کتابخانه روایات شیعه
[المجاز] (231)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «لَا تَرْفَعْ عَصَاكَ عَنْ أَهْلِكَ» 1225 .
و هذا القول مجاز على أكثر الأقوال؛ و ذلك أنّه عليه الصلاة و السلام لم يرد الضرب بالعصا على الحقيقة؛ لأنّ ذلك مكروه عنده، و مذموم فاعله، ألا تراه عليه الصلاة و السلام يوصي امّته أن يرفقوا بمن ملكت أيمانهم حنوّا عليهم، و رأفة بهم، و نظرا إليهم، فكيف بالأحرار من الأهل و الولد الذين حقّهم أوجب، و الحنوّ عليهم أولى؟! و إنّما المراد: لا ترفع التأديب عنهم، و لا تغب التقويم لهم، فكنّى عن ذلك ب «العصا» حملا للكلام على عرف العرب؛ لأنّ المتعارف بينها على أنّ التأديب في الأكثر لا يكون إلّا بقرع العصا.
و قد يجوز أن يكون المراد بذلك الاجتماع و الائتلاف، من قولهم:
«فلان قد شقّ عصا المسلمين» إذا فرّق، جماعتهم و بدّد الفتهم. و منه قول صلة بن أشيم لأبي السليل: «إيّاك و قتيل العصا 1226 »، يقول: إيّاك أن تكون قاتلا أو مقتولا في شقّ عصا المسلمين.
و منه قول جرير:
فلمّا التقى الحيّان القيت العصا
و مات الهوى لمّا أصيبت مقاتله 1227
يقول: لمّا التقى الحيّان وقع الائتلاف و الدنوّ، و زال التمنّع و النبوّ.
فكأنّه عليه الصلاة و السلام أراد بقوله: «لا ترفع عصاك عن أهلك» أي احملهم أبدا على الصلاح و الائتلاف، و امنعهم من الفساد و الخلاف.
و يقال للرجل إذا كان رقيق السيرة جميل الإيالة 1228 : «إنّه لليّن العصا» قال معن بن أوس المزني:
عليه شريب وادع ليّن العصا
يساجلها جمّاته و تساجله 1229
و قد تكلّمنا على نظير هذا الحديث فيما تقدّم.
[المجاز] (232)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: «كَيْفَ تَصْنَعُ فِي فِتَنٍ تَنْجُمُ مِنْ أَطْرَافِ الْأَرْضِ كَأَنَّهَا صَيَاصِي بَقَرٍ» 1230 .
و في هذا الكلام مجاز على بعض الأقوال: و هو أن يكون المراد تشبيه الفتن الناجمة من أطراف الأرض بنجوم صياصي البقر؛ و هي قرونها، و إنّما سمّيت «صياصي» تشبيها لها بالصياصي التي هي الحصون، فكأنّها تحتمي بقرونها كما تحتمي الرجال بحصونها، فأراد عليه الصلاة و السلام أنّ الفتن تنجم صغارا، ثمّ تعظم و تبدو سحيلا 1231 ، ثمّ تبرم كنجوم
قرون البقر؛ لأنّها تبدو هنات 1232 ضئيلات، ثمّ تكون شككا ناكيات 1233 .
و قد يجوز أن يكون المراد بتشبيه الفتن هاهنا بقرون البقر، المبالغة في وصفها بالحدّة و الشدّة، و كثرة العديد و العدّة.
و قد يجوز أيضا أن يكون تشبيها بقرون البقر لكثرة ما يشرع فيها من الأسنّة 1234 ، ألا ترى إلى قول بعض العرب: «الأسنّة قرون الخيل» لأنّها توضع منها مكان القرون من ذوات القرون، و صدم الخيل بعواليها كنطح البقر بصياصيها.
و ليس موضع المجاز من هذا الكلام قوله عليه الصلاة و السلام:
«كأنّها صياصي بقر» لأنّا قد ذكرنا فيما تقدّم: أنّ دخول كاف التشبيه في الكلام يخرجه من باب المجاز، و لكنّ الموضع الذي يكون فيه هذا القول من حيّز المجازات، قوله عليه الصلاة و السلام: «في فتن تنجم من أطراف الأرض» فجعلها بمنزلة النبات الذي يكون خافيا فيظهر، و القرون الناشئة التي تكون صغارا فتكبر.
[المجاز] (233)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ فِي حَدِيثٍ يَذْكُرُ فِيهِ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ 1235 : «فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا» 1236 .
و هذه من الاستعارات العجيبة؛ لأنّه عليه الصلاة و السلام شبّه الكنوز التي استودعتها بطون الأرض بأفلاذ الكبد؛ و هي شعبها و قطعها؛ لأنّ شعب الكبد من شرائف الأعضاء الرئيسية، فكذلك الكنوز من جواهر الأرض النفيسة، و لمّا شبّهها عليه الصلاة و السلام بأفلاذ الكبد من الوجه الذي ذكرناه، جعل الأرض عند إخراجها كأنّها تقيّأت و دسعت 1237 بما استودعته منها.
و في قوله عليه الصلاة و السلام: «تَقِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا» زيادة فائدة في المعنى المراد؛ و هو وصف الأرض بالمبالغة في إخراج كنوزها؛ حتّى لا يخفى منها خافية، و لا يبقى باقية، و ذلك كما يقول القائل: «قد تقيّأ فلان كبده» إذا أراد المبالغة في وصفه باستيعاب جميع ما في جوفه. و ذلك معروف في كلامهم، و موضوع على قاعدة العرف بينهم.
[المجاز] (234)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ فِي حَدِيثٍ: «مَنْ قَالَ ... كَذَا وَ كَذَا «غُفِرَ لَهُ وَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ طِفَاحُ الْأَرْضِ ذُنُوباً» 1238 .
و هذه استعارة، و المراد: و لو كان عليه ملء الأرض ذنوبا، فجعل الأرض كالإناء الذي طفح ماؤه، و بلغ الغاية امتلاؤه.
و في قوله عليه الصلاة و السلام: «طفاح الأرض» زيادة معنى على قوله: «ملء الأرض» أو «طلاع الأرض» لأنّ «الطلاع» و «الملء»
يفيدان بلوغ الحدّ في الامتلاء، و «الطفاح» يفيد مجاوزة الحدّ في الامتلاء، و قد مضى الكلام على هذا المعنى فيما تقدّم من هذا الكتاب.
[المجاز] (235)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «إِنَّ الْقُرْآنَ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَ مَاحِلٌ مُصَدَّقٌ» 1239 .
و هذا القول مجاز، و المراد أنّ القرآن سبب لثواب العامل به، و عقاب العادل عنه، فكأنّه يشفع للأوّل فيشفّع، و يشكو من الآخر فيصدّق، و «الماحل» هاهنا: الشاكي، و قد يكون أيضا بمعنى الماكر، يقال: «محل فلان بفلان» إذا مكر به، قال الشاعر:
ألا ترى أنّ هذا النّاس قد نصحوا
لنا على طول ما غشّوا و ما محلوا 1240
[المجاز] (236)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «لَا يَكُونُوا مُغَوَّيَاتٍ لِمَالِ اللَّهِ» 1241 .
و هذه استعارة، و «المغوَّاة» في الأصل: زُبية تحفر للسباع و الذئاب، و يموّه رأسها ليخفى قعرها، و يجعل فيها سخل يستدعى به السباع و الذئاب إليها، فتكون مهلكة له إذا وقع فيها، فأراد عليه الصلاة و السلام بهذا القول: لا يكونوا كالمهالك لمال اللّه؛ بأن يأخذوها بالمكر و الخداع، و ينفقوها في الفسوق و الضلال، فيكونوا لها كالمغوَّيات التي تخدع ظواهرها، و تهلك بواطنها، و قال رؤبة بن العجّاج- يعني الدهر-:
إلى مغوّاة الفتى بالمرصاد 1242
كأنّه قال: يسوق الفتى إلى مهلكته؛ تشبيها بالزّبية التي ذكرنا حالها، و وصفنا الحيلة فيها.
[المجاز] (237)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «إِيَّاكُمْ وَ الْمُغْمِضَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ» 1243 .
و هذه استعارة، و المراد ب «المغمضات» هاهنا- على ما فسّره الثقات من العلماء- الذنوب العظام يركبها الرجل و هو يعرفها، فكأنّه يغمض عينيه تعاشيا عنها و هو يبصرها، و يتناكرها اعتمادا و هو يعرفها، و مثل ذلك قول أبي النجم يصف ناقة:
يرسلها التّغميض إن لم ترسل 1244
و ذلك أنّ الناقة إذا غشيت الحوض الذي تذاد عنه، حملتها شدّة العطش على الاقتحام عليه، فغمضت عينها، و حملت على عصيّ الذادة 1245 حتّى ترده.
و ربّما روي هذا الخبر بفتح الميم من «المغمضات» فيكون المراد به على هذا الوجه ضدّ المراد به على الوجه الأوّل؛ لأنّ «المغمضات»- بالكسر كما قلنا-: الذنوب العظام، و «المغمضات»- بالفتح-: الذنوب الصغار، و إنّما سمّيت «مغمضات»؛ لأنّها تدقّ و تخفى، فيركبها الإنسان
- بضرب من الشبهة- و لا يعلم أنّه عاص بفعلها، و لا معاقب من أجلها.
[المجاز] (238)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ وَ قَدْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ: «وَ عَلَيْكَ وَ رَحْمَةُ اللَّهِ» ثُمَّ أَتَاهُ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَ رَحْمَةُ اللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ، فَقَالَ: «وَ عَلَيْكَ» فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ لَمْ تَقُلْ لِهَذَا كَمَا قُلْتَ لِلَّذِي قَبْلُ؟ فَقَالَ: «إِنَّهُ تَشَافَّهَا» 1246 .
فقوله عليه الصلاة و السلام: «إنّه تشافّها» استعارة، و المراد استفرغ جميع التحيّة؛ فلم يدع منها شيئا يزاد على لفظه، و يردّ عليه جوابا عن قوله، و الأوّلان أبقيا من تحيّتهما بقيّة ردّت عليهما، و اعيدت إليهما.
و أصل ذلك مأخوذ من «التشافّ» 1247 و هو تتبّع بقيّة الإناء و الحوض حتّى يستنفذ جميع ما فيه، و تلك البقيّة تسمّى «الشفافة» قال الشاعر:
أخو قفرات دبّبت في عظامه
شفافات أعجاز الكري فهو أخضع 1248
يريد بقايا الكرى و صباباته 1249 ، و دليل ذلك قوله: «أعجاز الكرى» أي أواخره و عقابيله.
و من أمثال العرب: «ليس الرّي عن التشافّ» يقولون: ليس يروي العطشان تتبّع بقيّة الماء حتّى يستفرغ جميع ما في الإناء.
[المجاز] (239)