کتابخانه روایات شیعه
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
قال أبو عثمان و بلغ عمر بن الخطاب أن أناسا من رواة الأشعار و حملة الآثار يعيبون الناس و يثلبونهم في أسلافهم فقام على المنبر و قال إياكم و ذكر العيوب و البحث عن الأصول فلو قلت لا يخرج اليوم من هذا الأبواب إلا من لا وصمة فيه لم يخرج منكم أحد فقام رجل من قريش نكره أن نذكره فقال إذا كنت أنا و أنت يا أمير المؤمنين نخرج فقال كذبت بل كان يقال لك يا قين بن قين اقعد.
قلت الرجل الذي قام هو المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي كان عمر يبغضه لبغضه أباه خالدا و لأن المهاجر كان علوي الرأي جدا و كان أخوه عبد الرحمن بخلافه شهد المهاجر صفين مع علي ع و شهدها عبد الرحمن مع معاوية و كان المهاجر مع علي ع في يوم الجمل و فقئت ذلك اليوم عينه و لأن الكلام الذي بلغ عمر بلغه عن المهاجر و كان الوليد بن المغيرة مع جلالته في قريش و كونه يسمى ريحانة قريش و يسمى العدل و يسمى الوحيد حداد يصنع الدروع و غيرها بيده ذكر ذلك عنه عبد الله بن قتيبة في كتاب المعارف 7425 .
و روى أبو الحسن المدائني هذا الخبر في كتاب أمهات الخلفاء و قال إنه روى عند جعفر بن محمد ع بالمدينة فقال لا تلمه يا ابن أخي إنه أشفق أن يحدج 7426 بقضية نفيل بن عبد العزى و صهاك أمة الزبير بن عبد المطلب ثم قال رحم الله عمر فإنه لم يعد السنة و تلا إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 7427 .
أما قول ابن جرير الآملي الطبرستاني في كتاب المسترشد إن عثمان والد
أبي بكر الصديق كان ناكحا أم الخير ابنة أخته فليس بصحيح و لكنها ابنة عمه لأنها ابنة صخر بن عامر و عثمان هو ابن عمرو بن عامر و العجب لمن اتبعه من فضلاء الإمامية على هذه المقالة من غير تحقيق لها من كتب الأنساب و كيف تتصور هذه الواقعة في قريش و لم يكن أحد منهم مجوسيا و لا يهوديا و لا كان من مذهبهم حل نكاح بنات الأخ و لا بنات الأخت.
ثم نعود لإتمام حكاية كلام شيخنا أبي عثمان قال و متى يقدر الناس حفظك الله على رجل مسلم من كل ابنة و مبرأ من كل آفة في جميع آبائه و أمهاته و أسلافه و أصهاره حتى تسلم له أخواله و أعمامه و خالاته و عماته و أخواته و بناته و أمهات نسائه و جميع من يناسبه من قبل جداته و أجداده و أصهاره و أختانه و لو كان ذلك موجودا لما كان لنسب رسول الله ص فضيلة في النقاء و التهذيب و في التصفية و التنقيح
قال رسول الله ص ما مسني عرق سفاح قط و ما زلت أنقل من الأصلاب السليمة من الوصوم 7428 و الأرحام البريئة من العيوب.
فلسنا نقضي لأحد بالنقاء من جميع الوجوه إلا لنسب من صدقه القرآن و اختاره الله على جميع الأنام و إلا فلا بد من شيء يكون في نفس الرجل أو في طرفيه أو في بعض أسلافه أو في بعض أصهاره و لكنه يكون مغطى بالصلاح و محجوبا بالفضائل و مغمورا بالمناقب.
و لو تأملت أحوال الناس لوجدت أكثرهم عيوبا أشدهم تعييبا قال الزبرقان بن بدر ما استب رجلان إلا غلب ألأمهما و قال خصلتان كثيرتان في امرئ السوء
كثرة اللطام و شدة السباب و لو كان ما يقوله أصحاب المثالب حقا لما كان على ظهرها عربي كما قال عبد الملك بن صالح الهاشمي إن كان ما يقول بعض في بعض حقا فما فيهم صحيح و إن كان ما يقول بعض المتكلمين في بعض حقا فما فيهم مسلم.
قوله ع ألا و إن الله قد جعل للخير أهلا و للحق دعائم و للطاعة عصما الدعائم ما يدعم بها البيت لئلا يسقط و العصم جمع عصمة و هو ما يحفظ به الشيء و يمنع فأهل الخير هم المتقون و دعائم الحق الأدلة الموصلة إليه المثبتة له في القلوب و عصم الطاعة هي الإدمان على فعلها و التمرن على الإتيان بها لأن المرون على الفعل يكسب الفاعل ملكة تقتضي سهولته عليه و العون هاهنا هو اللطف المقرب من الطاعة المبعد من القبيح.
ثم قال ع إنه يقول على الألسنة و يثبت الأفئدة و هذا من باب التوسع و المجاز لأنه لما كان مستهلا للقول أطلق عليه إنه يقول على الألسنة و لما كان الله تعالى هو الذي يثبت الأفئدة كما قال يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ 7429 نسب التثبيت إلى اللطف لأنه من فعل الله تعالى كما ينسب الإنبات إلى المطر و إنما المنبت للزرع هو الله تعالى و المطر فعله.
ثم قال ع فيه كفاء لمكتف و شفاء لمشتف و الوجه فيه كفاية فإن الهمز لا وجه له هاهنا لأنه من باب آخر و لكنه أتى بالهمزة للازدواج بين كفاء
و شفاء كما قالوا الغدايا و العشايا و كما
قال ع مأزورات غير مأجورات.
فأتى بالهمز و الوجه الواو للازدواج
[ذكر بعض أحوال العارفين و الأولياء]
ثم ذكر العارفين فقال و اعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه إلى قوله و هذبه التمحيص .
و اعلم أن الكلام في العرفان لم يأخذه أهل الملة الإسلامية إلا عن هذا الرجل و لعمري لقد بلغ منه إلى أقصى الغايات و أبعد النهايات و العارفون هم القوم الذين اصطفاهم الله تعالى و انتخبهم لنفسه و اختصهم بأنسه أحبوه فأحبهم و قربوا منه فقرب منهم قد تكلم أرباب هذا الشأن في المعرفة و العرفان فكل نطق بما وقع له و أشار إلى ما وجده في وقته.
و كان أبوعلي الدقاق يقول من أمارات المعرفة حصول الهيبة من الله فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته.
و كان يقول المعرفة توجب السكينة في القلب كما أن العلم يوجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته.
و سئل الشبلي عن علامات العارف فقال ليس لعارف علامة و لا لمحب سكون و لا لخائف قرار.
و سئل مرة أخرى عن المعرفة فقال أولها الله و آخرها ما لا نهاية له.
و قال أبو حفص الحداد منذ عرفت الله ما دخل قلبي حق و لا باطل.
و قد أشكل هذا الكلام على أرباب هذا الشأن و تأوله بعضهم فقال عند القوم إن المعرفة توجب
غيبة العبد عن نفسه لاستيلاء ذكر الحق عليه فلا يشهد غير الله و لا يرجع إلا إليه و كما إن العاقل يرجع إلى قلبه و تفكره و تذكره فيما يسنح له من أمر أو يستقبله من حال فالعارف رجوعه إلى ربه لا إلى قلبه و كيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له.
و سئل أبو يزيد البسطامي عن العرفان فقال إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً 7430 .
و هذا معنى ما أشار إليه أبو حفص الحداد.
و قال أبو يزيد أيضا للخلق أحوال و لا حال للعارف لأنه محيت رسومه و فنى هو و صارت هويته هوية غيره و غيبت آثاره في آثار غيره.
قلت و هذا هو القول بالاتحاد الذي يبحث فيه أهل النظر.
و قال الواسطي لا تصح المعرفة و في العبد استغناء بالله أو افتقار إليه.
و فسر بعضهم هذا الكلام فقال إن الافتقار و الاستغناء من أمارات صحو العبد و بقاء رسومه على ما كانت عليه و العارف لا يصح ذلك عليه لأنه لاستهلاكه في وجوده أو لاستغراقه في شهوده إن لم يبلغ درجة الاستهلاك في الوجود مختطف عن إحساسه بالغنى و الفقر و غيرهما من الصفات و لهذا
قال الواسطي من عرف الله انقطع و خرس و انقمع.
قال ص لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
و قال الحسين بن منصور الحلاج علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا و الآخرة.
و قال سهل بن عبد الله التستري غاية العرفان شيئان الدهش و الحيرة.
و قال ذو النون أعرف الناس بالله أشدهم تحيرا فيه.
و قيل لأبي يزيد بما ذا وصلت إلى المعرفة قال ببدن عار و بطن جائع.
و قيل لأبي يعقوب السوسي هل يتأسف العارف على شيء غير الله فقال و هل يرى شيئا غيره ليتأسف عليه.
و قال أبو يزيد العارف طيار و الزاهد سيار.
و قال الجنيد لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالأرض يطؤها البر و الفاجر و كالسحاب يظل كل شيء و كالمطر يسقى ما ينبت و ما لا ينبت.
و قال يحيى بن معاذ يخرج العارف من الدنيا و لا يقضى وطره من شيئين بكائه على نفسه و حبه لربه.
و كان ابن عطاء يقول أركان المعرفة ثلاثة الهيبة و الحياء و الأنس.
و قال بعضهم العارف أنس بالله فأوحشه من خلقه و افتقر إلى الله فأغناه عن خلقه و ذل لله فأعزه في خلقه.
و قال بعضهم العارف فوق ما يقول و العالم دون ما يقول.
و قال أبو سليمان الداراني إن الله يفتح للعارف على فراشه ما لا يفتح للعابد و هو قائم يصلي.
و كان رويم يقول رياء العارفين أفضل من إخلاص العابدين.
و سئل أبو تراب النخشبي عن العارف فقال هو الذي لا يكدره شيء و يصفو به كل شيء.
و قال بعضهم المعرفة أمواج ترفع و تحط.
و سئل يحيى بن معاذ عن العارف فقال الكائن البائن.
و قيل ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة فكيف عند أبناء الدنيا.
و قال محمد بن الفضل المعرفة حياة القلب مع الله.
و سئل أبو سعيد الخراز هل يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء قال
نعم إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله فإذا صاروا إلى حقائق القرب و ذاقوا طعم الوصول زال عنهم ذلك.
و اعلم أن إطلاق أمير المؤمنين ع عليهم لفظة الولاية في قوله يتواصلون بالولاية و يتلاقون بالمحبة يستدعي الخوض في مقامين جليلين من مقامات العارفين المقام الأول الولاية و هو مقام جليل قال الله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ 7431 و
جاء في الخبر الصحيح عن النبي ص يقول الله تعالى من آذى لي وليا فقد استحل محارمي و ما تقرب إلي العبد بمثل أداء ما فرضت عليه و لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه و لا ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت و أكره مساءته و لا بد له منه.
و اعلم أن الولي له معنيان أحدهما فعيل بمعنى مفعول كقتيل و جريح و هو من يتولى الله أمره كما قال الله تعالى إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ 7432 فلا يكله إلى نفسه لحظة عين بل يتولى رعايته.
و ثانيهما فعيل بمعنى فاعل كنذير و عليم و هو الذي يتولى طاعة الله و عبادته فلا يعصيه.