کتابخانه ادبیات عرب
هذا باب ما يجوز لك فيه النعت و الحال و لا يكون مجازهما واحدا، و لما تحمل كلّ واحد منهما عليه
و ذلك قولك: «مررت بامرأة معها رجل قائمة يا فتى»، إذا حملت ذلك على: «مررت بامرأة»، و إن حملته على الهاء في «معها»، قلت: «رجل قائمة»، و المعنى، إذا نصبت: أنّك مررت به معها. في حال قيامها، فكانت المقارنة في هذه الحال.
و من ذلك: «هذه دابّة تشتدّ مكسورا سرجها»، إن حملته على الضمير في «تشتدّ»، و إن حملته على «دابّة»، رفعت، فيكون نعتا، كأنّك قلت: «هذه دابّة مكسور سرجها»، و في الباب الآخر أنّها تشتدّ في هذه الحال.
و تقول: «نحن قوم ننطلق عامدين بلد كذا، و كذا» فتنصب «عامدين» لما في قولك «ننطلق».
فإن أردت أن تجريه على «قوم»، رفعت. و قد قرءوا هذه الآية: وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً 646 ، أي: يخرج له طائره كتابا.
و من هذا الباب: «مررت برجل معه صقر صائد به»، و «صائدا به».
فإن قلت: «مررت برجل معه امرأة ضاربها ضاربته»، كان جيّدا، و أجود منه أن تقول: «مررت برجل معه امرأة ضاربته ضاربها»، فيجري نعت «المرأة» و هو إلى جنبها، و إن شئت، قلت: «ضاربها» للهاء في «معه».
و تقول: «مررت برجل معه فرس راكبا برذونا» [2]، و «راكب» على ما وصفت لك.
و تقول: «مررت برجل معه امرأة ضاربها هو»، لا يكون إلّا كذلك؛ لأنّك أجريت النعت عليها، و الفعل له.
و كذلك لو قلت: «مررت برجل معه امرأة ضاربته هي». لم يكن من إظهار الفاعل بدّ. لأنّه الفعل جرى على غير من هو له، و إنّما يكون هذا الإظهار في اسم الفاعل؛ لأنّه تبيّن فيه الإضمار، و أنّه محمول على الفعل.
فإن كان فعلا، لم تحتج فيه إلى إظهار. تقول: «مررت برجل معه امرأة يضربها»، و «معه امرأة تضربه».
و كذلك تقول: «زيد هند ضاربته»؛ لأنّ الفعل لها.
فإن قلت: «زيد هند ضاربها»، قلت: «هو»، و يجري على وجهين:
إن شئت، جعلت «زيدا» ابتداء، و «هندا» ابتداء ثانيا، و «ضاربها» خبر عن «هند»، و «الهاء» الراجعة إليها، و «هو» إظهار فاعل، و رجوعه إلى «زيد».
و إن شئت، جعلت قولك «ضاربها» ابتداء ثالثا، و جعلت هو خبره، و جعلتهما خبرا عن «هند»، و جعلت «هندا» و ما بعدها خبرا عن «زيد».
و تقول: «مررت بزيد و هند الضاربته»، أي: و هند التي تضربه، فموضعها موضع الحال بمنزلة قولك: «كلمت زيدا و عمرو عنده».
فتقدير الواو: تقدير «إذ»؛ كما قال اللّه عزّ و جلّ: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ 647 أي: إذ طائفة في هذه الحال.
و تقول: «أنت زيد ضاربه أنت»؛ لأنّك ابتدأت «أنت»، و جعلت «زيدا» مبتدأ بعده، و «ضاربه» لك، فكان مبتدأ ثالثا، و «أنت» خبره، و إن شئت، كان خبرا عن «زيد»، و «أنت» فاعله.
و لو أدخلت على هذا «كان»، لم تغيّره عن لفظه، إلّا أنّك تجعل «زيدا» مرفوعا ب «كان».
و لو أدخلت عليه «ظننت» أو «إنّ»، لنصبت «زيدا»، و تركت سائر الكلام على حاله؛ لأنّه قد عمل بعضه في بعض. فصار كقولك: «كان زيد أبوه منطلق»، و «إنّ زيدا أبوه منطلق».
و اعلم أنّك إذا قلت: «كان زيد أبوه منطلق» أنّ «أباه» و «منطلقا» في موضع نصب،
و الجمل لا يعمل فيها ما قبلها، و كذلك: «كان زيد يقوم يا فتى»؛ لأنّه فعل و فاعل، فهو كالابتداء و الخبر، فهذا ممّا يؤكّد عندك أنّ عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال.
