کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 21
عليهم. و الغضب في الأصل هو ثوران دم القلب لإرادة الانتقام و منه قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه و حمرة عينيه» و إذا وصف اللّه به فالمراد منه الانتقام فقط دون غيره و هو انتقامه من العصاة و غضب اللّه لا يلحق عصاة المؤمنين إنما يلحق الكافرين وَ لَا الضَّالِّينَ أي و غير الضالين عن الهدى و أصل الضلال الغيبوبة و الهلاك يقال ضل الماء في اللبن إذا غاب فيه و هلك و قيل غير المغضوب عليهم هم اليهود و الضالين هم النصارى. عن عدي بن حاتم عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «اليهود مغضوب عليهم و النصارى ضلال» أخرجه الترمذي، و ذلك لأن اللّه تعالى حكم على اليهود بالغضب فقال: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ و حكم على النصارى بالضلال فقال: وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ و قيل: غير المغضوب عليهم بالبدعة و لا الضالين عن السنّة و اللّه أعلم.
(فصل: في آمين و حكم الفاتحة) و فيه مسألتان: الأولى:
السنّة للقارئ بعد فراغه من الفاتحة أن يقول آمين مفصولا عنها بسكتة، و هو مخفف و فيه لغتان المد و القصر قال في المد: و يرحم اللّه عبدا قال آمينا. و قال في القصر: آمين فزاد اللّه ما بيننا بعدا. و معنى آمين اللهم اسمع و استجب. و قال ابن عباس: معناه كذلك يكون. و قيل: هو اسم من أسماء اللّه تعالى و قيل هو خاتم اللّه تعالى على عباده به يدفع عنهم الآثام (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» قال ابن شهاب: و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول آمين و في رواية للبخاري «أن الإمام إذا قرأ غير المغضوب عليهم و لا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه».
(قوله: فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة). معناه وافقهم في وقت التأمين فأمن مع تأمينهم، و قيل: وافقهم في الصفة و الخشوع و الإخلاص و القول الأول هو الصحيح. و اختلفوا في هؤلاء الملائكة فقيل هم الحفظة و قيل غيرهم من الملائكة.
(قوله غفر له ما تقدم من ذنبه): يعني تغفر له الذنوب الصغائر دون الكبائر و قول ابن شهاب: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول آمين معناه أن هذه صيغة تأمينه صلّى اللّه عليه و سلّم.
المسألة الثانية في حكم الفاتحة: اختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة فذهب مالك و الشافعي و أحمد و جمهور العلماء إلى وجوب الفاتحة و أنها متعينة في الصلاة و لا تجزئ إلا بها، و احتجوا بما روى عبادة بن الصامت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» أخرجاه في الصحيحين و بحديث أبي هريرة: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ثلاثا غير تمام» الحديث و قد تقدم في فضل سورة الفاتحة و ذهب أبو حنيفة إلى أن الفاتحة لا تتعين على المصلي بل الواجب عليه قراءة آية من القرآن طويلة أو ثلاث آيات قصار و احتج بقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ و بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم في حديث الأعرابي المسيء صلاته «ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن» أخرجاه في الصحيحين دليل الجمهور ما تقدم من الأحاديث. فإن قيل المراد من الحديث لا صلاة كاملة قلنا هذا خلاف ظاهر لفظ الحديث و مما يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» أخرجه الدار قطني و قال إسناده صحيح و عنه «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أمره أن يخرج فينادي لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما زاد» أخرجه أبو داود. و أجيب عن حديث الأعرابي بأنه محمول على الفاتحة فإنها متيسرة أو على ما زاد على الفاتحة أو على العاجز عن قراءة الفاتحة، و اللّه أعلم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 22
سورة البقرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال ابن عباس: هي أول ما نزل بالمدينة قيل سوى آية و هي قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فإنها نزلت يوم النحر بمكة في حجة الوداع و هي مائتان و ست و قيل سبع و ثمانون آية و ستة آلاف و مائة و إحدى و عشرون كلمة و خمسة و عشرون ألف حرف و خمسمائة حرف.
