کتابخانه روایات شیعه
و المراد بذوي الهيئات هاهنا ذوو الأديان، لا ذوو الملابس الحسان، كما يظنّ من لا علم له؛ لأنّ هيئة الدين و ظاهره أحسن الهيئات و المظاهر، و أفخم المعارض 934 و الملابس.
[المجاز] (187)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «جَبْرَائِيلُ نَامُوسُ اللَّهِ» 935 .
و هذا القول مجاز، و أصل «الناموس» المكان الذي يستجنّ 936 فيه الصائد عن الوحش لئلّا تراه فتنفر منه، و من ذلك سمّي من يجعله الإنسان موضع سرّه و مستودع نفثه 937 «ناموسا» يقال منه: «نمس ينمس نمسا» و «نامسه منامسة» فكأنّه عليه السّلام إنّما شبّهه بذلك؛ لأنّه يستخفى بما يؤدّيه عن الله سبحانه إلى الأنبياء عليهم السلام من أوامر الله التي تقيّد القلوب بحبائل الخوف و الرجاء، و تجتذبها بعلائق الوعد و الإيعاد؛ تشبيها بالصائد الذي يختل 938 صيده حتّى يصيب غرّته 939 ، و يقتحم غفلته.
و قد قال بعضهم: «إنّ الناموس في كلام بعض العرب اسم للنمّام، فكأنّ جبرائيل عليه السّلام هو الذي يظهر أمر اللّه لأنبيائه، لا على الوجه المذموم
الذي يقصده لسان النمّام، و يعتمده ناقل الكلام» 940 .
و قال بعضهم: «الناموس: من أسماء العلم» 941 ، فيكون في الخبر- إذا حملناه على هذا الوجه- تقدير مضاف حذف لدلالة الكلام عليه، فكأنّه عليه الصلاة و السلام قال: «جبرائيل حامل علم اللّه» أو «صاحب علم الله» و الحذف إنّما يحسن في الكلام إذا كان فيما يبقى دليل على ما يلقى، كقوله تعالى: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها 942 ، فلمّا كانت القرية و العير 943 لا تسألان و لا تجيبان، علم أنّ المطلوب غيرهما؛ و أنّه المضاف إليهما. و لا يجوز على هذا: «جاء زيد» و أنت تريد غلام زيد؛ لأنّ المجيء قد يكون من الغلام كما يكون من صاحب الغلام، فلا دليل في مثل هذا على المحذوف كما كان في الوجه الأوّل 944 .
[المجاز] (188)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «بَلَغَنِي عَنْ فُلَانٍ كَلَامٌ تَشَذَّرَ لِي عَنْ إِيعَادٍ» 945 .
فوصف الكلام بالتشذّر مجاز، و أصل «التشذّر» أنّ الناقة إذا القحت عقدت ذنبها و نصبته على عجزها، قال الشاعر:
لها ذنب كالقنو قد مذلت به
و أسمح للتّخطار بعد التّشذّر 946
فكأنّه عليه الصلاة و السلام أراد أنّ الكلام الذي سمعه، أعرب له عمّا في ضمنه من الوعيد، كما أنّ تشذّر الناقة بذنبها دليل على لقاح بطنها.
و يجوز أن يكون المراد صفة ذلك الكلام بالارتفاع و العلوّ و الاشتطاط 947 و الغلوّ تشبيها بذنب الناقة إذا عقدته لاقحة، و رفعته شامذة 948 .
[المجاز] (189)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «الْإِيمَانُ هَيُوبٌ» 949 .
و في هذا الكلام مجاز؛ لأنّ فيه تقدير كلام محذوف، فكأنّه عليه الصلاة و السلام قال: «صاحب الإيمان هيوب» و العرب تقول: «الباب لئيم» أي مغلق الباب دون الأضياف، و المراد أنّ صاحب الإيمان بما معه من حواجز إيمانه. و بصائر إيقانه، يهاب تطرّق الحوب 950 ، و مواقعة الذنوب، فلا يقدم عليها إقدام المرتكس الهاوي، و الضالّ الغاوي.
[المجاز] (190)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «الِاسْتِغْفَارُ مَهْدَمَةٌ لِلذُّنُوبِ» 951 .
فوصف الاستغفار بأنّه يهدم الذنوب؛ مجاز؛ لأنّ المعاصي الكثيرة لمّا كانت كالبناء في تراكب أجزائها و استغلاظ جرابها 952 ، كان استغفار النادم و إقلاع التائب، كأنّهما هدم لذاك البناء من أساسه، و كبّ له على امّ رأسه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
[المجاز] (191)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» 953 .
و هذا القول مجاز، و المراد: ما استمع اللّه لشيء كاستماعه لنبيّ يداوم تلاوة القرآن، فيجعله دأبه و ديدنه، و هجّيراه 954 و شغله، كما يجعل غيره الغناء مستروح حزنه، و مستفسح قلبه، ليس أنّ هناك غناء به على الحقيقة، و هذا كما يقول القائل: «قد جعل فلان الصوم لذّته، و الصلاة طربته» إذا أقامهما مقام شغل غيره باللذّات، و طربه إلى المستحسنات.
و قد قيل: «إنّ المراد بذلك تحزين القراءة؛ ليكون أشجى للسامع، و آخذ بقلب العارف، فسمّى هذه الطريقة: «غناء» على الاتساع؛ لأنّها تقود أزمّة القلوب، و تستميل نوازع النفوس 955 . و إلى ذلك ذهب عليه
الصلاة و السلام
بِقَوْلِهِ: «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ» 956 .
، في حديث آخر.
و ليس المراد بذلك تلحين القراءة و تطريبها؛ فإنّ الأخبار قد وردت بذمّ هذه الطريقة حتّى
ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أُمُوراً عَدَّدَهَا، ثُمَّ قَالَ: «وَ أَنْ يُتَّخَذَ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ» 957 .
و قال بعضهم: «معنى يتغنّى بالقرآن» أي يذكر القرآن، من قولهم:
تغنّى فلان بفلان؛ إذا ذكره في شعره إمّا هجاء و إمّا مدحا».
فأمّا الحديث الاخر و هو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» 958 .
، فليس المراد به هذا المعنى، و إنّما أراد عليه الصلاة و السلام: ليس منّا من لم يستغن بالقرآن عمّا سواه، و «تغنّى» هاهنا بمعنى استغنى، و هو تفعّل من الاستغناء، لا من الغناء، قال العجّاج:
أرى الغواني قد غنين عنّي
و قلن لي عليك بالتّغنّي 959
أي استغنين عنّي و قلن لي: استغن عنّا كما استغنينا عنك، و هذا عند موت الشباب، و انقضاء الآراب.
و يؤكّد ذلك الحديث الآخر؛ و هو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَرَأَى أَنَّ أَحَداً أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ، فَقَدْ عَظَّمَ صَغِيراً، وَ صَغَّرَ عَظِيماً» 960 .
و لو كان المراد بالتغنّي في هذا الخبر ترجيع الصوت بالقرآن، لكان من لم يقصد هذه الطريقة في تلاوته و يعتمدها في صلاته، داخلا تحت الذمّ، و مقارفا 961 للذنب؛
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ».
فبان أنّ المراد به الاستغناء لا الغناء.
[المجاز] (192)
وَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» 962 .
و هذا مجاز، و ذلك أنّ العرب كانت إذا قرعتها القوارع، و نزلت بها النوازل 963 ، و حطمتها السنون الحواطم 964 ، و سلبت كرائم أعلاقها 965 من مال مثمر، أو ولد مؤمّل، أو حميم مرجّب 966 ، ألقت الملاوم على الدهر، فقالت في كلامها و أسجاعها و أرجازها و أشعارها: «استقاد 967 منّا
الدهر» و «جار علينا الدهر» و «رمانا بسهامه الدهر» كقول القائل منهم- و هو عديّ بن زيد-:
ثمّ أمسوا لعب الدّهر بهم
و كذاك الدّهر يودي بالرّجال 968
و كقول الآخر:
أكل الدّهر عليهم و شرب 969
و كقول الآخر:
و الدّهر غيّرنا و ما يتغيّر 970
و الأشعار في ذلك أكثر من أن نحيط بها، أو نأتي على جميعها، فكأنّه عليه الصلاة و السلام قال: لا تذمّوا الذي يفعل بكم هذه الأفعال؛ فإنّ اللّه سبحانه هو المعطي و المنتزع، و المغيّر و المرتجع، و الرائش 971 و الهائض 972 ، و الباسط و القابض.
و قد جاء في التنزيل ما هو كشف عن هذا المعنى؛ و هو قوله تعالى: