کتابخانه روایات شیعه
الصلاة و السلام
بِقَوْلِهِ: «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ» 956 .
، في حديث آخر.
و ليس المراد بذلك تلحين القراءة و تطريبها؛ فإنّ الأخبار قد وردت بذمّ هذه الطريقة حتّى
ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أُمُوراً عَدَّدَهَا، ثُمَّ قَالَ: «وَ أَنْ يُتَّخَذَ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ» 957 .
و قال بعضهم: «معنى يتغنّى بالقرآن» أي يذكر القرآن، من قولهم:
تغنّى فلان بفلان؛ إذا ذكره في شعره إمّا هجاء و إمّا مدحا».
فأمّا الحديث الاخر و هو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» 958 .
، فليس المراد به هذا المعنى، و إنّما أراد عليه الصلاة و السلام: ليس منّا من لم يستغن بالقرآن عمّا سواه، و «تغنّى» هاهنا بمعنى استغنى، و هو تفعّل من الاستغناء، لا من الغناء، قال العجّاج:
أرى الغواني قد غنين عنّي
و قلن لي عليك بالتّغنّي 959
أي استغنين عنّي و قلن لي: استغن عنّا كما استغنينا عنك، و هذا عند موت الشباب، و انقضاء الآراب.
و يؤكّد ذلك الحديث الآخر؛ و هو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَرَأَى أَنَّ أَحَداً أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ، فَقَدْ عَظَّمَ صَغِيراً، وَ صَغَّرَ عَظِيماً» 960 .
و لو كان المراد بالتغنّي في هذا الخبر ترجيع الصوت بالقرآن، لكان من لم يقصد هذه الطريقة في تلاوته و يعتمدها في صلاته، داخلا تحت الذمّ، و مقارفا 961 للذنب؛
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ».
فبان أنّ المراد به الاستغناء لا الغناء.
[المجاز] (192)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» 962 .
و هذا مجاز، و ذلك أنّ العرب كانت إذا قرعتها القوارع، و نزلت بها النوازل 963 ، و حطمتها السنون الحواطم 964 ، و سلبت كرائم أعلاقها 965 من مال مثمر، أو ولد مؤمّل، أو حميم مرجّب 966 ، ألقت الملاوم على الدهر، فقالت في كلامها و أسجاعها و أرجازها و أشعارها: «استقاد 967 منّا
الدهر» و «جار علينا الدهر» و «رمانا بسهامه الدهر» كقول القائل منهم- و هو عديّ بن زيد-:
ثمّ أمسوا لعب الدّهر بهم
و كذاك الدّهر يودي بالرّجال 968
و كقول الآخر:
أكل الدّهر عليهم و شرب 969
و كقول الآخر:
و الدّهر غيّرنا و ما يتغيّر 970
و الأشعار في ذلك أكثر من أن نحيط بها، أو نأتي على جميعها، فكأنّه عليه الصلاة و السلام قال: لا تذمّوا الذي يفعل بكم هذه الأفعال؛ فإنّ اللّه سبحانه هو المعطي و المنتزع، و المغيّر و المرتجع، و الرائش 971 و الهائض 972 ، و الباسط و القابض.
و قد جاء في التنزيل ما هو كشف عن هذا المعنى؛ و هو قوله تعالى:
وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ 973 ، فصرّح تعالى بذمّهم على اعتقادهم أنّ الدهر يملكهم و يهلكهم، و يعطيهم و يسلبهم، و دلّ بمفهوم
الكلام على أنّه سبحانه هو المالك للامور، و المصرّف للدهور 974 .
[المجاز] (193) 975
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ» 976 .
و هذه استعارة، و ذلك أنّهم يقولون: «هذه غنيمة باردة» إذا حازوها من غير أن يلقوا دونها حرّ السلاح و ألم الجراح؛ لأنّه ليس كلّ الغنائم كذلك، بل في الأكثر لا تكاد تنال إلّا باصطلاء نار الحرب، و مألم الطعن و الضرب، فكأنّه عليه الصلاة و السلام جعل صوم الشتاء غنيمة باردة؛ لأنّ الصائم يحوز فيه الثواب الجزيل و الخير الكثير بلا معاناة مشقّة، و لا ملاقاة كلفة؛ لقصر نهاره، و عدم اواره 977 .