(فصل: في فضلها) (م) عن أبي أمامة قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما اقرءوا البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة» قال معاوية بن سلام بلغني أن البطلة السحرة (قوله اقرءوا الزهراوين) سميتا بذلك لنورهما يقال لكل مستنير زاهر. قوله: كأنهما غمامتان أو غيايتان: قال أهل اللغة الغمامة و الغياية كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة و غيرها و المعنى أن ثوابهما يأتي كغمامتين (قوله: فرقان من طير صواف) الفرقان الجماعة من الطير و الصواف جمع صافة و هي التي تصف أجنحتها عند الطيران يحاجان. المحاجة المجادلة و المخاصمة و إظهار الحجة و البطلة السحرة كما جاء في الحديث مبينا يقال أبطل إذا جاء بالباطل. و في الحديث دليل على جواز قول سورة البقرة و سورة آل عمران و كذا باقي السور، و أنه لا كراهة في ذلك و كرهه بعض المتقدمين. و قال: إنما يقال السورة التي يذكر فيها البقرة و كذا باقي السور و الصواب هو الأول و به قال الجمهور لورود النص به (م) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» و عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لكل شيء سنام و إن سنام القرآن سورة البقرة و فيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي» أخرجه الترمذي و قال حديث غريب (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم) قوله عز و جل: الم قيل إن حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر اللّه بعلمه، و هي سر اللّه في القرآن، فنحن نؤمن بظاهرها، و نكل العلم فيها إلى اللّه تعالى، و فائدة ذكرها طلب الإيمان بها قال أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه، في كل كتاب سر و سر اللّه في القرآن أوائل السور و قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه إن لكل كتاب صفوة و صفوة هذا الكتاب حروف التهجي. و أورد على هذا القول بأنه لا يجوز أن يخاطب اللّه عباده بما لا يعلمون، و أجيب عنه بأنه يجوز أن يكلف اللّه عباده بما لا يعقل معناه كرمي الجمار فإنه مما لا يعقل معناه؛ و الحكمة فيه هو كمال الانقياد و الطاعة
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 23
فكذلك هذه الحروف يجب الإيمان بها و لا يلزم البحث عنها. و قال آخرون من أهل العلم: هي معروفة المعاني.
ثم اختلفوا فيها فقيل كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء اللّه تعالى فالألف مفتاح اسمه اللّه و اللام مفتاح اسمه لطيف و الميم مفتاح اسمه مجيد و قيل الألف آلاء اللّه و اللام لطفه و الميم ملكه، و يؤيد هذا أن العرب تذكر حرفا من كلمة تريد كلها قال الراجز:
قلت لها قفي فقالت قاف
لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
قولها: قاف أي وقفت فاكتفت بجزء الكلمة عن كلها، و الإيجاف الإسراع في السير قال ابن عباس: الم أنا اللّه أعلم. و قيل: هي أسماء اللّه مقطعة لو علم الناس تأليفها لعلموا اسم اللّه الأعظم ألا ترى أنك تقول الر و حم و ن فيكون مجموعها الرحمن و كذلك سائرها، و لكن لم يتهيأ تأليفها جميعا و قيل أسماء السور و به قال جماعة من المحققين و قال ابن عباس: هي أقسام فقيل أقسم اللّه بهذه الحروف لشرفها و فضلها لأنها مباني كتبه المنزلة و أسمائه الحسنى و صفاته العليا، و إنما اقتصر على بعضها و إن كان المراد كلها فهو كما تقول قرأت الحمد للّه، و تريد أنك قرأت السورة بكمالها فكأنه تعالى أقسم بهذه الحروف أو هذا الكتاب هو الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ و قيل إن اللّه تعالى لما تحداهم بقوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ و في آية بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فعجزوا عنه أنزل هذه الأحرف و معناه أن القرآن ليس هو إلّا من هذه الأحرف و أنتم قادرون عليها فكان يجب أن تأتوا بمثله فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند اللّه لا من عند البشر. و قيل: إنهم لما أعرضوا عن سماع القرآن و أراد اللّه صلاح بعضهم أنزل هذه الأحرف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين اسمعوا إلى ما يجيء به محمد فإذا أصغوا إليه و سمعوه رسخ في قلوبهم، فكان ذلك سببا لإيمانهم، و قيل: إن اللّه تعالى غير عقول الخلق في ابتداء خطابه ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة خطابه إلّا باعترافهم بالعجز عن معرفة كنه حقيقة خطابه. و اعلم أن مجموع الأحرف المنزلة في أوائل السور أربعة عشر حرفا في تسع و عشرين سورة و هي الألف و اللام و الميم و الصاد و الراء و الكاف و الهاء و الياء و العين و الطاء و السين و الحاء و القاف و النون و هي نصف حروف المعجم، و سيأتي الكلام على باقيها في مواضعها إن شاء اللّه تعالى. و قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ أي هذا الكتاب هو القرآن و قيل فيه إضمار، و المعنى هذا الكتاب الذي وعدتك به و كان اللّه قد وعد نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء و لا يخلق على كثرة الرد، فلما أنزل القرآن قال هذا ذلك الكتاب الذي وعدتك به و قيل إن اللّه وعد بني إسرائيل أن ينزل كتابا و يرسل رسولا من ولد إسماعيل. فلما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى المدينة و بها من اليهود خلق كثير أنزل اللّه تعالى هذه الآية الم ذلِكَ الْكِتابُ أي هذا الكتاب الذي وعدت به على لسان موسى أن أنزله على النبي الذي هو من ولد إسماعيل و الكتاب مصدر بمعنى المكتوب و أصله الضم و الجمع و منه يقال للجند كتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتابا لأنه يجمع الحروف بعضها إلى بعض و الكتاب اسم من أسماء القرآن لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه من عند اللّه و أنه الحق و الصدق، و قيل: هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه. فإن قلت قد ارتاب به قوم فما معنى لا ريب فيه. قلت معناه أنه في نفسه حق و صدق فمن حقق النظر عرف حقيقة ذلك هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الهدى عبارة عن الدلالة و قيل دلالة بلطف و قيل الهداية الإرشاد و المعنى هو هدى للمتقين و قيل هو هاد لا ريب في هدايته و المتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى و التقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف و قيل التقوى في عرف الشرع حفظ النفس مما يؤثم و ذلك بترك المحظور و بعض المباحات قال ابن عباس: المتقي من يتقي الشرك و الكبائر و الفواحش، و هو مأخوذ من الاتقاء و أصله الحجز بين الشيئين، يقال: اتقى بترسه إذا جعله حاجزا بينه و بين ما يقصده و في الحديث «كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم» معناه أنا كنا إذا اشتد الحرب جعلنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حاجزا بيننا و بين العدو فكأن المتقي يجعل امتثال أوامر اللّه و اجتناب نواهيه حاجزا بينه و بين النار و قيل المتقي هو من لا يرى نفسه خيرا من أحد. و قيل: التقوى ترك ما حرم اللّه و أداء ما افترض. و قيل
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 24
التقوى ترك الإصرار على المعصية و ترك الاغترار بالطاعة. و قيل: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك و قيل:
