم العظام التي خصه بها فقال: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي أكثر المفسرين على
أن المراد بها فاتحة الكتاب و هو قول عمر و علي رضي اللّه عنهما
و ابن مسعود و أبي هريرة و الحسن و أبي العالية و مجاهد و الضحاك و سعيد بن جبير و قتادة. و ذلك أنها سبع آيات. و المثاني جمع مثناة من التثنية أو جمع مثنية لأنها تثنى في كل صلاة. و قال الزجاج: تثنى بما يقرأ بعدها معها. و أيضا قسمت
تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج4، ص: 233
بنصفين قسم ثناء و قسم دعاء، و
قد ورد الحديث في هذا المعنى «قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين» «1»
و قد مر في أول الكتاب. و أيضا كلماتها مثناة مثل: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِيَّاكَ و إِيَّاكَ الصِّراطَ صِراطَ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ و اشتمالها على ثناء اللّه تعالى و تحميده مقرر و مما يتفرع على هذا القول ما نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنه قال: كان ابن مسعود لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب. فقيل: كأنه رأى أنه تعالى عطف عليه قوله: وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ و العطف يوجب المغايرة فوجب أن تكون السبع المثاني غير القرآن. و الجواب أنه قد يكون بعطف الجزء على الكل كقوله: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ [البقرة: 98] أو بالعكس كما في الآية. و المقصود في الوصفين تميز البعض عن الكل تنبيها على مزية ذلك البعض و شرفه. فإن قلت: ليس لعطف الكل على البعض نظير، و الاستدلال بالآية استدلال بصورة النزاع من غير دليل. قلنا: يكفي بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ دليلا على أنه من القرآن. و عن ابن عمر و سعيد بن جبير في رواية: أن السبع المثاني هي السبع الطوال سميت بذلك لما وقع فيها من تكرير القصص و المواعظ و الوعد و الوعيد و غير ذلك، أو لأنها تثني على اللّه بأفعاله العظمى و صفاته الحسنى. و أنكر الربيع هذا القول لأن هذه السورة مكية و أكثر تلك السورة مدنية. و أجيب بأن المراد من الإيتاء إنزالها إلى السماء الدنيا، و المكية و المدنية في ذلك سيان، و ضعف بأن إطلاق لفظ الإيتاء على ما لم يصل بعد إليه خلاف الظاهر. و قال قوم: السبع المثاني هي التي دون الطوال و المئين و فوق المفصل، و احتجوا عليه بما
روى ثوبان أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال: «إن اللّه أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، و أعطاني المئين مكان الإنجيل، و أعطاني المثاني مكان الزبور و فضلني ربي بالمفصل» «2» .
قال الواحدي: و القول في تسمية هذه السور مثاني كالقول في تسمية الطول مثاني. و روي عن ابن عباس و إليه ذهب طاوس أنها هي القرآن لقوله سبحانه: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] و أنها سبعة أسباع كرر فيها دلائل التوحيد و النبوة و التكاليف. و معنى العطف على هذا القول الجمعية كقوله: إلى الملك القرم و ابن الهمام. و كأنه قيل: آتيناك ما هو الجامع لكونه سبعا مثاني و لكونه قرآنا عظيما. قال الزجاج و وافقه صاحب الكشاف: و «من» في مِنَ الْمَثانِي للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطول، و للبيان إذا أردت الأسباع.
(1، 2) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث: 38، 40. أبو داود في كتاب الصلاة باب: 132. الترمذي في كتاب تفسير سورة الفاتحة باب: 1. النسائي في كتاب الافتتاح باب: 23. ابن ماجه في كتاب الأدب باب: 52. أحمد في مسنده (2/ 241، 285).
تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج4، ص: 234
و لما عرف رسوله نعمه الدينية و رغبه فيها نفره من اللذات العاجلة الزائلة لأن كل نعمة و إن عظمت فإنها بالنسبة إلى نعمة القرآن ضيئلة حقيرة، و منه
الحديث «من لم يتغن بالقرآن أي لم يستغن به- فليس منا» «1»
و قول أبي بكر: من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما و عظم صغيرا. فمن حق قارئ القرآن الواقف على معانيه أن لا يشغل سره بالالتفات إلى الدنيا و زهرتها. قال الواحدي: إنما يكون مادّا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه، و إدامة النظر إليه تدل على استحسانه و تمنيه. و قال في الكشاف: معنى لا تَمُدَّنَ لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمن له إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي أصنافا من الكفار قاله ابن قتيبة. و قال الجوهري:
الأزواج القرناء. و قال بعضهم: لا تمدن عينيك أي لا تحسدنّ أحدا على ما أوتي من الدنيا. و ضعف بأن الحسد منهي عنه مطلقا فكيف يحسن تخصيص الرسول به؟ و يمكن أن يجاب بأن المراد منه نهي التكوين كقوله: وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14]. أو المراد الغبطة فهي محظورة عليه صلى اللّه عليه و سلم لجلالة منصبه و إن كانت جائزة لأمته. و يروى أنه وافت من بلاد الشام سبع قوافل ليهود بني قريظة و النضير فيها أنواع البز و الطيب و الجوهر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها و لأنفقناها في سبيل اللّه.
فقال لهم اللّه عز و جل: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع. و إنما قال في هذه السورة لا تَمُدَّنَ بغير واو العطف لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه. ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم و أمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم أنفسهم و إن لم يحصل لهم في قلبه قدر و وزن فقال: وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام و ينتعش بهم المؤمنون، و كما أمره بالتكبر على الأغنياء و الترفع عنهم إذا كانوا كفارا أمره بالتواضع للفقراء إذا كانوا مؤمنين فقال: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ الخفض نقيض الرفع، و جناحا الإنسان يداه، و خفضهما كناية عن اللين و الرفق. و إنما قال في سورة الشعراء بزيادة لِمَنِ اتَّبَعَكَ [الآية: 215] لأنه قال قبله وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الآية: 214] فلو لم يذكر هذه الزيادة لكان الظاهر أن اللام للعهد فصار الأمر بخفض الجناح مختصا بالأقربين من عشيرته فزيد لِمَنِ اتَّبَعَكَ [الشعراء: 215] ليعلم أن هذا التشريف شامل لجميع متبعيه من الأمة. و لما بعثه على الرفق بأهل الإيمان أمره بالإنذار لكل المكلفين فقال: وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ
(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب: 44. أبو داود في كتاب الوتر باب: 20. الدارمي في كتاب الصلاة باب: 171. أحمد في مسنده (1/ 172، 175).
تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج4، ص: 235
و يدخل تحت كونه نذيرا كونه مبلغا لجميع التكاليف، لأن كل ما كان واجبا ترتب على تركه عذاب، و كل ما كان حراما ترتب على فعله عقاب. و يدخل في كونه مبينا كونه شارحا لجميع مراتب أهل التكاليف من الجنة و النار، فالإنذار بالنار و الإحذار بالجنة هو الإخبار عن موجب الحرمان عنها.
و في متعلق قوله: كَما أَنْزَلْنا و جهان بعد ما مر به في الوقوف: أحدهما أن يتعلق بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ أي أنزلنا عليك ما أنزلنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ و من هم؟ قيل: أهل الكتاب الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي أجزاء جمع عضة و أصلها عضوة «فعلة» من عضى الشاة إذا جعلها أجزاء و أعضاء، أو «فعلة» من عضهته إذا بهته فالمحذوف منها الهاء لا الواو. و عن عكرمة: العضه السحر بلسان قريش يقولون للساحرة عاضهة. و لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم العاضهة و المستعضهة فينقصانها الهاء أيضا. و جمعت العضة بالمعاني جمع العقلاء لما لحقها من الحذف، فجعلوا الجمع بالواو و النون عوضا عما لحقها من الحذف كسنين. فمعنى الآية أن اليهود اقتسموا القرآن إلى حق و باطل و جزؤه فقالوا بعضه حق موافق للتوراة و الإنجيل، و بعضه باطل مخالف لهما. و يجوز أن يراد بالقرآن ما يقرأونه من كتبهم و قد اقتسموه بتحريفهم و تكذيبهم، و الإقرار بالبعض و التكذيب بالبعض كقوله:
أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85] و في هذا تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن تكذيب قومه و عداوتهم، و لهذا وسط بين المتعلق بقوله: لا تَمُدَّنَ الآية لأنه مدد للتسلية لما فيه من النهي عن الالتفات إلى دنياهم و التأسف على كفرهم و من الإقبال بالكلية على المؤمنين. الوجه الثاني أن يتعلق بقوله: النَّذِيرُ الْمُبِينُ و على هذا لا يكون بد من التزام إضمار أو زيادة، أما الإضمار فأن يكون التقدير: أنا النذير عذابا كما أنزلنا كقولك رأيت كالقمر في الحسن أي وجها كالقمر، و أما الزيادة فأن تكون الكاف زائدة كقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] و يمكن أن يقال: الكاف بمعنى مثل و لا حاجة إلى الالتزام و التقدير: أنذر قريشا مثل ما أنزلنا على المقتسمين و هم إما اليهود و يراد بالعذاب ما جرى على قريظة و النضير فيكون قد جعل المتوقع بمنزلة الواقع و هو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون و قد كان، و إما غيرهم من أهل مكة أو من قوم صالح. قال ابن عباس: هم الذين اقتسموا طرق مكة و مداخلها أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان باللّه و رسوله. يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر، و يقول الآخر كذاب، و الآخر شاعر، فأهلكهم اللّه يوم بدر و قبله بآفات و كانوا قريبا من أربعين، منهم الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و الأسود بن عبد المطلب. و قال
تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان، ج4، ص: 236
عكرمة: اقتسموا القرآن استهزاء و كان يقول بعضهم سورة البقرة لي و يقول الآخر سورة آل عمران لي و قال مقاتل: اقتسموه. قال بعضهم سحر، و بعضهم شعر، و بعضهم كذب، و بعضهم أساطير الأولين. و قال ابن زيد: المقتسمون هم الذين تقاسموا باللّه ليبيتن صالحا كما سيجيء في سورة النمل، فرمتهم الملائكة بالحجارة و قتلوهم، و على هذا يكون قوله:
الَّذِينَ جَعَلُوا منصوبا بالنذير أي أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر و شعر و أساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين.
ثم أقسم على سبيل الوعيد فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ الآية و قد مر تفسير مثله في أول «الأعراف» و ذلك قوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف: 6]. و الأظهر أن الضمير عائد إلى جميع المكلفين المنذرين، و أن السؤال يكون عن جميع الأعمال، و قد يخص الضمير بالمقتسمين و السؤال بالاقتسام. ثم شجع نبيه قائلا فَاصْدَعْ أي اجهر بِما تُؤْمَرُ و أظهره و فرق بين الحق و الباطل. و أصل الصدع الشق و الفصل و منه سمي الصبح صديعا كما سمي فلقا. و صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا. قال النحويون: الجار محذوف و المعنى بالذي تؤمر به من الشرائع مثل «أمرتك الخير». و جوز أن تكون «ما» مصدرية أي بأمرك و شأنك مصدر من المبني للمفعول. و قالوا: و ما زال النبي صلى اللّه عليه و سلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية. ثم قال: وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي لا تبال بهم و لا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة و هذا لا ينافي آية القتال حتى يلزم النسخ على ما ظن بل يؤكدها. ثم أكد النهي عن الاكتراث بهم و قوّى قلبه فقال: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ و لا ريب أنهم طبقة ذو شوكة قدروا على الاستهزاء بالرسول مع جلالة قدره. و الآية لا تفيد إلا هذا القدر لكن المفسرين ذكروا عددهم و أسماءهم مع اختلاف بينهم. و الأشهر على ما رواه عروة بن الزبير أنهم خمسة نفر من الأشراف: الوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل، و الأسود بن عبد يغوث، و الأسود بن المطلب، و الحرث بن الطلاطلة. و عن ابن عباس:
ماتوا كلهم قبل يوم بدر. و
قال جبرائيل عليه السلام لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخذه فأصاب عرقا في عقبة فقطعه فمات. و أومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال:
لدغت لدغت فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى و مات، و أشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي، و أشار إلى أنف الحرث فامتخط قيحا فمات، و إلى الأسود بن عبد يغوث و هو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجر و يضرب وجهه بالشوك حتى مات،