و قد قيل أيضا: «إنّما وصف الصوم في الشتاء بأنّه غنيمة باردة؛ لبرد النهار الذي يقع الصيام فيه، و أنّه بخلاف نهار الصيف الذي يشتدّ فيه العطش، و تطول المخامص 978 ، و يقصر ليله عن القيام بوظائف العبادة التي تحمد عقبى، و تقرّب إلى اللّه زلفى، و الشتاء على خلاف هذه الصفة؛ لقصر نهار الصائم، و طول ليل القائم».
[المجاز] (194)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهُنَّ فِي
أَيْدِيكُمْ عَوَانٍ» 979 .
و هذا مجاز؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام جعل النساء عند أزواجهنّ بمنزلة الأسراء، و ذلك؛ لأنّ المرأة تجري على أحكام الرجل في الصدور و الورود، و الوقوف و الخفوف 980 ، فهي راسفة 981 في أقياد حصره، و ناشبة 982 في حبائل نهيه و أمره، و من هنا قيل: «فلانة في حبال فلان»- إذا كان بعلها- للعلّة المقدّم ذكرها.
و «العاني» الأسير و الجمع «عناة»، و الأسيرة «عانية» و الجمع «عوان» و قد يقال للأسير أيضا «الهديّ» و قال المتلمّس في قتل عمرو بن هند طرفة بن العبد بعد أن سجنه زمانا:
كطريفة بن العبد كان هديّتهم
ضربوا صميم قذاله بمهنّد 983
قيل: «إنّما سمّيت المرأة المنقولة إلى زوجها: هديّا؛ لأنّها بمنزلة الأسيرة عنده».
و قيل: «بل سمّيت بذلك؛ لأنّها تهدى إلى زوجها، فهي فعيل في موضع مفعول، فهديّ في مكان مهديّ، يقال: هديت المرأة إلى زوجها أهديها هداء. و هو من الهداة، و ليس من الهديّة؛ لأنّه لا يقال من
الهديّة إلّا: أهديت». و قد قيل: «إنّ في بعض اللغات: أهديت المرأة» و اللغة الاولى هي المعتدّ بها، و المعمول عليها 984 .
[المجاز] (195)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ طَمَعٍ يَهْدِي إِلَى طَبَعٍ» 985 .
و هذا مجاز، و المراد أنّ الطمع يصير بصاحبه إلى معائب الأفعال و مدانسها، و يوقعه في مذامّها و مناقصها، «و الطّبع» الدّنس و العيب، يقال: «فلان طبع» كدنس و جشع، فلمّا كانت عواقب الطمع صائرة إلى مدارن 986 الطبع، جعل عليه الصلاة و السلام الطمع كأنّه هاديا إليها، و دليلا عليها على المجاز و الاتساع. و «الطبع»- على ما سمعته من شيخنا أبي الفتح النحوي رحمه اللّه- «مأخوذ من «الطابع» و هو الخاتم» 987 كأنّه يسم 988 صاحبه بالمعايب، و يشهره بالمثالب، فيكون كالخاتم الذي يظهر رسمه، و يؤثّر وسمه.
[المجاز] (196)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ فِي حَدِيثٍ مَشْهُورٍ لِلرَّجُلِ الَّذِي تَفَوَّتَ 989 ابْنُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، فَفَرَّقَهُ وَ بَذَّرَهُ: «ارْدُدْ عَلَى ابْنِكَ مَالَهُ؛ فَإِنَّمَا
هُوَ سَهْمٌ مِنْ كِنَانَتِكَ» 990 .
و هذه استعارة؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام جعل ابن الرجل بمنزلة السهم الذي في كنانته، و لذلك وجهان:
أحدهما: أن يكون إنّما شبّهه بالسهم من سهامه؛ لأنّ الأب سبب نشئه و تربيته، و وليّ تثقيفه و تأديبه، كما أنّ النابل باري السهم و رائشه 991 ، و مثقّفه 992 و مقوّمه.
و الوجه الآخر: أن يكون المراد أنّه بمنزلة السهم في كنانته من حيث كان في حضنه، و حاصلا تحت ضبنه 993 ، و أنّه متى شاء صرفه في آرائه، كما أنّ صاحب السهم متى شاء رمى به في أغراضه.