التقوى الاقتداء بالنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه و في الحديث «جماع التقوى في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ الآية» و قيل المتقي هو الذي يترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس، و خص المتقين بالذكر تشريفا لهم، لأن مقام التقوى مقام شريف عزيز، لأنهم هم المنتفعون بالهداية، و لو لم يكن للمتقين فضل إلّا قوله تعالى هدى للمتقين لكناهم. فإن قلت كيف قال هدى للمتقين و المتقون هم المهتدون. قلت هو كقولك للعزيز الكريم أعزك اللّه و أكرمك تريد طلب الزيادة له إلى ما هو ثابت فيه كقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يصدقون بالغيب، و أصل الإيمان في اللغة التصديق قال اللّه تعالى: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق فإذا فسر الإيمان بهذا فإنه لا يزيد و لا ينقص لأن التصديق لا يتجزأ حتى يتصور كما له مرة و نقصانه أخرى. و الإيمان في لسان الشرع عبارة عن التصديق بالقلب و الإقرار باللسان و العمل بالأركان، و إذا فسر بهذا فإنه يزيد و ينقص و هو مذهب أهل السنة من أهل الحديث و غيرهم، و فائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة و هي أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان من الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و نحو ذلك من أركان الدين هل يسمى مؤمنا أم لا؟ فيه خلاف، و المختار عند أهل السنة أنه لا يسمى مؤمنا لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن» فنفى عنه اسم الإيمان أو كمال الإيمان و أنكر أكثر المتكلمين زيادة الإيمان و نقصانه، و قالوا: متى قبل الزيادة و النقص كان ذلك شكا و كفرا. و قال المحققون من متكلمي أهل السنة: إن نفس التصديق لا يزيد و لا ينقص و الإيمان الشرعي يزيد و ينقص بزيادة الأعمال و نقصانها و بهذا أمكن الجمع بين ظواهر نصوص الكتاب و السنة التي جاءت بزيادة الإيمان و نقصانه و بين أصله من اللغة. و قال بعض المحققين:
إن نفس التصديق قد يزيد و ينقص بكثرة النظر في الأدلة و البراهين و قلة إمعان النظر في ذلك و لهذا يكون إيمان الصديقين أقوى و أثبت من إيمان غيرهم لأنهم لا تعتريهم شبهة في إيمانهم و لا تزلزل، و ما غيرهم من آحاد الناس فليس كذلك، إذ لا يشك عاقل أن نفس تصديق أبي بكر رضي اللّه عنه لا يساويه تصديق غيره من آحاد الأمة و قيل إنما سمي الإقرار و العمل إيمانا لوجه المناسبة لأنه من شرائعه، و الدليل على أن الأعمال من الإيمان ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «الإيمان بضع و سبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلّا اللّه، و أدناها إماطة الأذى عن الطريق، و الحياء شعبة من الإيمان» أخرجاه في الصحيحين. البضع بكسر الباء ما بين الثلاثة إلى العشرة و الشعبة القطعة من الشيء و إماطة الأذى عن الطريق و هو عزل الحجر و الشوك و نحو ذلك عنه. و الحياء بالمد و هو انقباض النفس عن فعل القبيح و إنما جعل من الإيمان و هو اكتساب لأن المستحيي ينزجر باستحيائه عن المعاصي فصار من الإيمان، و قيل الإيمان مأخوذ من الأمن فسمي المؤمن مؤمنا لأنه يؤمن نفسه من عذاب اللّه.
و الإسلام هو الانقياد و الخضوع فكل إيمان إسلام و ليس كل إسلام إيمانا إن لم يكن معه تصديق و ذلك أن الرجل قد يكون مسلما في الظاهر غير مصدق في الباطن (ق) عن أبي هريرة قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول اللّه ما الإيمان «قال أن تؤمن باللّه و ملائكته و كتبه و لقائه و رسله و تؤمن بالبعث الآخر» قال يا رسول اللّه ما الإسلام؟ قال: «أن تعبد اللّه و لا تشرك به شيئا، و تقيم الصلاة المكتوبة، و تؤدي الزكاة المفروضة، و تصوم رمضان». قال: يا رسول اللّه ما الإحسان؟ قال «أن تعبد اللّه كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك». قال: يا رسول اللّه متى الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، و لكن سأحدثك عن أشراطها. إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها، و إذا كانت الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها، و إذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها، و خمس لا يعلمهن إلّا اللّه» ثم تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ إلى قوله: عَلِيمٌ خَبِيرٌ قال ثم أدبر الرجل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ردوا عليّ هذا الرجل» فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «هذا جبريل جاء ليعلم
