کتابخانه روایات شیعه
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
يسأل هل لهم حق في الإمامة أم لا لأن الإمامة قد يتعلق بها حقوق سواها ثم دفع الرواية المتعلقة ببيت فاطمة ع و قال فأما تمنيه أن يبايع غيره فلو ثبت لم يكن ذما لأن من اشتد التكليف عليه فهو يتمنى خلافه 10715 .
اعترض المرتضى رحمه الله هذا الكلام فقال ليس يجوز أن يقول أبو بكر ليتني كنت سألت عن كذا إلا مع الشك و الشبهة لأن مع العلم و اليقين 10716 لا يجوز مثل هذا القول هكذا يقتضي الظاهر فأما قول إبراهيم ع فإنما ساغ أن يعدل عن ظاهره لأن الشك لا يجوز على الأنبياء و يجوز على غيرهم على أنه ع قد نفى عن نفسه الشك بقوله بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي و قد قيل إن نمرود قال له إذا كنت تزعم أن لك ربا يحيي الموتى فاسأله أن يحيي لنا ميتا إن كان على ذلك قادرا فإن لم تفعل ذلك قتلتك فأراد بقوله وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي لآمن توعد عدوك لي بالقتل و قد يجوز أن يكون طلب ذلك لقومه و قد سألوه أن يرغب إلى الله تعالى فيه فقال ليطمئن قلبي إلى إجابتك لي و إلى إزاحة علة قومي و لم يرد ليطمئن قلبي إلى أنك تقدر على أن تحيي الموتى لأن قلبه قد كان بذلك مطمئنا و أي شيء يريد أبو بكر من التفضيل أكثر من قوله إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش و أي فرق بين ما يقال عند الموت و بين ما يقال قبله إذا كان محفوظا معلوما لم ترفع كلمة و لم تنسخ.
و بعد فظاهر الكلام لا يقتضي 10717 هذا التخصيص و نحن مع الإطلاق و الظاهر و أي حق يجوز أن يكون للأنصار في الإمامة غير أن يتولاها رجل منهم حتى يجوز أن يكون الحق الذي تمنى أن يسأل عنه غير الإمامة و هل هذا إلا تعسف و تكلف
و أي شبهة تبقى بعد قول أبي بكر ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر حق فكنا لا ننازعه أهله و معلوم أن التنازع لم يقع بينهم إلا في الإمامة نفسها لا في حق آخر من حقوقها.
فأما قوله إنا قد بينا أنه لم يكن منه في بيت فاطمة ما يوجب أن يتمنى أنه لم يفعله فقد بينا فساد ما ظنه فيما تقدم.
فأما قوله إن من اشتد التكليف عليه قد يتمنى خلافه فليس بصحيح لأن ولاية أبي بكر إذا كانت هي التي اقتضاها الدين و النظر للمسلمين في تلك الحال و ما عداها كان مفسدة و مؤديا إلى الفتنة فالتمني لخلافها لا يكون إلا قبيحا 10718 .
قلت أما قول قاضي القضاة إن هذا التمني لا يقتضي الشك في أن الإمامة لا تكون إلا في قريش كما أن قول إبراهيم وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي لا يقتضي الشك في أنه تعالى قادر على ذلك فجيد.
فأما قول المرتضى إنما ساغ أن يعدل عن الظاهر في حق إبراهيم لأنه نبي معصوم لا يجوز عليه الشك فيقال له و كذلك ينبغي أن يعدل عن ظاهر كلام أبي بكر لأنه رجل مسلم عاقل فحسن الظن به يقتضي صيانة أفعاله و أقواله عن التناقض قوله إن إبراهيم قد نفى عن نفسه الشك بقوله بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قلنا إن أبا بكر قد نفى عن نفسه الشك بدفع الأنصار عن الإمامة و إثباتها في قريش خاصة فإن كانت لفظة بلى دافعة لشك إبراهيم الذي يقتضيه قوله وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ففعل أبي بكر و قوله يوم السقيفة
يدفع الشك الذي يقتضيه قوله ليتني سألته و لا فرق في دفع الشك بين أن يتقدم الدافع أو يتأخر أو يقارن.
