کتابخانه روایات شیعه
مردودا على الضمير في أَعْناقُهُمْ فكأنّه تعالى قال: فظلّوا هم لها خاضعين» 132 .
و يبعد أن يحمل قوله عليه الصلاة و السلام في هذا الخبر: «عنق يقطعها اللّه» على أنّه أراد به الجماعة؛ لأنّ قوله «يقطعها اللّه» بالعنق المعروفة- التي هي العضو المخصوص- أشبه، و في موضع الكلام أحسن. و إنّما جاء ب «العنق» هاهنا على طريق الاستعارة؛ تشبيها للقوم الذين ذكر اتباعهم له بالعنق في الاحتشاد لطلبه، و الامتداد لللّحاق به.
[المجاز] (10)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ: «هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ لِعَمَائِرِ 133 كَلْبٍ وَ أَخْلَافِهَا وَ مَنْ ظَأَرَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ غَيْرِهَا» 134 ..
و في هذا الكلام استعارة؛ لأنّ «الظأر»- في الحقيقة-: العطف، و منه ظأر الناقة: و هو أن يموت ولدها، فتعطف على البوّ 135 الذي يجعل لها لتدرّ عليه لبنها. و أصله العطف على الشيء بالأخذ و الحمل، لا بالاختيار و الطوع، و يبيّن هذا المعنى قول الكميت الأسدي:
و هم رئموها 136 غير ظأر و أشبلوا
عليها بأطراف القنا و تحدّبوا 137
أي عطفوا عليها طائعين مختارين، لا مجبرين محمولين. ثمّ استعمل بعد ذلك فيمن عطف طائعا، كما استعمل فيمن عطف كارها، فكأنّه عليه الصلاة و السلام جعل الإسلام يعطف على الدخول فيه؛ إمّا طوعا و مشيئة، أو عنادا و خيفة.
و من أمثال العرب: «الطّعن يظأر» 138 ؛ أي يعطف على السلم و التواهب، و يحمل على البقيا و التقارب 139 .
[المجاز] (11)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ لِحَادِي مَطِيِّهِ 140 : «يَا أَنْجَشَةُ، رِفْقاً بِالْقَوَارِيرِ» 141 .
و هذه استعارة عجيبة؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام شبّه النساء- في ضعف النحائز 142 و وهن الغرائز- بالقوارير الرقيقة التي يوهنها الخفيف، و يصدعها اللطيف، فنهى عن أن يسمعهنّ ذلك الحادي ما يحرّك مواضع الصبوة 143 ، و ينقض معاقد العفّة.
و قد حمل بعض العلماء قوله تعالى: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً 144 على أنّ المراد به غير الزجاج هاهنا 145 ، و «القارور»: فاعول من استقرار الشيء فيه، فكأنّه قرار للشراب و غيره من المائعات، فيصلح أن يكون للزجاج، و يكون لغير الزجاج.
و أمّا عامّة المفسّرين فيذهبون إلى أنّ تلك الآنية الموصوفة من فضّة و لكنّها تشفّ 146 شفيف القوارير من الزجاج، فهو أعجز لتصويرها و أعجب لتقديرها إذا كانت جامعة للرقّة اللطيفة، و القوّة الحصيفة 147 148 .
[المجاز] (12)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ وَ قَدْ تَذَاكَرَ النَّاسُ عِنْدَهُ أَمْرَ الطَّاعُونِ، وَ انْتِشَارَهُ فِي الْأَمْصَارِ وَ الْأَرْيَافِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «فَإِنِّي أَرْجُو أَلَّا يَطْلُعَ إِلَيْنَا نِقَابَهَا» 149 .
يعني: نقاب المدينة، و «النقاب»: جمع نقب، و هو الطريق في الجبل.
و في هذا الكلام استعارة حسنة؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام أقام هذا الداء المسمّى ب «الطاعون»- في تغلغله إلى البلاد المنيعة، و ذهابه بالأعلاق 150 الكريمة- مقام الجيش المغير الذي يوفي على الأنشاز 151 ،
و يهجم على الحصون و الديار، يقال: «طَلَعَ فُلَانٌ الثَّنِيَّةَ» 152 إذا أوفى عليها و قرع ذروتها، و من أحسن التمثيل و أوقع التشبيه أن تشبّه أسباب الموت و طوارق الدهر بالجيش الهاجم، و المقنب 153 المصمّم الذي تخاف سطوته، و تنكأ شوكته 154 ، و لا يسدّ طريقه، و لا يؤمن طروقه 155 .
و قوله عليه الصلاة و السلام: «ألّا يطّلع إلينا نقابها»- و هو يريد نقاب المدينة و لم يجر لها ذكر- من الفصاحة العجيبة؛ لأنّه أقام علم المخاطبين بها مقام تصريحه بذكرها. و مثل ذلك قوله سبحانه و تعالى: وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها 156 ، و المراد المدينة، و لم يجر لها ذكر، و لذلك في القرآن نظائر.
و كان شيخنا أبو الفتح النحوي رحمه اللّه يسمّى هذا الجنس: «شجاعة الفصاحة» لأنّ الفصيح لا يكاد يستعمله إلّا و فصاحته جريّة الجنان، غزيرة الموادّ.
[المجاز] (13)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عُلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيباً، وَ سَيَعُودُ غَرِيباً» 157 .
و هذا الكلام من محاسن الاستعارات و بدائع المجازات؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام جعل الإسلام غريبا في أوّل أمره؛ تشبيها بالرجل الغريب الذي قلّ أنصاره، و بعدت دياره؛ لأنّ الإسلام كان على هذه الصفة في أوّل ظهوره، ثمّ استقرّت قواعده، و اشتدّت معاقده، و كثر أعوانه و ضرب جرانه 158 ، و قوله عليه الصلاة و السلام: «و سيعود غريبا» أي يعود إلى مثل الحال الاولى في قلّة العاملين بشرائعه، و القائمين بوظائفه 159 ، لا أنّه- و العياذ باللّه- تمحّى 160 سماته، و تدرس آياته.
[المجاز] (14)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ فِي ذِكْرِ الْخَوَارِجِ: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ...» الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ: «قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَ الدَّمَ» 161 .
و في هذا القول مجاز؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام شبّه دخولهم في الدين و خروجهم منه بسرعة- من غير أن يتعلّقوا 162 بعقدته، أو يعيقوا 163 بطينته- بالسهم الذي أصاب الرّميّة؛ و هي الطريدة المرميّة، ثمّ خرج مسرعا من جسمها، و لم يعلق بشيء من فرثها و دمها، و ذلك من صفات السهم الصائب؛ لأنّه لا يكون شديد السرعة إلّا بعد أن يكون قويّ النزعة.
[المجاز] (15)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «مُضَرُ صَخْرَةُ اللَّهِ الَّتِي لَا تَنْكَلُ» 164 .
و هذا القول مجاز؛ لأنّه عليه السّلام جعل مضر- و هي القبيلة المعروفة- بمنزلة الصخرة الراسية و الهضبة الثابتة التي لا تزحزح عن مقرّها، و لا تؤخّر عن مجثمها 165 ، و هذا معنى قوله عليه الصلاة و السلام: «لا تنكل» و ذلك مأخوذ من قولهم: «نكلت عن الأمر أنكل نكولا إذا تأخّرت عنه. و منه قيل لللّجام: «نكل» لأنّه يؤخّر به المركوب إذا جمح 166 ، و يحبس به إذا انطلق. و لهذا المعنى أيضا قيل للقيد: «نكل» لأنّه يقصّر الخطو و يمنع
العدو. و إنّما أضاف عليه الصلاة و السلام اسم «الصخرة» إلى «اللّه» تعالى ليكون أفخم لها في القلوب، و أجدر لها بالرسوخ.
[المجاز] (16)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «بُعِثْتُ فِي نَسَمِ السَّاعَةِ إِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي» 167 .
و في هذا القول استعارة؛ لأنّه عليه السّلام كنّى عن ابتداء الساعة بالنسم، و «النسم» و «النسيم» جميعا: اسم لابتداء الريح، و هي ضعيفة قبل شدّتها، و مريضة قبل استكمال قوّتها، و «النسم» أيضا: النفوس، جمع واحده «نسمة» و إنّما سمّيت بذلك، لأنّها في الأصل ضعيفة، و إنّما يشتدّ من جسمها بروافد ترفدها، و دعائم تسندها.
و قد روي هذا الخبر على وجه آخر؛ و هو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «بُعِثْتُ فِي نَفَسِ السَّاعَةِ» 168 .
، و له معنيان:
أحدهما: أن يكون: بعثت في تنفيس الساعة، أي في إمهالها و تأخّرها، من قولهم: «نفّس فلان عن غريمه» إذا أنظره و أخّر الدين بعد أن حان قضاؤه، و وجب اقتضاؤه، فكأنّه عليه الصلاة و السلام قال: بعثت و قد حان قيام الساعة، إلّا أنّ اللّه تعالى نفّسها- أي أخّرها قليلا- فبعثني في ذلك النفس.