کتابخانه روایات شیعه
الخصال
الجزء الأول
[مقدمة المحقق]
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه الّذي جعل العلم كلّه في كتابه العزيز، الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
و الصّلاة و السّلام على رسوله محمّد سيّد الصفوة من البشر، و على آله قرناء القرآن كما صحّ بذلك الخبر.
المؤلّف و الثناء عليه
غرّة جبهة الزّمان، إنسان العين و عين الإنسان، المتفاني في ترويج الحقّ و إذاعته و نشر حقائق الدّين و إعلاء كلمته. صاحب التصانيف الّتي طبّقت ذيوع صيتها الآفاق و لا يعتريها في مرور الشهور محاق. أحد الأعلام الّذين تناقلوا الخبر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة الاثنى عشر، و نوّروا مناهج الأقطار بأنوار المآثر و الآثار. البحر المتلاطم الزّخّار، شيخ مشايخ الحديث و الأخبار. أمّا الفقه فهو حامل رايته، و أمّا الحديث فهو إمام درايته، و أمّا الكلام فهو ابن بجدته: مولانا الأجل «أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّيّ» المشهور بالصدوق.
كان- قدّس سرّه- في الرّعيل الأوّل من حملة العلم و مروّجي المذهب و الدّاعين إلى الحنيفيّة البيضاء بهمّة عالية قعساء. دأب في كسب العلم فتى و كهلا، و عكف على سماعه ليلا و نهارا، و سافر في أخذه حزنا و سهلا، بعزم لا يكهمه الفشل، و نشاط لا يفلّه الكلل.
نشأ بقم، فرحل إلى الرّيّ 1 ، و استرآباد و جرجان و نيشابور و مشهد الرّضا عليه السّلام و مرو الرّوذ و سرخس و إيلاق و سمرقند و فرغانة و بلخ من بلاد ما وراء النهر و همدان و بغداد و الكوفة و فيد و مكّة و المدينة حتّى ارتقى في الفضائل ذراها و تمسّك في المحامد بأوثق عراها، و بلغ من العلم مقاما شدّت الجوزاء له نطاقا، تمشي على ضوء فتاويه فقهاء الأيّام، و تخضع لآرائه و أنظاره علماء الأعصار و الأعوام له من الكتب و الرّسائل بخطّه ما يكلّ لسان القلم عن ضبطه. و الأعلام كلّهم قد أطبقوا على إكبار قدره، و المسير على ضياء بدره.
عنونه الشيخ الطوسيّ- رحمه اللّه- في كتابيه و قال: «كان محمّد بن عليّ بن الحسين
حافظا للأحاديث، بصيرا بالفقه و الرّجال، ناقدا للأخبار، لم ير في القميّين مثله في حفظه و كثرة علمه، له نحو من ثلاثمائة مصنّف».
و قال الرّجاليّ الكبير أبو العباس النجاشيّ: «أبو جعفر، نزيل الرّيّ، شيخنا و فقيهنا، و وجه الطائفة بخراسان، كان ورد بغداد و سمع منه شيوخ الطائفة و هو حدث السنّ».
و أطراه ابن إدريس في السرائر، و ابن شهرآشوب في المعالم، و المحقّق الحلّيّ في المعتبر، و ابن طاوس في الإقبال و غيره، و العلّامة في الخلاصة، و ابن داود في رجاله، و زمرة كبيرة من رجالات العلم 2 زيّنوا بتبجيله و تجليله كتبهم، و لو لا خوف الملال لسردنا ذكرهم.
غير أنّي سمعت أنّ أحدا ممّن له الدّعاية، و جاوز الحدّ فوق الغاية جاء بالسّقر و البقر و بيّنات غير، و لم يفرق بين الإنسان و البقر، فطفق يقع في الشيخ بتافه قوله و أساء الأدب و قال في كلام له: «الصدوق كذوب» كبرت كلمة تخرج من فيه، بل هو الكاذب فيما يفتريه. و لا حاجة بنا في هذا المقام إلى ردّ هذا القائل لأنّه عند العلماء ضالّ وهّابيّ مضلّ، و الصدوق في مقام يعثر في مداه مقتفيه، و محلّ يتمنّى البدر لو أشرق فيه.
من كان فوق محلّ الشمس موضعه
فليس يرفعه شيء و لا يضع
و من سبر غور الكتب و معاجم التراجم يجده إماما من أئمّة المحدّثين و علما من أعلام الدّين، مجمعا على شيخوخيّته و تقدّمه بحيث يستغنى عن تزكيته.
كان والده عليّ بن الحسين- رحمهما اللّه- شيخ القميّين و ثقتهم في عصره، و فقيههم و متقدّمهم في مصره مع أنّ بلدة قمّ يومئذ تعجّ بالفطاحل من العلماء و الأماثل. و هو رضوان اللّه عليه- مع سموّ مقامه في العلم و مرجعيّته في الفتيا كان تاجرا، له دكّان في السوق، يتّجر فيه بزهد و عفاف و قناعة بكفاف، فيعتاش من تجارته و يعبد ربّه حقّ عبادته. و كان عالما، زاهدا، تقيّا، ورعا، ثقة، صدوقا عند الأنام، و شيخا
فقيها معتمدا عند الإمام كما نصّ عليه العسكريّ عليه السّلام في التوقيع الّذي صدر منه إليه.
له كتب و رسائل في فنون علوم الدّين، ذكر الطوسيّ و النجاشيّ منها نحوا من عشرين: في الفقه و الأخلاق و التوحيد، و الطبّ و المنطق و التفسير، و غيرها ممّا يطيل الكلام بذكره.
و قال أبو الفرج محمّد بن إسحاق النديم: قرأت بخطّ ابنه (محمّد بن عليّ) على ظهر جزء: «قد أجزت لفلان بن فلان كتب أبي (عليّ بن الحسين) و هي مائتا كتاب، و كتبي و هي ثمانية عشر». (الفهرست ص 277).
و هو كما ترى يدلّ على تبحّره و تضلّعه و مكانته في العلم و الفقه و الأصول و الفروع.
فبيته في قمّ أعظم بيوتات الشيعة، بيت معمور بالعلم و الفضيلة، معرق بالمجد و الشرف، مغدق بالزّهد و الصلاح، معروف بالسؤدد و النجاح. و شيخنا المترجم له «أبو جعفر الصدوق» وليد هذا البيت، و نسيب ذلك الشرف، و عقيد ذاك العزّ، و غصن تلك الدّوحة. و ناشئة أحضان تلك الفضائل، مع ما حباه اللّه سبحانه من جودة الفهم، و حسن الذّكاء، و قدرة الحفظ، و كمال العقل.
عاش- رحمه اللّه مع أبيه عشرين سنة، قرأ عليه و أخذ عنه ثمّ عن غيره من علماء قمّ بعناية تامّة من أبيه، فلم يمض من عمره إلّا أيّام قلائل حتّى صار من جملة العلماء و الأفاضل، فبرع في العلم و فاق الأقران فاختلف إلى مجالس الشيوخ و الأعيان، و تزوّد من العلم ما استطاع فسمع منهم و روى عنهم ما شاء.