کتابخانه تفاسیر
تبيين القرآن، ص: 517
[15] وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً بأن يحسن إليهما إحسانا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً بمشقة و صعوبة، و لذا يجب عليه الإحسان إليهما وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ عن اللبن ثَلاثُونَ شَهْراً ستة أشهر للحمل و سنتان للرضاع حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ كمال قوته وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً و هي وقت استحكام الرأي قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ أنعمت عَلى والِدَيَ إذ نعمة الوالدين نعمة الولد أيضا وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي اجعل الصلاح ساريا في أولادي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ رجعت إليك من سيأتي وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لأوامرك.
[16] أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أحسن قبول لعملهم، أي نقبله بأحسن القبول فنجازيهم أحسن الجزاء وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ نغفرها لهم و هم معدودون فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أهلها وَعْدَ الصِّدْقِ نعدهم هذا وعدا لا خلف فيه الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في الدنيا.
[17] وَ الَّذِي مبتدأ خبره (أولئك) قالَ لِوالِدَيْهِ حينما دعياه إلى الإيمان أُفٍّ لَكُما بعدا لكما، فإن (أف) كلمة لإظهار السخط أَ تَعِدانِنِي من الوعد أَنْ أُخْرَجَ من القبر للبعث وَ قَدْ خَلَتِ مضت الْقُرُونُ الأمم مِنْ قَبْلِي و لم يخرج أحد منهم من القبر وَ هُما والداه يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يسألان الله الغوث و الإعانة بتوفيقه للإيمان، قائلين له وَيْلَكَ كلمة تضجر، أي الهلاك لك آمِنْ بالله و اليوم الآخر إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ فَيَقُولُ في جوابهما ما هذا القول بالبعث إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ خرافاتهم و ليس له حقيقة.
[18] أُولئِكَ هؤلاء الأولاد الذين هذا شأنهم الَّذِينَ حَقَ ثبت عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي كلمة العذاب فِي جملة أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ الذين كانوا كافرين بالله و المعاد إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ قد خسروا دنياهم و آخرتهم.
[19] وَ لِكُلٍ من المؤمن و الكافر دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا حسب تفاوت أعمالهم وَ لِيُوَفِّيَهُمْ يعطيهم الله جزاء أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص في الثواب أو زيادة في العقاب.
[20] وَ اذكر يَوْمَ هو يوم القيامة يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يؤتون إليها فيقال لهم أَذْهَبْتُمْ آثرتم طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا بأن أخذتم قسطكم منها في الدنيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها تمتعتم و تلذذتم بالطيبات فما بقي لكم شيء منها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ العذاب الذي فيه الهوان بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ بسبب تكبركم فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ إذ لا يحق للإنسان أن يتكبر وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ تخرجون عن طاعة الله.
تبيين القرآن، ص: 518
[21] وَ اذْكُرْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَخا عادٍ أي هود النبي عليه السّلام الذي بعث إلى قبيلته عاد إِذْ أَنْذَرَ خوّف قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ جمع حقف: رمل مرتفع دون الجبل و هو واد كان يسكنه عاد قرب عمان وَ قَدْ خَلَتِ مضت النُّذُرُ المنذرون مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أمامه قبل زمانه وَ مِنْ خَلْفِهِ بعد أن أرسل في زمانه، أو بمعنى قبله و بعده «1» ، قائلين أولئك الرسل للقوم أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إن عبدتم غيره.
[22] قالُوا يا هود أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا التي نعبدها فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في مجيء العذاب.
[23] قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ فهو يعلم الوقت الصالح لعذابكم وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ و إنما أنا مبلغ إليكم وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ بالله و بآياته و بعذابه لمن كذب و كفر.
[24] فجاءهم العذاب في صورة سحاب و قد اشتد حر الهواء قبل ذلك و لما رَأَوْهُ العذاب الموعود عارِضاً سحابا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ يأتي نحو واديهم قالُوا فرحا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا يمطر فيبرد الهواء و نخلص من هذا الحر بَلْ ليس سحابا ممطرا و إنما هُوَ مَا العذاب الذي اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ طلبتم تعجيله عليكم رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
[25] تُدَمِّرُ تهلك كُلَّ شَيْءٍ من النفوس و النبات و الحيوان و غيرها بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا ميتين بحيث لا يُرى إذا جاءهم الرائي إِلَّا مَساكِنُهُمْ فقط بدون أن يكونوا فيها كَذلِكَ هكذا نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بالكفر و العصيان.