و لا يجوز أن تدخل بين الشيء و ما يعمل فيه شيئا ممّا لا يعمل فيه، نحو: «أنت زيد ضاربه». إذا جعلت «ضاربه» جاريا على «زيد»، و المسائل كثيرة، و الأصل ما وقّفتك عليه، فقس تصب إن شاء اللّه.
***
هذا باب المصادر التي تشركها أسماء الفاعلين، و لا تكون واقعة هذا الموقع إلّا و معها دليل من مشاهدة، فهي منصوبة على ذلك، خبرا كانت أو استفهاما
و ذلك قولك: «أ قائما يا فلان و قد قعد الناس»، و ذلك أنّه رآه في حال قيام، فوبّخه بذلك. فالتقدير: أ تثبت قائما و قد قعد الناس، و ليس يخبر عن قيام منقض، و لا عن قيام تستأنفه.
و كذلك لو قال: «أ قياما و قد قعد الناس»، و «أ جلوسا و الناس يسيرون»، و مثله:
«أ تخلّفا عن زيد مع برّه بك و فضله». و من ذلك قول الشاعر [من الرجز]:
*
أطربا و أنت قنّسريّ
[1]* إنّما رأى نفسه في حال طرب مع سنّه، فوبّخها بذلك.
و لو لم تستفهم لقلت منكرا: «قاعدا، علم اللّه، و قد سار الناس»، «قائما كما يرى و الناس قعود». فهذا لا يكون إلّا لما تشاهد من الحال؛ فلذلك استغنيت عن ذكر الفعل.
*** و اعلم أنّ الأسماء التي لم تؤخذ من الأفعال تجري هذا المجرى، و ذلك أن ترى الرجل في حال تلوّن و تنقّل، فتقول: «أ تميميّا مرّة و قيسيّا أخرى»؟ تريد: أ تتحوّل و تتلوّن؟
و أغناه عن ذكر الفعل ما شاهد من الحال.
و كذلك إن لم تستفهم قلت: «تميميّا مرّة، علم اللّه، و قيسيّا أخرى».
و من ذلك قول الشاعر [من الطويل]:
[336]-
أ في السّلم أعيارا جفاء و غلظة
و في الحرب أشباه النّساء العوارك
______________________________ [1] تقدم بالرقم 325.
[336]- التخريج: البيت لهند بنت عتبة في خزانة الأدب 3/ 263؛ و المقاصد النحوية 3/ 142؛ و بلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1/ 382؛ و لسان العرب 4/ 614 (عور)، 620 (عير)؛ و المقرب 1/ 258.
و قال الآخر [من البسيط]:
[337]-
أ في الولائم أولادا لواحدة
و في العيادة أولادا لعلّات
***______________________________ اللغة: الأعيار: جمع عير، و هو الحمار أهليا كان أم وحشيا. و الجفاء: الغلظة و الفظاظة. و العوارك:
جمع عارك، و هي الحائض.
المعنى: إنكم أجلاف و بليدون كالحمير في السلم، و جبناء ضعاف كالنساء الحوائض في الحرب.
الإعراب: الهمزة: حرف استفهام لا محل له. «في السلم»: جار و مجرور متعلقان بالفعل (تتحولون) المقدّر، و العامل في «أعيارا». «أعيارا»: حال من فاعل (تتحولون) المقدر. «جفاء»: تمييز منصوب بالفتحة. «و غلظة»: الواو: حرف عطف، «غلظة»: معطوف على (جفاء). «و في الحرب»: الواو: حرف عطف، «في الحرب»: جار و مجرور متعلقان ب (تتحولون) المقدر المحذوف. «أشباه»: حال من فاعل «تتحولون». «النساء»: مضاف إليه مجرور بالكسرة. «العوارك»: صفة ل (الإماء) مجرورة بالكسرة.
و جملة «أ تتحولون في السلم أعيارا»: ابتدائية لا محل لها. و جملة «تتحولون في الحرب أشباه الإماء»:
معطوفة على الجملة السابقة.
و الشاهد فيه: نصب «أعيارا» بإضمار فعل وضعت هي موضعه بدلا من اللفظ به.
[337]- التخريج: البيت بلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1/ 382؛ و لسان العرب 11/ 470 (علل)؛ و المقرب 1/ 258.
اللغة: العلّات جمع مفرده (علّة)، و أولاد العلّة: الذين أمهاتهم شتى، و أبوهم واحد، و هذا مثل في الاختلاف، و أبناء لواحدة مثل للاتحاد و الاجتماع.
المعنى: أ تصيرون بمنزلة أبناء الأم الواحدة لدى الولائم، و تصيرون كأبناء الأمهات المتعددات لدى زيارتكم مريضا.