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 25
الناس دينهم» و في أفراد مسلم من حديث عمر بن الخطاب نحو هذا الحديث و بمعناه، و قد تقدم الكلام على معنى الإيمان و الإسلام. و بقي أشياء تتعلق بمعنى الحديث، فقوله كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوما بارزا أي ظاهرا، و قوله: أن تؤمن باللّه و لقائه و تؤمن بالبعث الآخر هو بكسر الخاء. و قيل في الجامع بين قوله و تؤمن بلقاء اللّه و بالبعث فإن اللقاء يحصل بمجرد الانتقال إلى الدار الآخرة و هو الموت و البعث هو بعده عند قيام الساعة و في تقييده بالآخر وجه آخر و هو أن خروجه إلى الدنيا بعث من الأرحام و خروجه من القبر إلى الآخرة بعث آخر. قوله ما الإحسان هو هنا الإخلاص في العمل و هو شرط في صحة الإيمان و الإسلام لأن من أتى بلفظ الشهادة و أتى بالعمل من غير إخلاص لم يكن محسنا، و قيل أراد بالإحسان المراقبة و حسن الطاعة، فإن من راقب اللّه حسن عمله، و هو المراد بقوله، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، و أشراط الساعة علاماتها التي تظهر قبلها. قوله: إذا ولدت الأمة ربها يعني سيدها و المعنى أن الرجل تكون له الأمة فتلد له ولدا فيكون ذلك الولد ابنها و سيدها، و رعاء البهم بكسر الراء و فتح الباء و إسكان الهاء من البهم و هي الصغار من أولاد الضأن، و المعنى أنه يبسط المال على أهل البادية و أشباههم حتى يتباهون في البناء و يسودون الناس فذلك من أشراط الساعة و اللّه أعلم. قوله تعالى بِالْغَيْبِ ، و الغيب هنا مصدر وضع موضع الاسم، فقيل: الغائب غيب و هو ما كان مغيبا عن العيون قال ابن عباس: الغيب هنا كل ما أمرت بالإيمان به مما غاب عن بصرك من الملائكة و البعث و الجنة و النار و الصراط و الميزان. و قيل: الغيب هنا هو اللّه تعالى و قيل القرآن و قيل بالآخرة و قيل بالوحي و قيل بالقدر و قال عبد الرحمن بن يزيد كنا عند عبد اللّه بن مسعود فذكرنا أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و ما سبقونا به فقال عبد اللّه بن مسعود إن أمر محمد صلّى اللّه عليه و سلّم كان بينا لمن رآه و الذي لا إله غيره ما آمن أحد قط أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ إلى قوله وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يداومون عليها في مواقيتها بحدودها و إتمام أركانها و حفظها من أن يقع فيها خلل في فرائضها و سنتها و آدابها، يقال: قام بالأمر و أقام الأمر إذا أتى به معطى حقوقه، و المراد به الصلوات الخمس. و الصلاة في اللغة الدعاء و الرحمة و منه وصل عليهم أي ادع لهم و أصله من صليت العود إذا لينته فكأن المصلي يلين و يخشع. و في الشرع اسم لأفعال مخصوصة من قيام و ركوع و سجود و قعود و دعاء مع النية وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ أي أعطيناهم من الرزق و هو اسم لما ينتفع به من مال و ولد و أصله الحظ و النصيب يُنْفِقُونَ أي يخرجون و يتصدقون في طاعة اللّه تعالى و سبيله، و يدخل فيه إنفاق الواجب كالزكاة و النذر و الإنفاق على النفس و على من تجب نفقته عليه و الإنفاق في الجهاد إذا وجب عليه و الإنفاق في المندوب، و هو صدقه التطوع و مواساة الإخوان، و هذه كلها مما يمدح بها و أدخل من التي هي للتبعيض صيانة لهم و كفا عن السرف و التبذير المنهي عنهما في الإنفاق.
[سورة البقرة (2): آية 4]
وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ أي يصدقون بالقرآن المنزل عليك و بالكتب المنزلة على الأنبياء من قبل كالتوراة و الإنجيل و الزبور و صحف الأنبياء كلها فيجب الإيمان بذلك كله وَ بِالْآخِرَةِ يعني بالدار الآخرة سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا و كونها بعدها هُمْ يُوقِنُونَ من الإيقان و هو العلم و المعنى يستيقنون و يعلمون أنها كائنة.