ثم يقال للمرتضى أ لست في هذا الكتاب و هو الشافي بينت 10719 أن قصة السقيفة لم يجر فيها ذكر نص عن رسول الله ص بأن الأئمة من قريش و أنه لم يكن هناك إلا احتجاج أبي بكر و عمر بأن قريشا أهل النبي ص و عشيرته و أن العرب لا تطيع غير قريش و ذكرت عن الزهري و غيره أن القول الصادر عن أبي بكر إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش ليس نصا مرويا عن رسول الله ص و إنما هو قول قاله أبو بكر من تلقاء نفسه و رويت في ذلك الروايات و نقلت من الكتب من تاريخ الطبري و غيره صورة الكلام و الجدال الدائر بينه و بين الأنصار فإذا كان هذا قولك فلم تنكر على أبي بكر قوله ليتني كنت سألت رسول الله ص هل للأنصار في هذا الأمر حق لأنه لم يسمع النص و لا رواه و لا روي له و إنما دفع الأنصار بنوع من الجدل فلا جرم بقي في نفسه شيء من ذلك و قال عند موته ليتني كنت سألت رسول الله ص و ليس ذلك مما يقتضي شكه في بيعته كما زعم الطاعن لأنه إنما يشك في بيعته لو كان قال قائل أو ذهب ذاهب إلى أن الإمامة ليست إلا في الأنصار و لم يقل أحد ذلك بل النزاع كان في هل الإمامة مقصورة على قريش خاصة أم هي فوضى بين الناس كلهم و إذا كانت الحال هذه لم يكن شاكا في إمامته و بيعته بقوله ليتني سألت رسول الله ص هل للأنصار في هذا حق لأن بيعته على كلا التقديرين تكون صحيحة.
فأما قول قاضي القضاة لعله أراد حقا للأنصار غير الإمامة نفسها فليس بجيد و الذي اعترضه به المرتضى جيد فإن الكلام لا يدل إلا على الإمامة نفسها و لفظة المنازعة تؤكد ذلك.
و أما حديث الهجوم على بيت فاطمة ع فقد تقدم الكلام فيه و الظاهر عندي صحة ما يرويه المرتضى و الشيعة و لكن لا كل ما يزعمونه بل كان بعض ذلك و حق لأبي بكر أن يندم و يتأسف على ذلك و هذا يدل على قوة دينه و خوفه من الله تعالى فهو بأن يكون منقبة 10720 له أولى من كونه طعنا عليه.
فأما قول قاضي القضاة إن من اشتد التكليف عليه فقد يتمنى خلافه و اعتراض المرتضى عليه فكلام قاضي القضاة أصح و أصوب لأن أبا بكر و إن كانت ولايته مصلحة و ولاية غير مفسدة فإنه ما يتمنى أن يكون الإمام غيره مع استلزام ذلك للمفسدة بل تمنى أن يلي الأمر غيره و تكون المصلحة بحالها أ لا ترى أن خصال الكفارة في اليمين كل واحدة منها مصلحة و ما عداها لا يقوم مقامها في المصلحة و أحدها يقوم مقام الأخرى في المصلحة فأبو بكر تمنى أن يلي الأمر عمر أو أبو عبيدة بشرط أن تكون المصلحة الدينية التي تحصل من بيعته حاصلة من بيعة كل واحد من الآخرين
الطعن الثالث
قالوا إنه ولي عمر الخلافة و لم يوله رسول الله ص شيئا
من أعماله البتة إلا ما ولاه يوم خيبر فرجع منهزما و ولاه الصدقة فلما شكاه العباس عزله.
أجاب قاضي القضاة بأن تركه ع أن يوليه لا يدل على أنه لا يصلح لذلك و توليته إياه لا يدل على صلاحيته للإمامة فإنه ص قد ولى خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و لم يدل ذلك على صلاحيتهما للإمامة و كذلك تركه أن يولي لا يدل على أنه غير صالح بل المعتبر بالصفات التي تصلح للإمامة فإذا كملت صلح لذلك ولي من قبل أو لم يول و قد ثبت أن النبي ص ترك أن يولي أمير المؤمنين ع أمورا كثيرة و لم يجب إلا من يصلح لها و ثبت أن أمير المؤمنين ع لم يول الحسين ع ابنه و لم يمنع ذلك من أن يصلح للإمامة و حكي عن أبي علي أن ذلك إنما كان يصح أن يتعلق به لو ظفروا بتقصير من عمر فيما تولاه فأما و أحواله معروفة في قيامه بالأمر حين يعجز غيره فكيف يصح ما قالوه و بعد فهلا دل ما روي من قوله و إن تولوا عمر تجدوه قويا في أمر الله قويا في بدنه على جواز ذلك و إن ترك النبي ص توليته لأن هذا القول أقوى من الفعل 10721 .