الإعراب: الهمزة: حرف استفهام لا محل له. «في الولائم»: جار و مجرور متعلقان بالفعل العامل النصب في (أولادا). «أولادا»: حال من فاعل (تثبتون) المقدر، و التقدير: أ تثبتون أولادا لواحدة في الولائم.
«لواحدة»: جار و مجرور متعلقان بصفة ل (أولاد). «و في العيادة»: الواو: حرف عطف، «في العيادة»: جار و مجرور متعلقان بالفعل «تثبتون» المقدر. «أولادا»: حال من فاعل (تثبتون) المقدر. «لعلّات»: جار و مجرور متعلقان بصفة ل (أولادا).
و الشاهد فيه: نصب (أولادا) بإضمار فعل وضعت هي موضعه بدل اللفظ به.
هذا باب ما وقع من المصادر توكيدا
و ذلك قولك: «هذا زيد حقّا»؛ لأنّك لمّا قلت: «هذا زيد»، فخبّرت، إنّما خبّرت بما هو عندك حقّ، فاستغنيت عن قولك: «أحقّ ذاك»، و كذلك: «هذا زيد الحقّ لا الباطل»؛ لأنّ ما قبله صار بدلا من الفعل.
و لو قلت: «هذا زيد الحقّ»، لكان رفعه على وجهين، و ليس على ذلك المعنى، و لكن على أن تجعل «زيدا» هو الحقّ، و على أنّك قلت: «هذا زيد»، ثمّ قلت: «الحقّ»، تريد: قولي هو الحقّ، لأنّ «هذا زيد» إنّما هو قولك.
و قد قرئ هذا الحرف على وجهين، و هو قوله عزّ و جلّ: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ 648 ، و قَوْلَ الْحَقِ .
و تقول: «هذا القول لا قولك»، أي: و لا أقول قولك.
فتأويل هذا: أنّ «قولك» بمنزلة: «هذا القول حقّا»، و «هذا القول غير قيل باطل»؛ لأنّه توكيد للأوّل.
و لو قلت: «هذا القول لا قولا»، لم يكن لهذا الكلام معنى؛ لأنّك إنّما تؤكّد الأوّل بشيء تحقّه، فإذا قلت: «غير قيل باطل»، فقد أوجبت أنّه حقّ، فإذا قلت: «لا قولك»، فقد دللت على أنّه قول باطل، فعلى هذا تؤكّد.
و من ذلك: «لأضربنّ زيدا قسما حقّا». و من ذلك قوله [من الكامل]:
إنّي لأمنحك الصّدود و إنّني
قسما إليك مع الصّدود لأميل
[2]
لمّا قال: «إني لأمنحك الصدود»، و «إنّني إليك لأميل»، علم أنّه مقسم، فكان هذا بدلا من قوله: «أقسم قسما».
*** و اعلم أنّ المصادر كسائر الأسماء، إلّا أنّها تدلّ على أفعالها؛ فأمّا في الإضمار و الإظهار و الإخبار عنها و الاستفهام، فهي بمنزلة غيرها.
تقول- إذا رأيت رجلا في ذكر «ضرب»-: «زيدا». تريد: «زيدا اضرب»، و استغنيت عن قولك: «اضرب» بما كان فيه من الذكر، فعلى هذا إذا ذكر فعلا، فقال: «لأضربنّ»، قلت: «نعم، ضربا شديدا».
فإن لم يكن ذكر، و لا حال دالّة، لم يكن من الإظهار بدّ، إلّا أن يكون موضع أمر، فتضمر، و تصيّر المصدر بدلا من اللّفظ بالفعل، و إنّما يكون ذلك في الأمر و النهي خاصّة؛ لأنّهما لا يكونان إلّا بفعل، فتأمر بالمصدر نكرة، و معرفة بالألف و اللام و الإضافة، و لذلك موضع آخر، و هو أن يكون المصدر قد استعمل في موضع الفعل حتّى علم ما يراد به.
و من ذلك: «سقيا لزيد»؛ لأنّ الدعاء كالأمر و النهي، و إنّما أردت: سقى اللّه زيدا سقيا. فإن قلت ذلك، لم تحتج إلى قولك: «لزيد».
و إن قلت: «سقيا»، قلت بعده: «لفلان»؛ لتبين ما تعني، و إن علم من تعني. فإن شئت أن تحذفه، حذفته.
و من ذلك قوله عزّ و جلّ: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ 649 إنّما هو:
فاضربوا الرقاب ضربا، ثمّ أضاف.
و كذلك قوله، تبارك و تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً 650 إنّما تقديره: فإمّا مننتم منّا، و إمّا فاديتم فداء.