کتابخانه روایات شیعه
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
الموضع لأنه بدل من البصر الذي هو خبر يكون و المراد بالبصر هاهنا البصيرة فيصير تقدير الكلام فالناظر بقلبه العامل بجوارحه يكون مبتدأ عمله بالفكر و البصيرة بأن يعلم أ عمله له أم عليه.
و يروى كالسابل على غير طريق و السابل طالب السبيل و
قد جاء في الخبر المرفوع من عمل بغير هدى لم يزدد من الله إلا بعدا.
و في كلام الحكماء العامل بغير علم كالرامي من غير وتر.
وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَى مِثَالِهِ فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ وَ مَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ وَ قَدْ قَالَ الرَّسُولُ الصَّادِقُ ص إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ وَ يُبْغِضُ عَمَلَهُ وَ يُحِبُّ الْعَمَلَ وَ يُبْغِضُ بَدَنَهُ.
هذا الكلام مشتق من قوله تعالى وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً 6649 و هو تمثيل ضربه الله تعالى لمن ينجع فيه الوعظ و التذكير من البشر و لمن لا يؤثر ذلك فيه مثله بالأرض العذبة الطيبة تخرج النبت و الأرض السبخة الخبيثة لا تنبت و كلام أمير المؤمنين ع إلى هذا المعنى يومئ يقول إن لكلتا حالتي الإنسان الظاهرة أمرا باطنا يناسبها من أحواله و الحالتان الظاهرتان ميله إلى العقل و ميله إلى الهوى فالمتبع لمقتضى عقله يرزق السعادة و الفوز فهذا هو الذي طاب
ظاهره و طاب باطنه و المتبع لمقتضى هواه و عادته و دين أسلافه يرزق الشقاوة و العطب و هذا هو الذي خبث ظاهره و خبث باطنه.
فإن قلت فلم قال فما طاب و هلا قال فمن طاب و كذلك في خبث قلت كلامه في الأخلاق و العقائد و ما تنطوي عليه الضمائر يقول ما طاب من هذه الأخلاق و الملكات و هي خلق النفس الربانية المريدة للحق من حيث هو حق سواء كان ذلك مذهب الآباء و الأجداد أو لم يكن و سواء كان ذلك مستقبحا مستهجنا عند العامة أو لم يكن و سواء نال به من الدنيا حظا أو لم ينل يستطيب باطنه يعني ثمرته و هي السعادة و هذا المعنى من مواضع ما لا من مواضع من.
فأما الخبر المروي 6650 فإنه مذكور في كتب المحدثين و قد فسره أصحابنا المتكلمون فقالوا إن الله تعالى قد يحب المؤمن و محبته له إرادة إثابته و يبغض عملا من أعماله و هو ارتكاب صغيرة من الصغائر فإنها مكروهة عند الله و ليست قادحة في إيمان المؤمن لأنها تقع مكفرة و كذلك قد يبغض العبد بأن يريد عقابه نحو أن يكون فاسقا لم يتب و يحب عملا من أعماله نحو أن يطيع ببعض الطاعات و حبه لتلك الطاعة هي إرادته تعالى أن يسقط عنه بها بعض ما يستحقه من العقاب المتقدم وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً وَ كُلُّ نَبَاتٍ لَا غِنَى بِهِ عَنِ الْمَاءِ وَ الْمِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ فَمَا طَابَ سَقْيُهُ طَابَ غَرْسُهُ وَ حَلَتْ ثَمَرَتُهُ وَ مَا خَبُثَ سَقْيُهُ خَبُثَ غَرْسُهُ وَ أَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ.
السقي مصدر سقيت و السقي بالكسر النصيب من الماء.
و أمر الشيء أي صار مرا.
و هذا الكلام مثل في الإخلاص و ضده و هو الرياء و حب السمعة فكل عمل يكون مدده الإخلاص لوجهه تعالى لا غير فإنه زاك حلو الجنى و كل عمل يكون الرياء و حب الشهرة مدده فليس بزاك و تكون ثمرته مرة المذاق
155 و من خطبة له ع يذكر فيها بديع خلقة الخفاش
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الْأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ وَ رَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ هُوَ اللَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ أَحَقُّ وَ أَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً وَ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلًا خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَ لَا مَشُورَةِ مُشِيرٍ وَ لَا مَعُونَةِ مُعِينٍ فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ فَأَجَابَ وَ لَمْ يُدَافِعْ وَ انْقَادَ وَ لَمْ يُنَازِعْ وَ مِنْ لَطَائِفِ صَنَعْتِهِ وَ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ الْخَفَافِيشِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْءٍ وَ يَبْسُطُهَا الظَّلَامُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ وَ كَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا وَ تَتَّصِلُ بِعَلَانِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا وَ رَدَعَهَا بِتَلَأْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا وَ أَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِي بُلَجِ ائْتِلَاقِهَا وَ هِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا وَ جَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي الْتِمَاسِ أَرْزَاقِهَا فَلَا يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ وَ لَا تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا وَ بَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا وَ دَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ فِي وِجَارِهَا أَطْبَقَتِ الْأَجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا وَ تَبَلَّغَتْ بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا
فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَ مَعَاشاً وَ النَّهَارَ سَكَناً وَ قَرَاراً وَ جَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّيَرَانِ كَأَنَّهَا شَظَايَا الآْذَانِ غَيْرَ ذَوَاتِ رِيشٍ وَ لَا قَصَبٍ إِلَّا أَنَّكَ تَرَى مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلَاماً لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا وَ لَمْ 6651 يَغْلُظَا فَيَثْقُلَا تَطِيرُ وَ وَلَدُهَا لَاصِقٌ بِهَا لَاجِئٌ إِلَيْهَا يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ وَ يَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ لَا يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ وَ يَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ وَ يَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ وَ مَصَالِحَ نَفْسِهِ فَسُبْحَانَ الْبَارِئِ لِكُلِّ شَيْءٍ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ.
