کتابخانه روایات شیعه
و صغاره، و يبقى جلاله و خياره. و قد قيل: «إنّ الغربلة: اسم للقتل خصوصا، و منه قول الشاعر:
ترى الملوك حوله مغربله
يقتل ذا الذّنب و من لا ذنب له 406
أي مقتّلة» و القول الأوّل أشبه بالمراد و أليق بالصواب.
و قد تكلّمنا فيما تقدّم على
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «وَ يَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ» 407 .
[المجاز] (63)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ وَ قَدْ سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟
فَقَالَ: «الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ» قِيلَ: وَ مَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: «الْخَاتِمُ الْمُفْتَتِحُ» 408 .
و في هذا الكلام مجاز،؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام إنّما أراد المداوم لتلاوة القرآن، فهو يختم و يفتتح، و يتمّ و يستأنف، فشبّهه عليه الصلاة و السلام بالمسافر المجدّ بينا ينزل حتّى يرتحل، و بينا يسير حتّى ينزل، فشبّه عليه الصلاة و السلام ختم التلاوة بنزول المنزل، و شبّه استئنافها بسير المرتحل، و جعله مستمرّا على هذه الطريقة أبدا؛ لا يرمي إلى غاية، و لا يقف عند نهاية.
و قد قيل: «إنّ المراد بذلك المجاهد في سبيل اللّه الذي يغزو و يعقب،
و يقفل و يعاود» و القول الأوّل أظهر عند العلماء، و أوغل في مذاهب الفصحاء.
[المجاز] (64)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «إِنَّ قَوْماً يُضْفَرُونَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ يَلْفِظُونَهُ» 409 .
و هذا القول مجاز؛ لأنّ المراد أنّهم يلقّنون الإسلام و يعلّمونه، فيتناسونه و يفارقونه، كالّذي يلقم الشيء فيدسع به 410 و لا يسيغه إلى جوفه، و ذلك مأخوذ من قولهم: «ضفرت البعير أضفره ضفرا» إذا لقمته لقما عظاما.
و قد يجوز أن يكون مأخوذا من قولهم: «ضفر الرجل الدابّة، يضفرها ضفرا» إذا ألقى اللجام في فيها، و المعنيان متقاربان.
[المجاز] (65)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى سَحَّاءَ، لَا يُغِيضُهَا اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ» 411 .
و هذه استعارة؛ لأنّ المراد ب «اليمين» هاهنا نعمة اللّه، و وصفها بالامتلاء لكثرة منافعها، و عموم مرافدها، فجعلها كالعين الثرّة التي لا يغيضها الموائح 412 ، و لا تنقصها النوازح.
و «السحّ»: شدّة المطر، يقال: «سحّت السماء سحّا» إذا جادت جودا. و خصّ اليمين؛ لأنّها- في الأكثر- مظنّة العطاء، و موصلة الحباء؛ على طريق المجاز و الاتساع، و قد شرحنا هذا المعنى في عدّة مواضع من كتبنا المشتملة على علوم القرآن.
[المجاز] (66)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «ابْنُوا الْمَسَاجِدَ وَ اتَّخِذُوهَا جُمّاً» 413 .
و هذه استعارة؛ لأنّ المراد: ابنوها و لا تتّخذوا لها شرفا، فشبّهها عليه الصلاة و السلام بالكباش الجمّ،: و هي التي قرونها صغار خافية.
وَ مِنْهُ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ فِي ذِكْرِ الْقِيَامَةِ: «إِنَّهُ يُؤْخَذُ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ» 414 .
، و ذلك من أحسن التشبيه، و أوقع التمثيل.
و قال ابن الأعرابي: «الأجمّ: الذي لا رمح معه» 415 . و من ذلك قول الشاعر:
ويل أمّهم معشرا جمّا بيوتهم
من الرّماح و في المعروف تنكير 416
أراد أنّ بيوتهم خالية من الرماح المركوزة بأبوابها، فهي كالكباش الجمّ التي لا قرون تظهر لها.
و قال الأعشى:
متى تدعهم للقاء الحروب
أتتك خيول لهم غير جمّ 417
أي قد أشرع فوارسها الرماح، فهي كالكباش إذا نهّدت 418 للكفاح، و سدّدت قرونها للنطاح، و قد جاء في كلامهم: «الرماح قرون الخيل».
و مثل ذلك
الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ: «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ كَأَنَّهَا صَيَاصِي بَقَرٍ» 419 .
، و «الصياصي» هاهنا: القرون، قيل: «إنّما شبّهها عليه الصلاة و السلام بقرون البقر لكثرة ما يشرع فيها من الرماح».
[المجاز] (67)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ خَفِيفاً مُعْنِقاً بِذَنْبِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَماً؛ فَإِذَا أَصَابَ دَماً بَلَّحَ» 420 .
و هذا مجاز؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام شبّه المذنب غير القاتل بحامل الحمل، إلّا أنّ فيه بعض الخفّة، فهو يعنق به؛ أي يسرع من تحته، فإذا أصاب دما ثقل ذلك العبء حتّى يبلح منه، و «التبليح»: الإعياء، مأخوذ من بلوح الشيء، و هو انقطاعه، فكأنّ منّته 421 قد نفدت، و قوّته قد انقطعت.
و إنّما قال عليه الصلاة و السلام ذلك تغليظا لأمر الدم؛ ليقلّ الإقدام
على سفكه، و يكثر التزاجر عن التعرّض له، و مع ذلك فالتوبة تسقط العقاب المستحقّ عليه، كما تسقط العقاب المستحقّ على غيره من المعاصي، خلافا لما ظنّه بعض الناس من أنّ القاتل لا توبة له؛ لأنّ الأمر لو كان على ما قاله لم يكن للقاتل سبيل إلى الانتفاع بطاعته في المستقبل؛ لأنّها تقع محبطة، و لا يجوز ألّا يكون للعاصي طريق إلى الانفكاك من عقاب المعاصي؛ لأنّ في ذلك إغراء له بها، و حملا له عليها.
و في بعض الأحاديث: «أنّ أعرابيا قتل تسعة و تسعين إنسانا، ثمّ أتى راهبا بالشام يستفتيه في توبته، فقال له: ما أرى لك توبة، فقال: لا جرم و اللّه، لاكملنّهم بك مائة، فقتل الراهب 422 ».
و ما حكوه عن عبد اللّه بن عبّاس رحمه اللّه من اختلاف فتواه في هذا المعنى؛ لأنّه أفتى مستفتيا سأله عن توبة القاتل: «بأنّه لا توبة له» و أفتى آخر «بأنّ له توبة» فله عندنا وجه صحيح قد نقل عن ثقات الناقلين، و ذلك أنّه سئل عن اختلاف قوليه في هذا الباب، فقال: «أتاني مستفت فأفتيته بأنّ للقاتل توبة؛ لأنّي رأيت عليه من أمارات من قتل و هو نادم على قتله، خائف من جرائر فعله، و استفتاني آخر، فأفتيته بأنّه لا توبة للقاتل؛ لأنّي رأيت عليه أمارات من قد عزم على القتل في المستقبل، و أراد أن يلجأ إلى التوبة بعد الإقدام على سفك الدم المحرّم، فأفتيته بذلك؛ ليقف عن عزمه، و يخاف عواقب إثمه 423 .
[المجاز] (68)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ وَ لَوْ بِالسَّلَامِ» 424 .
وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «انْضَحُوا أَرْحَامَكُمْ» 425 .
، و المعنى واحد.
و هذه استعارة؛ لأنّ المراد: صلوا أرحامكم و لو بالسلام؛ أي جدّدوا المودّة بينكم و بين أقربائكم و لو بالتسليم عليهم تشبيها ببلّ السقاء 426 اليابس؛ لأنّه لا يتبلل إلّا بملء الماء، فينتدي قاحله 427 ، و يتمدّد قالصه 428 ، فشبّهوا بلّ الأرحام بذلك؛ لأنّ في حسن المخالفة تجديدا لمخلقها 429 ، و إحكاما لما وهى من علائقها.
و مثل ذلك قول الكميت الأسدي:
نضحت أديم الودّ بيني و بينهم
بآصرة الأرحام لو يتبلّل 430
[المجاز] (69)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ لِرَجُلٍ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى أَصْبَحَ: «ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ فِي أُذُنِهِ الشَّيْطَانُ» 431 .
و هذا مجاز؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام أراد أنّ الشيطان تهكّم به
و سخر منه؛ لأنّهم يقولون ذلك فيمن ظهر اختلاله، و بان انحلاله، و أصله مأخوذ من الإفساد، فكأنّه عليه الصلاة و السلام أراد أنّ الشيطان قد أفسده و فسخ عقده.
و على ذلك قول الشاعر:
إذا رأيت أنجما من الأسد
جبهته أو الخرات و الكتد
بال سهيل في الفضيخ ففسد
و طاب ألبان اللّقاح و برد 432
أي أفسد سهيل اللبن ففسد، فعبّر عن إفساده له ببوله فيه، تشبيها بالبائل في الماء؛ لأنّه يفسد عذبه، و يمنع شربه.
[المجاز] (70)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «تُعْرَضُ لِلنَّاسِ جَهَنَّمُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضاً» 433 .
و هذا مجاز؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام أراد شدّة احتدامها و التفاف ضرامها، فكأنّ بعضها يحطم بعضا؛ أي يهدّه و يهيّضه 434 ، و «الحطم»: