کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 231
فإنها لا تنال إلا بكدّ و تعب قال ابن عباس تدنو الشجرة حتى يجنيها ولي اللّه إن شاء قائما و إن شاء قاعدا و قيل لا يرد أيديهم عنها بعد و لا شوك.
[سورة الرحمن (55): الآيات 55 الى 58]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَ فإن قلت الضمير إلى ماذا يعود؟
قلت إلى الجنتين و إنما جمع بقوله فيهن لاشتمال الجنتين على مساكن و قصور و مجالس قاصِراتُ الطَّرْفِ أي غاضات الأعين قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم و لا يردن سواهم قيل تقول الزوجة لزوجها و عزة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك فالحمد للّه الذي جعلك زوجي و جعلني زوجتك لَمْ يَطْمِثْهُنَ أي لم يجامعهن و لم يفرعهن و المعنى لم يدمهن بالجماع و قيل معناه لم يمسهن و منه قول الفرزدق:
خرجن إلي لم يطمثن قبل
و هن أصح من بيض النعام
أي لم يمسسني و المعنى لم يطأهن و لم يغشهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ أي قبل أزواجهن من أهل الجنة، وَ لا جَانٌ قيل إنما نفي الجن لأن لهم أزواجا في الجنة منهم و في الآية دليل على أن الجني يغشى كما يغشى الإنسي و سئل ضمرة بن حبيب هل للجن ثواب؟ فقال نعم و قرأ هذه الآية ثم قال الإنسيات للإنس و الجنيات للجن و قال مجاهد في هذه الآية إذا جامع و لم يسم انطوى الجني على إحليله فجامع معه و اختلف في هؤلاء اللواتي لم يطمثن فقيل هن الحور العين لأنهن خلقن في الجنة فلم يمسهن أحد قبل أزواجهن و قيل إنهن من نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر أبكارا كما وصفهن.
لم يمسهن منذ أنشئن خلقا آخر أحد و قيل هن الآدميات اللاتي متن أبكارا و معنى الآية المبالغة في نفي الطمث عنهن لأن ذلك أقر لأعين أزواجهن إذا لم يغشهن أحد غيرهم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان و هو صغار اللؤلؤ و أشده بياضا و قيل شبه لونهن ببياض اللؤلؤ مع حمرة الياقوت لأن أحسن الألوان البياض المشوب بحمرة و الأصح أنه شبههن بالياقوت لصفائه لأنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيت السلك من ظاهره لصفائه و قال عمرو بن ميمون إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء الحلل كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء يدل على صحة ذلك ما روي عن ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها و ذلك لأن اللّه تعالى يقول كأنهن الياقوت و المرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه أخرجه الترمذي قال و قد روي عن ابن مسعود بمعناه و لم يرفعه و هو أصح (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر زاد في رواية ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبصقون فيها و لا يتمخطون و لا يتغوطون آنيتهم الذهب و الفضة و أمشاطهم الذهب و مجامرهم الألوة و رشحهم المسك و لكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم و لا تباغض قلوبهم قلب رجل واحد يسبحون اللّه بكرة و عشيا، و للبخاري قلوبهم على قلب رجل واحد و زاد فيه و لا يسقمون قوله مجامرهم الألوة يعني بخورهم العود.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 232
[سورة الرحمن (55): الآيات 59 الى 66]
مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة و قال ابن عباس هل جزاء من قال لا إله إلا اللّه و عمل بما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلّم إلا الجنة. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ثم قال هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا اللّه و رسوله أعلم قال يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة، و روى الواحدي بغير سند عن ابن عمر و ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال في هذه الآية يقول اللّه عز و جل هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي و توحيدي إلا أن أسكنه جنتي و حظيرة قدسي برحمتي، و قيل في معنى الآية هل جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يؤتى في مقابلته بفعل حسن و في الآية إشارة إلى رفع التكليف في الآخرة لأن اللّه وعد المؤمنين بالإحسان و هو الجنة فلو بقي التكليف في الآخرة و تركه العبد لاستحق العقاب على ترك العمل و العقاب ترك الإحسان إليه فلا تكليف فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ أي و من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان و قال ابن عباس من دونهما في الدرج و قيل في الفضل و قال أبو موسى الأشعري جنتان من ذهب للسابقين و جنتان من فضة للتابعين و قال ابن جريج هن أربع جنان: جنتان للمقربين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان و جنتان لأصحاب اليمين و التابعين فيهما فاكهة و نخل و رمان، (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال جنتان من فضة آنيتهما و ما فيهما و جنتان من ذهب آنيتهما و ما فيهما و ما بين القوم و بين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن و قال الكناني و من دونهما جنتان يعني أمامهما و قبلهما يدل عليه قول الضحاك الجنتان الأوليان من ذهب و فضة و الجنتان الأخريان من ياقوت و زبرجد و هما أفضل من الأوليين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم وصف الجنتين فقال تعالى: مُدْهامَّتانِ أي سوداوان من ريهما و شدة خضرتهما لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ أي فوارتان بالماء لا ينقطعان و قال ابن عباس و الضحاك ينضخان بالخير و البركة على أهل الجنة و قال ابن مسعود ينضخان بالمسك و الكافور على أولياء اللّه و قال أنس بن مالك ينضخان بالمسك و العنبر في دور أهل الجنة كطش المطر.