[26] وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ أي عادا فِيما إِنْ ما مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ أي جعلنا لهم من الأموال و القوة ما لم نجعل مثله لكم وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً ليسمعوا الآيات وَ أَبْصاراً ليروا العبر وَ أَفْئِدَةً قلوبا ليفهموا الأشياء فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذ لم يستعملوها في صلاحهم إِذْ لأنهم كانُوا يَجْحَدُونَ ينكرون بِآياتِ اللَّهِ أدلته وَ حاقَ حل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي العذاب الذي استهزءوا به، و هذا تهديد للكفار بأنهم عذبوا على كثرة قوتهم و بأسهم فكيف بكم و أنتم أقل منهم قوة و بأسا.
[27] وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكة مِنَ الْقُرى البلاد كعاد و ثمود و قوم لوط حيث كانت بلادهم في أطراف الجزيرة وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ كررناها ليعتبروا بها لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم و لكن لما أصروا أهلكناهم.
[28] فَلَوْ لا فهلا نَصَرَهُمُ منعهم من العذاب الأصنام الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً لأجل أن تقربهم إلى الله آلِهَةً بدل من (قربانا) بَلْ ضَلُّوا تلك الآلهة عَنْهُمْ وقت نزول العذاب وَ ذلِكَ الاتخاذ إِفْكُهُمْ كذبهم وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ على الله من أنها شركاءه، و من المعلوم أن الإله الكاذب لا ينصر.
(1) الضمائر المفردة ترجع إلى هود عليه السّلام.
تبيين القرآن، ص: 519
[29] وَ اذكر إِذْ زمانا صَرَفْنا وجّهنا إِلَيْكَ نَفَراً جماعة مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ حضر الجن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند قراءته القرآن ببطن نخلة عند انصرافه من الطائف إلى مكة، و ذلك قبل الهجرة قالُوا قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا اسكتوا حتى نستمع للقرآن فَلَمَّا قُضِيَ تم القرآن بأن فرغ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من التلاوة وَلَّوْا انصرفوا إِلى قَوْمِهِمْ من الجن مُنْذِرِينَ يخوفونهم من الكفر و العصيان.
[30] قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أي القرآن أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى لعلهم لم يكونوا سمعوا بالمسيح عليه السّلام أو كانوا يهودا مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما تقدمه من الكتب يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ لا انحراف فيه.
[31] يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما يدعوكم إليه وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ الله لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي من هذا الجنس وَ يُجِرْكُمْ يمنعكم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم في الآخرة.
[32] وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي لا يقدر أن يعجز الله في الأرض بأن يفوته حتى لا يتمكن الله من عقابه وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ دون الله أَوْلِياءُ ينصرونه من بأس الله أُولئِكَ الذين لا يجيبون داعي الله فِي ضَلالٍ انحراف عن الحق مُبِينٍ واضح.
[33] أَ وَ لَمْ يَرَوْا ألم يعلم الكفار المنكرون للبعث أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ أي لم يتعب في خلقه لهما، أي الذي بهذه القدرة العظيمة بِقادِرٍ أي قادر خبر (إن) و الباء للتأكيد عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى للبعث بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ و منه إحياء الموتى.
[34] وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يقدمون إليها بقصد إدخالهم فيها، فيقال لهم أَ لَيْسَ هذا الذي تشاهدون بِالْحَقِ لأنهم كانوا يقولون في الدنيا ليست النار إلا كذبا قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قسما به إنه حق قالَ الله لهم فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم في الدنيا.
[35] فَاصْبِرْ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ أصحاب العزم و الثبات الشديد مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ بأن تطلب عذابهم عاجلا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب في الآخرة لَمْ يَلْبَثُوا لم يبقوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ كأن لبثهم في الدنيا ساعة واحدة فقط بَلاغٌ هذا تبليغ لكم حتى تتم الحجة عليكم فَهَلْ يُهْلَكُ و يعذب بعد البلاغ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الله بعد إتمام الحجة عليهم، و الاستفهام في معنى النفي، أي لا يهلك إلا الفاسقون.
تبيين القرآن، ص: 520
47: سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم
مدنية آياتها ثمان و ثلاثون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بأن منعوا الناس عن الإيمان، أي ضلوا و أضلوا أَضَلَ أبطل الله أَعْمالَهُمْ الحسنة كصلة الرحم و إطعام الفقراء لأن الكفر مبطل للأعمال.
[2] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ بكل الأحكام وَ الحال إن ما نزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هُوَ الْحَقُّ مِنْ قبل رَبِّهِمْ كَفَّرَ ستر الله بالغفران عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ حالهم في دنياهم و أخراهم.
[3] ذلِكَ الإضلال لأولئك، و الغفران لهؤلاء بسبب أن الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ الذي جاءهم من قبل الله كَذلِكَ هكذا يَضْرِبُ يبين اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أحوالهم، ليعتبر الناس بهم.