اعترض المرتضى رحمه الله فقال قد علمنا بالعادة أن من ترشح لكبار الأمور لا بد من أن يدرج إليها بصغارها لأن من يريد بعض الملوك تأهيله للأمر من بعده لا بد من أن ينبه عليه بكل قول و فعل يدل على ترشيحه لهذه المنزلة و يستكفيه من أمور ولاياته 10722 ما يعلم عنده أو يغلب على ظنه صلاحه لما يريده له و إن من يرى الملك مع حضوره و امتداد الزمان و تطاوله لا يستكفيه شيئا من الولايات و متى ولاه عزله و إنما يولي غيره و يستكفي سواه لا بد أن يغلب في الظن أنه ليس بأهل للولاية و إن جوزنا أنه لم يوله لأسباب كثيرة سوى أنه لا يصلح للولاية إلا أن مع هذا التجويز لا بد أن
يغلب على الظن بما ذكرناه فأما خالد و عمرو فإنما لم يصلحا للإمامة لفقد شروط الإمامة فيهما و إن كانا يصلحان لما ولياه من الإمارة فترك الولاية مع امتداد الزمان و تطاول الأيام و جميع الشروط التي ذكرناها تقتضي غلبه الظن لفقد الصلاح و الولاية لشيء 10723 لا تدل على الصلاح لغيره إذا كانت الشرائط في القيام بذلك الغير معلوما فقدها و قد نجد الملك يولي بعض أموره من لا يصلح للملك بعده لظهور فقد الشرائط فيه و لا يجوز أن يكون بحضرته من يرشحه للملك بعده ثم لا يوليه على تطاول الزمان شيئا من الولايات فبان الفرق بين الولاية و تركها فيما ذكرناه.
فأما أمير المؤمنين ع و إن يتول جميع أمور النبي ص في حياته فقد تولى أكثرها و أعظمها و خلفه في المدينة و كان الأمير على الجيش المبعوث إلى خيبر و جرى الفتح على يديه بعد انهزام من انهزم منها و كان المؤدي عنه سورة براءة بعد عزل من عزل عنها و ارتجاعها منه إلى غير ذلك من عظيم الولايات و المقامات بما يطول شرحه و لو لم يكن إلا أنه لم يول عليه واليا قط لكفى.
فأما اعتراضه بأن أمير المؤمنين ع لم يول الحسين فبعيد عن الصواب لأن أيام أمير المؤمنين ع لم تطل فيتمكن فيها من مراداته و كانت على قصرها منقسمة بين قتال الأعداء لأنه ع لما بويع لم يلبث أن خرج عليه أهل البصرة فاحتاج إلى قتالهم ثم انكفأ من قتالهم إلى قتال أهل الشام و تعقب ذلك قتال أهل النهروان و لم تستقر به الدار و لا امتد به الزمان و هذا بخلاف أيام النبي ص التي تطاولت و امتدت على أنه قد نص عليه بالإمامة بعد أخيه الحسن و إنما تطلب الولايات لغلبة الظن بالصلاح للإمامة.
فإن كان هناك وجه يقتضي العلم بالصلاح لها كان أولى من طريق الظن على أنه
لا خلاف بين المسلمين أن الحسين ع كان يصلح للإمامة و إن لم يوله أبوه الولايات و في مثل ذلك خلاف من حال عمر فافترق الأمران فأما قوله إنه لم يعثر على عمر بتقصير في الولاية فمن سلم بذلك أ و ليس يعلم أن مخالفته تعد تقصيرا كثيرا و لو لم يكن إلا ما اتفق عليه من خطئه في الأحكام و رجوعه من قول إلى غيره و استفتائه الناس في الصغير و الكبير و قوله كل الناس أفقه من عمر لكان فيه كفاية و ليس كل النهوض بالإمامة يرجع إلى حسن التدبير و السياسة الدنياوية و رم الأعمال و الاستظهار في جباية الأموال و تمصير الأمصار و وضع الأعشار بل حظ الإمامة من العلم بالأحكام و الفتيا بالحلال و الحرام و الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه أقوى فمن قصر في هذا لم ينفعه أن يكون كاملا في ذلك.
فأما قوله فهلا دل ما روي من
قوله ع فإن وليتم عمر وجدتموه قويا في أمر الله قويا في بدنه.
فهذا لو ثبت لدل و قد تقدم القول 10724 عليه و أقوى ما يبطله عدول أبي بكر عن ذكره و الاحتجاج به لما أراد النص على عمر فعوتب على ذلك و قيل له ما تقول لربك إذ وليت علينا فظا غليظا فلو كان صحيحا لكان يحتج به و يقول وليت عليكم من شهد النبي ص بأنه قوي في أمر الله قوي في بدنه و قد قيل في الطعن على صحة هذا الخبر إن ظاهره يقتضي تفضيل عمر على أبي بكر و الإجماع بخلاف ذلك لأن القوة في الجسم فضل قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ 10725 و بعد فكيف يعارض ما اعتمدناه من عدوله ع عن ولايته و هو أمر معلوم بهذا الخبر المردود المدفوع.