کتابخانه روایات شیعه
و قد حمل بعض العلماء قوله تعالى: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً 144 على أنّ المراد به غير الزجاج هاهنا 145 ، و «القارور»: فاعول من استقرار الشيء فيه، فكأنّه قرار للشراب و غيره من المائعات، فيصلح أن يكون للزجاج، و يكون لغير الزجاج.
و أمّا عامّة المفسّرين فيذهبون إلى أنّ تلك الآنية الموصوفة من فضّة و لكنّها تشفّ 146 شفيف القوارير من الزجاج، فهو أعجز لتصويرها و أعجب لتقديرها إذا كانت جامعة للرقّة اللطيفة، و القوّة الحصيفة 147 148 .
[المجاز] (12)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ وَ قَدْ تَذَاكَرَ النَّاسُ عِنْدَهُ أَمْرَ الطَّاعُونِ، وَ انْتِشَارَهُ فِي الْأَمْصَارِ وَ الْأَرْيَافِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «فَإِنِّي أَرْجُو أَلَّا يَطْلُعَ إِلَيْنَا نِقَابَهَا» 149 .
يعني: نقاب المدينة، و «النقاب»: جمع نقب، و هو الطريق في الجبل.
و في هذا الكلام استعارة حسنة؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام أقام هذا الداء المسمّى ب «الطاعون»- في تغلغله إلى البلاد المنيعة، و ذهابه بالأعلاق 150 الكريمة- مقام الجيش المغير الذي يوفي على الأنشاز 151 ،
و يهجم على الحصون و الديار، يقال: «طَلَعَ فُلَانٌ الثَّنِيَّةَ» 152 إذا أوفى عليها و قرع ذروتها، و من أحسن التمثيل و أوقع التشبيه أن تشبّه أسباب الموت و طوارق الدهر بالجيش الهاجم، و المقنب 153 المصمّم الذي تخاف سطوته، و تنكأ شوكته 154 ، و لا يسدّ طريقه، و لا يؤمن طروقه 155 .
و قوله عليه الصلاة و السلام: «ألّا يطّلع إلينا نقابها»- و هو يريد نقاب المدينة و لم يجر لها ذكر- من الفصاحة العجيبة؛ لأنّه أقام علم المخاطبين بها مقام تصريحه بذكرها. و مثل ذلك قوله سبحانه و تعالى: وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها 156 ، و المراد المدينة، و لم يجر لها ذكر، و لذلك في القرآن نظائر.
و كان شيخنا أبو الفتح النحوي رحمه اللّه يسمّى هذا الجنس: «شجاعة الفصاحة» لأنّ الفصيح لا يكاد يستعمله إلّا و فصاحته جريّة الجنان، غزيرة الموادّ.
[المجاز] (13)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عُلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيباً، وَ سَيَعُودُ غَرِيباً» 157 .
و هذا الكلام من محاسن الاستعارات و بدائع المجازات؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام جعل الإسلام غريبا في أوّل أمره؛ تشبيها بالرجل الغريب الذي قلّ أنصاره، و بعدت دياره؛ لأنّ الإسلام كان على هذه الصفة في أوّل ظهوره، ثمّ استقرّت قواعده، و اشتدّت معاقده، و كثر أعوانه و ضرب جرانه 158 ، و قوله عليه الصلاة و السلام: «و سيعود غريبا» أي يعود إلى مثل الحال الاولى في قلّة العاملين بشرائعه، و القائمين بوظائفه 159 ، لا أنّه- و العياذ باللّه- تمحّى 160 سماته، و تدرس آياته.
[المجاز] (14)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ فِي ذِكْرِ الْخَوَارِجِ: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ...» الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ: «قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَ الدَّمَ» 161 .
و في هذا القول مجاز؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام شبّه دخولهم في الدين و خروجهم منه بسرعة- من غير أن يتعلّقوا 162 بعقدته، أو يعيقوا 163 بطينته- بالسهم الذي أصاب الرّميّة؛ و هي الطريدة المرميّة، ثمّ خرج مسرعا من جسمها، و لم يعلق بشيء من فرثها و دمها، و ذلك من صفات السهم الصائب؛ لأنّه لا يكون شديد السرعة إلّا بعد أن يكون قويّ النزعة.
[المجاز] (15)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «مُضَرُ صَخْرَةُ اللَّهِ الَّتِي لَا تَنْكَلُ» 164 .