[سورة البقرة (2): الآيات 5 الى 8]
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 26
أُولئِكَ أي الذين هذه صفتهم عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أي على رشاد و نور من ربهم و قيل على استقامة وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الناجون الفائزون نجوا من النار و فازوا بالجنة و المفلح الظافر بالمطلوب أي الذي انفتحت له وجوه الظفر و لم تستغلق عليه و يكون الفلاح بمعنى البقاء قال الشاعر:
لو كان حيّ مدرك الفلاح
أدركه ملاعب الرماح
يريد البقاء فيكون المعنى أولئك هم الباقون في النعيم المقيم و الفلاح و الظفر و إدراك البغية من السعادة و العز و البقاء و الغنى و أصل الفلاح الشق كما قيل: إن الحديد بالحديد يفلح، أي يقطع، فعلى هذا يكون المعنى أولئك هم المقطوع لهم بالخير في الدنيا و الآخرة. و اعلم أن اللّه عزّ و جلّ صدر هذه السورة بأربع آيات أنزلها في المؤمنين و بآيتين أنزلهما في الكافرين و بثلاث عشرة آية أنزلها في المنافقين فأما التي في الكفار فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا و أنكروا و أصل الكفر في اللغة الستر و التغطية، و منه سمي الليل كافرا لأنه يستر الأشياء بظلمته قال الشاعر، في ليلة كفر النجوم غمامها، أي سترها و الكفر على أربعة أضرب: كفر إنكار و هو أن لا يعرف اللّه أصلا ككفر فرعون و هو قوله ما علمت لكم من إله غيري، و كفر جحود و هو أن يعرف اللّه بقلبه و لا يقر بلسانه ككفر إبليس، و كفر عناد و هو أن يعرف اللّه بقلبه و يقر بلسانه و لا يدين به ككفر أمية بن أبي الصلت و أبي طالب حيث يقول في شعر له:
و لقد علمت بأن دين محمد
من خير أديان البرية دينا
لو لا الملامة أو حذار مسبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
و كفر نفاق، و هو أن يقر بلسانه و لا يعتقد صحة ذلك بقلبه، فجميع هذه الأنواع كفر. و حاصله أن من جحد اللّه أو أنكر وحدانيته أو أنكر شيئا مما أنزله على رسوله أو أنكر نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم أو أحدا من الرسل فهو كافر فإن مات على ذلك فهو في النار خالدا فيها و لا يغفر اللّه له نزلت في مشركي العرب. و قيل في اليهود سَواءٌ عَلَيْهِمْ أي متساو لديهم أَ أَنْذَرْتَهُمْ أي خوفتهم و حذرتهم و الإنذار إعلام مع تخويف فكل منذر معلم و ليس كل معلم منذرا أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون و هذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة العذاب في سابق علم اللّه الأزلي أنهم لا يؤمنون. ثم ذكر سبب تركهم الإيمان فقال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ أي طبع اللّه عليها فلا تعي خيرا و لا تفهمه و أصل الختم التغطية و حقيقة الاستيثاق من الشيء لكي لا يخرج منه ما حصل فيه و لا يدخله ما خرج، منه و منه ختم الكتاب. قال أهل السنة: ختم اللّه على قلوبهم بالكفر لما سبق في علمه الأزلي فيهم و إنما خص القلب بالختم لأنه محل الفهم و العلم وَ عَلى سَمْعِهِمْ أي و ختم على موضوع سمعهم فلا يسمعون الحق و لا ينتفعون به لأنها تمجه و تنبو عن الإصغاء إليه كأنها مستوثق منها بالختم أيضا، و ذكر السمع بلفظ التوحيد و معناه الجمع قيل إنما وحده لأنه مصدر و المصدر لا يثنى و لا يجمع وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ هذا ابتداء كلام و الغشاوة الغطاء، و منه غاشية السرج أي و جعل على أبصارهم غشاوة فلا يرون الحق و هي غطاء التعامي عن آيات اللّه و دلائل توحيده وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني في الآخرة و قيل الأسر و القتل في الدنيا و العذاب الدائم في العقبى. و حقيقة العذاب هو كل ما يؤلم الإنسان و يعيبه و يشق عليه و قيل هو الإيجاع الشديد و قيل هو ما يمنع الإنسان من مراده و منه الماء العذب لأنه يمنع العطش و العظيم ضد الحقير. قوله عزّ و جلّ: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ نزلت في المنافقين عبد اللّه بن أبي ابن سلول و معتب بن قشير وجد بن قيس و أصحابهم و ذلك أنهم أظهروا كلمة الإسلام ليسلموا بها من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه و أسروا الكفر و اعتقدوه و أكثرهم من اليهود. و صفة المنافق أن يعترف بلسانه بالإيمان و يقربه و ينكره بقلبه و يصبح على حال و يمسي على غيرها، و الناس جمع إنسان سمي به لأنه عهد إليه فنسي قال الشاعر. سميت إنسانا لأنك ناسي، و قيل سمي إنسانا لأنه يستأنس بمثله
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 27
وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي و آمنا باليوم الآخر و هو يوم القيامة سمي بذلك لأنه يأتي بعد الدنيا و هو آخر الأيام المحدودة المعدودة و ما بعده فلا حد له و لا آخر قال اللّه تعالى ردا على المنافقين وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ نفى عنهم الإيمان بالكلية.