الخفاش واحد جمعه خفافيش و هو هذا الطائر الذي يطير ليلا و لا يطير نهارا و هو مأخوذ من الخفش و هو ضعف في البصر خلقة و الرجل أخفش و قد يكون علة و هو الذي يبصر بالليل لا بالنهار أو في يوم غيم لا في يوم صحو.
و انحسرت الأوصاف كلت و أعيت و ردعت كفت و المساغ المسلك.
قال أحق و أبين مما ترى العيون و ذلك لأن العلوم العقلية إذا كانت ضرورية أو قريبة من الضرورية كانت أوثق من المحسوسات لأن الحس يغلط دائما فيرى الكبير صغيرا كالبعيد و الصغير كبيرا كالعنبة في الماء ترى كالإجاصة و يرى الساكن متحركا كجرف الشط إذا رآه راكب السفينة متصاعدا و يرى المتحرك ساكنا كالظل إلى غير ذلك من الأغاليط و القضايا العقلية الموثوق بها لأنها بديهية أو تكاد فالغلط غير داخل عليها قوله يقبضها الضياء أي يقبض أعينها.
قوله و تتصل بعلانية برهان الشمس كلام جيد في مذاهب الاستعارة.
و سبحات إشراقها جلاله و بهاؤه و أكنها سترها و بلج ائتلافها جمع بلجة و هي أول الصبح و جاء بلجة أيضا بالفتح.
و الحداق جمع حدقة العين و الإسداف مصدر أسدف الليل أظلم.
و غسق الدجنة ظلام الليل فإذا ألقت الشمس قناعها أي سفرت عن وجهها و أشرقت.
و الأوضاح جمع وضح و قد يراد به حلي يعمل من الدراهم الصحاح و قد يراد به الدراهم الصحاح نفسها و إن لم يكن حليا و الضباب جمع ضب و وجارها بيتها و شظايا الآذان أقطاع منها و القصب هاهنا الغضروف.
و خلاصة الخطبة التعجب من أعين الخفافيش التي تبصر ليلا و لا تبصر نهارا و كل الحيوانات بخلاف ذلك فقد صار الليل لها معاشا و النهار لها سكنا بعكس الحال فيما عداها ثم من أجنحتها التي تطير بها و هي لحم لا ريش عليه و لا غضروف و ليست رقيقة فتنشق و لا كثيفة فتثقلها عن الطيران ثم من ولدها إذا طارت احتملته و هو لاصق بها فإذا وقعت وقع ملتصقا بها هكذا إلى أن يشتد و يقوى على النهوض فيفارقها
فصل في ذكر بعض غرائب الطيور و ما فيها من عجائب
و اعلم أنه ع قد أتى بالعلة الطبيعية في عدم إبصارها نهارا و هو انفعال حاسة بصرها عن الضوء الشديد و قد يعرض مثل ذلك لبعض الناس و هو المرض المسمى روز كور أي أعمى النهار و يكون ذلك عن إفراط التحلل في الروح النوري فإذا لقي حر النهار أصابه قمر ثم يستدرك ذلك برد الليل فيزول فيعود الإبصار.
و أما طيرانها من غير ريش فإنه ليس بذلك الطيران الشديد و إنما هو نهوض و خفة أفادها الله تعالى إياه بواسطة الطبيعة و التصاق الولد بها لأنها تضمه إليها بالطبع و ينضم إليها كذلك و تستعين على ضمه برجليها و بقصر المسافة و جملة الأمر أنه تعجب من عجيب و في الأحاديث العامية قيل للخفاش لما ذا لا جناح لك قال لأني تصوير مخلوق قيل فلما ذا لا تخرج نهارا قال حياء من الطيور يعنون أن المسيح ع صوره و أن إليه الإشارة بقوله تعالى وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي 6652 .
و في الطير عجائب و غرائب لا تهتدي العقول إليها و يقال إن ضربين من الحيوان أصمان لا يسمعان و هما النعام و الأفاعي.
و تقول العرب إن الظليم يسمع بعينه و أنفه لا يحتاج معهما إلى حاسة أخرى و الكراكي يجمعها أمير لها كيعسوب النحل و لا يجمعها إلا أزواجا و العصافير آلفة للناس آنسة بهم لا تسكن دارا حتى يسكنها إنسان و متى سكنتها لم تقم فيها إذا خرج الإنسان منها فبفراقه تفارق و بسكناه تسكن و يذكر أهل البصرة أنه إذا كان زمن الخروج إلى البساتين لم يبق في البصرة عصفور إلا خرج إليها إلا ما أقام على بيضه و فراخه و قد يدرب العصفور فيستجيب من المكان البعيد و يرجع.