و هذا القول مجاز؛ لأنّه عليه السّلام جعل مضر- و هي القبيلة المعروفة- بمنزلة الصخرة الراسية و الهضبة الثابتة التي لا تزحزح عن مقرّها، و لا تؤخّر عن مجثمها 165 ، و هذا معنى قوله عليه الصلاة و السلام: «لا تنكل» و ذلك مأخوذ من قولهم: «نكلت عن الأمر أنكل نكولا إذا تأخّرت عنه. و منه قيل لللّجام: «نكل» لأنّه يؤخّر به المركوب إذا جمح 166 ، و يحبس به إذا انطلق. و لهذا المعنى أيضا قيل للقيد: «نكل» لأنّه يقصّر الخطو و يمنع
العدو. و إنّما أضاف عليه الصلاة و السلام اسم «الصخرة» إلى «اللّه» تعالى ليكون أفخم لها في القلوب، و أجدر لها بالرسوخ.
[المجاز] (16)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «بُعِثْتُ فِي نَسَمِ السَّاعَةِ إِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي» 167 .
و في هذا القول استعارة؛ لأنّه عليه السّلام كنّى عن ابتداء الساعة بالنسم، و «النسم» و «النسيم» جميعا: اسم لابتداء الريح، و هي ضعيفة قبل شدّتها، و مريضة قبل استكمال قوّتها، و «النسم» أيضا: النفوس، جمع واحده «نسمة» و إنّما سمّيت بذلك، لأنّها في الأصل ضعيفة، و إنّما يشتدّ من جسمها بروافد ترفدها، و دعائم تسندها.
و قد روي هذا الخبر على وجه آخر؛ و هو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «بُعِثْتُ فِي نَفَسِ السَّاعَةِ» 168 .
، و له معنيان:
أحدهما: أن يكون: بعثت في تنفيس الساعة، أي في إمهالها و تأخّرها، من قولهم: «نفّس فلان عن غريمه» إذا أنظره و أخّر الدين بعد أن حان قضاؤه، و وجب اقتضاؤه، فكأنّه عليه الصلاة و السلام قال: بعثت و قد حان قيام الساعة، إلّا أنّ اللّه تعالى نفّسها- أي أخّرها قليلا- فبعثني في ذلك النفس.
و الوجه الآخر: أن يكون جعل للساعة نفسا كنفس الإنسان، و قال:
بعثت في وقت احسّ فيه بنفسها و قربها، كما يحسّ الإنسان بنفس الإنسان إذا قرب من شخصه، و سمع مجرى نفسه 169 .
[المجاز] (17)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» 170 .
و هذا القول مجاز؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام أراد ب «اليد العليا» يد المعطي، و ب «اليد السافلة» يد المستعطي، و لم يرد على الحقيقة أنّ هناك عاليا و سافلا، و صاعدا و نازلا، و إنّما أراد أنّ المعطي في الرتبة فوق الآخذ؛ لأنّه المنيل المفضل، و المحسن المجمل، و ليس هذا في معطي الحقّ 171 ، و إنّما هو في معطي الرّفد 172 و مسترفده. و ليس المراد أنّه خير في الدين، بل المراد أنّه خير في النفع للسائلين.
و إنّما كنّى عليه الصلاة و السلام عن هاتين الحالتين باليدين؛ لأنّ الأغلب أن يكون بهما الإعطاء و البذل، و بهما القبض و الأخذ.
[المجاز] (18)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «إِنَّ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ بِيَدِ اللَّهِ؛ فَمَنْ
شَاءَ أَنْ يَمْنَحَهُ مِنْهَا خُلُقاً حَسَناً فَعَلَ» 173 .
و ذكر «اليد» هاهنا مجاز، و المراد: أنّ الأخلاق في قبضة اللّه، و تحت ملكة اللّه تعالى 174 ، فلمّا كان- في الأكثر- ما يقبضه الإنسان و يملكه إنّما يقبضه بيده و ينقله إلى يده، خاطب عليه الصلاة و السلام بلسان العرف المتقرّر 175 عند المخاطبين و في لغة السامعين.
و قد مضى الكلام على هذا المعنى في عدّة مواضع من كتبنا الموضوعة في علوم القرآن، و لا يحتمل كتابنا هذا أكثر من هذا المقدار.
[المجاز] (19)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَ قَدْ أَعْطَاهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ قَوْساً لَهُ جَزَاءً عَلَى إِقْرَائِهِ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ لِأُبَيٍّ: «تَقَلَّدْهَا شِلْوَةً مِنْ جَهَنَّمَ» 176 .
و في هذا القول مجاز؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام جعل القوس إذ كانت تكسب آخذها- على الوجه المكروه- عذاب جهنّم، كأنّها شلوة من نار جهنّم. و إنّما قال: «شلوة» و لم يقل: «شلوا» لأنّه حمل على معنى القوس، و هي مؤنّثة. و «الشّلو»: العضو.
وَ مِنْهُ حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأُضْحِيَّةِ: «ائْتِنِي بِشِلْوِهَا الْأَيْمَنِ» 177 .