[سورة البقرة (2): آية 9]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9)
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أي يخالفون اللّه و الخديعة الحيلة و المكر و أصله في اللغة لإخفاء و المخادع يظهر ضد ما يضمر ليتخلص فهو بمنزلة النفاق، و هو خادعهم أي يظهر لهم نعيم الدنيا و يعجله لهم بخلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة. فإن قلت المخادعة مفاعلة، و إنما تجيء في الفعل المشترك، و اللّه تعالى منزه عن المشاركة قلت المفاعلة قد ترد لا على وجه المشاركة تقول عافاك اللّه و طارقت النعل و عاقبت اللص، فالمخادعة هنا عبارة عن فعل الواحد و اللّه تعالى منزه عن أن يكون منه خداع. فإن قلت: كيف يخادع اللّه و هو يعلم الضمائر و الأسرار؟ فمخادعة اللّه ممتنعة فكيف يقال يخادعون اللّه؟. قلت إن اللّه تعالى ذكر نفسه و أراد به رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم و ذلك تفخيم لأمره و تعظيم لشأنه، و قيل أراد به المؤمنين و إذا خادعوا المؤمنين فكأنهم خادعوا اللّه تعالى و ذلك أنهم ظنوا أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين لم يعلموا حالهم و لتجري عليهم أحكام الإسلام في الظاهر و هم، على خلافه في الباطن وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي إن اللّه تعالى يجازيهم على ذلك و يعاقبهم عليه فلا يكونون في الحقيقة إلّا خادعين أنفسهم، و قيل: إن وبال ذلك الخداع راجع إليهم لأن اللّه تعالى يطلع نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم على نفاقهم فيفتضحون في الدنيا و يستوجبون العقاب في العقبى. و النفس ذات الشيء و حقيقته. و قيل للدم نفس لأن به قوة البدن وَ ما يَشْعُرُونَ أي لا يعلمون أن وبال خداعهم راجع عليهم.
[سورة البقرة (2): الآيات 10 الى 14]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك و نفاق و أصل المرض الضعف و الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان و سمي الشك في الدين و النفاق مرضا لأنه يضعف الدين كالمرض يضعف البدن فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً يعني أن الآيات كانت تنزل تترى، أي آية بعد آية فلما كفروا بآية ازدادوا بعد ذلك كفرا و نفاقا وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم يخلص وجعه إلى قلوبهم بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي بتكذيبهم اللّه و رسوله في السر، و قرئ بالتخفيف أي بكذبهم إذ قالوا آمنا و هم غير مؤمنين وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ يعني المنافقين و قيل اليهود و المعنى إذا قال لهم المؤمنون لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي بالكفر و تعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم و بالقرآن قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ يعني يقولونه كذبا إِلَّا كلمة تنبيه ينبه بها المخاطب إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ يعني في الأرض بالكفر و هو أشد الفساد وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ و ذلك لأنهم يظنون أن ما هم عليه من النفاق و إبطان الكفر صلاح و هو عين الفساد.