[4] فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا رأيتموهم في حال القتال فَضَرْبَ الرِّقابِ اضربوا أعناقهم ضربا حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أكثرتم من القتل فيهم فأسروهم و شدوا أحكموا الْوَثاقَ أي الحبل الذي يوثق به لئلا يفروا فَإِمَّا تمنون عليهم مَنًّا بَعْدُ الأسر بأن تطلقوا سراحهم بدون فداء وَ إِمَّا تفادوهم و تأخذوا منهم فِداءً في مقابل إطلاقهم حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أثقالها بأن تنتهي، و ذلك بأن يضع المسلمون و الكفار سلاحهم ذلِكَ الأمر هكذا وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ بإهلاكهم بدون قتال وَ لكِنْ يبقيهم و يأمركم بحربهم لِيَبْلُوَا ليختبر بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ المؤمنين بالكافرين فيظهر المطيع من العاصي وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ في الجهاد من المؤمنين فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ لن يضيع الله ما عملوا بل يثيبهم عليها.
[5] سَيَهْدِيهِمْ إلى طريق الجنة وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ حالهم في الآخرة.
[6] وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ في حال كونه عَرَّفَها لَهُمْ في الدنيا.
[7] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي دينه يَنْصُرْكُمْ على أعدائكم وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في مواقف الخوف و الصعوبات.
[8] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ أي هلاكا لهم، و هذا دعاء عليهم بالهلاك وَ أَضَلَ ضيع الله أَعْمالَهُمْ الصالحة كالإحسان و الصلة.
[9] ذلِكَ الإضلال لأعمالهم بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أبطلها و لم يثبهم عليها.
[10] أَ فَلَمْ يَسِيرُوا ليسافر هؤلاء الكافرون فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الذين أهلكوا، فإن المسافر يرى آثار بلادهم و يسمع أخبار هلاكهم دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أهلكهم الله وَ لِلْكافِرِينَ في المستقبل أَمْثالُها أمثال تلك العقوبات التي نزلت بالأمم السابقة.
[11] ذلِكَ نصر المؤمنين و تدمير الكافرين بسبب أن اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ناصرهم و المتولي لشئونهم وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ينصرهم.
تبيين القرآن، ص: 521
[12] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ بمتاع الدنيا وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ غافلين عن العاقبة وَ النَّارُ مَثْوىً منزل لَهُمْ للكافرين.
[13] وَ كَأَيِّنْ بمعنى كم للتكثير مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ أي من مكة الَّتِي أَخْرَجَتْكَ فإن أهل مكة أخرجوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ يدفع العذاب عنهم.
[14] أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ حجة واضحة مِنْ قبل رَبِّهِ كالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنون كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ زين الشيطان في أنظارهم أعمالهم السيئة وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ شهواتهم النفسية.
[15] مَثَلُ أي حاله حال الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ غير متغير بالعفونة وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ فلم يفسد وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لذيذة لا مثل خمر الدنيا لِلشَّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى لم يخالطه الشمع وَ لَهُمْ فِيها في الجنة مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أنواع الفواكه وَ مَغْفِرَةٌ غفران، فمن هو خالد في الجنة بهذه النعم مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً شديد الحرارة فَقَطَّعَ ذلك الماء من شدة حرارته أَمْعاءَهُمْ أحشاءهم.
[16] وَ مِنْهُمْ من المنافقين مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تتكلم حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ من المجلس قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ العلماء من المؤمنين ما ذا قالَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آنِفاً قبل ساعة، يقولون ذلك استهزاء أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ لأنهم لما ضلوا عنادا و سم الله قلوبهم بسمة النفاق وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بدل أن يتبعوا الحق.
[17] وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا قبلوا الهدى و لم ينافقوا زادَهُمْ كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هُدىً ثبوتا على الهدى و هداية جديدة وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ وفقهم الله للتقوى.
[18] فَهَلْ يَنْظُرُونَ ينتظر هؤلاء المنافقون إِلَّا السَّاعَةَ القيامة أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فجأة فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها علائمها التي منها بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و انشقاق القمر و ما أشبه فَأَنَّى فمن أين لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ الساعة ذِكْراهُمْ أي تذكرهم فلا ينفعهم التذكر حينذاك.
[19] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ قد سبق أن الحاجات الضرورية للبدن يعدها الأنبياء عليهم السّلام ذنبا أمام الله تعالى كمن يعد مدّ رجله لمرض في قبال الملك ذنبا وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ انتشاركم بالنهار وَ مَثْواكُمْ مستقركم بالليل، أو محل عملكم في الدنيا و مصيركم في الآخرة.
تبيين القرآن، ص: 522
[20] وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أي من أظهروا الإيمان لَوْ لا هلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ تأمرنا بالقتال فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ صريحة وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ الأمر بالقتال رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك و نفاق يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ الذي أخذته الغشوة مِنَ الْمَوْتِ من جهة قرب موته، و المراد إن حالتهم تصبح كحالة المحتضر من الخوف و الجبن فَأَوْلى لَهُمْ هذا مثال بمعنى وليهم المكروه، يقال: أولى لك أي وليك المكروه، أو بمعنى أولى لهم.
[21] طاعَةٌ بأن يطيعوا وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ يقولون قولا معروفا بإظهار الموافقة للحرب فَإِذا عَزَمَ جد الْأَمْرُ مجاز «1» ، أي عزم أصحاب الأمر للقتال فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ بامتثال أمره لَكانَ الصدق خَيْراً لَهُمْ في دنياهم و آخرتهم.
[22] فَهَلْ عَسَيْتُمْ أي هل يتوقع منكم يا معاشر المنافقين إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الدين و ذهبتم أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أي أنتم أهل الفساد لا أهل القتال.
[23] أُولئِكَ المنافقون هم الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم عن رحمته فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ أي تركهم أصم عن سماع الحق و أعمى عن رؤية الحق.
[24] أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ بأن يتفكروا فيه حتى يعتبروا أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها جمع قفل فلا يدخل قلوبهم معانيه.
[25] إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ بأن كفروا قلبا و نافقوا كمن يرجع موليا دبره مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ ظهر لَهُمُ الْهُدَى بحقيقة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشَّيْطانُ سَوَّلَ زين لَهُمُ النفاق و العصيان وَ أَمْلى أمدّ لَهُمُ في الآمال.
[26] ذلِكَ التسويل و الإملاء بسبب أنهم أي المنافقين قالُوا لِلَّذِينَ لأسيادهم الكفار كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي كرهوا الإسلام و الدين سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ كالتظاهر على عداوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و التشكيك في القرآن وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ما يسره بعضهم إلى بعض فيجازيهم.
[27] فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ أخذت أرواحهم الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ المواضع التي كانوا لم يقاتلوا توقيا منهم لها.
[28] ذلِكَ التوفي بهذا الحال بسبب أنهم أي المنافقين اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ أغضبه وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ رضاه بأن لم يفعلوا ما يرضيه فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أبطلها و لم يثبهم على أعمالهم الحسنة كصلة الرحم و الإنفاق.
[29] أَمْ بل حَسِبَ زعم الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ النفاق أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أحقادهم للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين.
(1) أي نسبة العزم إلى الأمر مجاز، لأن الأمر لا يتصف بالعزم، بل الآمر يتصف به.
تبيين القرآن، ص: 523
[30] وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أي عرفناك يا رسول الله المنافقين بدلائل تدل على نفاقهم فَلَعَرَفْتَهُمْ بعد أن أريناكهم بِسِيماهُمْ بعلاماتهم وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ كيفية كلامهم فإن في كلامهم التواء و انحرافا وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ فيجازيكم عليها.
[31] وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نختبرنكم بالجهاد و نحوه حَتَّى نَعْلَمَ يظهر علمنا إلى عالم الخارج الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ على الشدائد وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي ما تقولونه عن أنفسكم: بأنكم مؤمنون صابرون مجاهدون، نمتحن هل هذا الكلام صدق أم لا.
[32] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بأن منعوا الناس عن سلوك طريق الحق وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ خالفوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ ظهر لَهُمُ الْهُدى بأن علموا بصدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً و إنما يضرون أنفسهم وَ سَيُحْبِطُ يبطل الله أَعْمالَهُمْ الحسنة بسبب كفرهم و نفاقهم.
[33] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ الحسنة بالشك و النفاق.
[34] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ بأن لم يتوبوا فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لأن الكافر المعاند لا غفران له.
[35] فَلا تَهِنُوا لا تضعفوا أيها المسلمون وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ الهدنة، أي لا تدعوا إلى ذلك وَ الحال أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ قوة وعدة وَ اللَّهُ مَعَكُمْ ناصركم وَ لَنْ يَتِرَكُمْ لن ينقصكم أجر أَعْمالَكُمْ فإن اللازم محاربة الكافرين لأجل إحقاق الحق و إنقاذ المظلومين من براثن الحكام الجائرين.
[36] إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ ما يلهي الإنسان عن المقصد، فلا ترجحوا الدنيا حتى لا تقاتلوا وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا الكفر و العصيان يُؤْتِكُمْ يعطكم الله أُجُورَكُمْ ثواب أعمالكم وَ لا يَسْئَلْكُمْ الله أَمْوالَكُمْ حتى تفروا خوفا و تحفظا على الأموال.
[37] إِنْ يَسْئَلْكُمُوها أي إن يسألكم أن تعطوا جميع أموالكم في سبيل الله فَيُحْفِكُمْ يجهدكم بطلب كل أموالكم تَبْخَلُوا و لم تبذلوا وَ يُخْرِجْ البخل أَضْغانَكُمْ أحقادكم على الدين، و لذا لا يكلفكم تكليفا شاقا يوجب انحرافكم، تفضلا منه.