[سورة الرحمن (55): الآيات 67 الى 76]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ يعني فيهما من أنواع الفواكه كلها و إنما عطف النخل و الرمان بالواو و إن كانا من جملة الفواكه تنبيها على فضلهما و شرفهما على سائر الفواكه و على هذا القول عامة المفسرين و أهل اللغة قالوا إنما فضلهما بالذكر للتخصيص و التفضيل فهو كقوله من كان عدوا للّه و ملائكته و رسله و جبريل و ميكال خصهما بالذكر و إن كان من جملة الملائكة لشرفهما و فضلهما و قيل بعضهم ليس النخل و الرمان من الفواكه لأن ثمرة النخل فاكهة و طعام و ثمرة الرمان فاكهة و دواء فلم يخلصا للتفكه و لهذا قال أبو حنيفة إذا حلف لا يأكل الفاكهة فأكل رطبا أو رمانا لم يحنث و خالفه صاحباه و هذا القول خلاف قول أهل اللغة و لا حجة له في الآية و روى البغوي بسنده عن ابن عباس موقوفا قال نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر و كرمها ذهب أحمر و سعفها كسوة لأهل الجنة منها حللهم و ثمرها مثل القلال أو الدلاء أشد بياضا من اللبن و أحلى من العسل و ألين
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 233
من الزبد ليس له عجم و روي أن الرمانة من رمان الجنة مثل البعير المقتب و قيل إن نخل أهل الجنة نضيد و ثمرها كالقلال كلما نزعت منها واحدة عادت مكانها أخرى العنقود منها اثني عشر ذراعا، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَ أي في الجنان الأربع خَيْراتٌ حِسانٌ روي عن أم سلمة قالت قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أخبرني عن قوله خيرات حسان قال خيرات الأخلاق حسان الوجوه، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ مَقْصُوراتٌ أي مخدرات مستورات لا يخرجن لكوامتهن و شرفهن روي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال «لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بين السماء و الأرض و لملأت ما بينهما ريحا و لنصيفها على رأسها خير من الدنيا و ما فيها» و قيل قصرن أطرافهن و أنفسهن على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلا فِي الْخِيامِ قيل هي البيوت. قال ابن الأعرابي الخيمة لا تكون إلا من أربعة أعواد ثم تسقف بالثمام و يقال خيم فلان خيمة إذا بناها من جريد النخل و خيم بها إذا قام بها و تظلل فيها و قيل كل خيامها من در و لؤلؤ و زبرجد مجوف تضاف إلى القصور في الجنة. (ق) عن أبي موسى الأشعري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء و في رواية عرضها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌ تقدم تفسيره، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ قيل الرفرف رياض الجنة خضر مخصبة و يروى هذا عن ابن عباس و قيل إن الرفرف البسط، و عن ابن عباس الرفرف فضول المجالس و البسط منه و قيل هي مجالس خضر فوق الفرش و قيل هي المرافق و قيل الزرابي و قيل كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف وَ عَبْقَرِيٍّ حِسانٍ قيل هي الزرابي و الطنافس الثخان و قيل هي الطنافس الرقاق و قيل كل ثوب موشى عند العرب فهو عبقري و قال الخليل كل جليل نفيس فاخر من الرجال و غيرهم فهو عبقري عند العرب و منه قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في عمر «فلم أر عبقريا يفري فريه» و أصل هذا فيما قيل إنه نسب إلى عبقر و هي أرض يسكنها الجن فصار مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع عجيب و ذلك أن العرب تعتقد في الجن كل صفة عجيبة و أنهم يأتون بكل أمر عجيب و لما كانت عبقر معروفة بسكنى الجن نسبوا إليها كل شيء عجيب بديع.
[سورة الرحمن (55): الآيات 77 الى 78]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (78)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ قيل لما ختم نعم الدنيا بقوله «و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام» و فيه إشارة إلى أن الباقي هو اللّه تعالى و أن الدنيا فانية ختم نعمة الآخرة بهذه الآية و هو إشارة إلى تمجيده و تحميده (م) عن ثوبان قال «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا و قال اللهم أنت السلام و منك السلام تباركت يا ذا الجلال و الإكرام» و عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام و منك السلام تباركت يا ذا الجلال و الإكرام» أخرجه أبو داود و النسائي غير قولها لم يقعد إلا مقدار ما يقول و اللّه أعلم بمراده.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 234
سورة الواقعة
(مكية و هي سبع و تسعون آية و ثلاثمائة و ثمان و سبعون كلمة و ألف و سبعمائة و ثلاثة أحرف) روى البغوي بسنده عن أبي ظبية عن عبد اللّه بن مسعود قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا».
و كان أبو ظبية لا يدعها أبدا، و أخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول لم يعزه، و اللّه تعالى أعلم.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة الواقعة (56): الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله عز و جل: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ يعني إذا قامت القيامة و قيل إذا نزلت صيحة القيامة و هي النفخة الأخيرة و قيل الواقعة اسم للقيامة كالآزفة، لَيْسَ لِوَقْعَتِها يعني لمجيئها كاذِبَةٌ يعني ليس لها كذب و المعنى أنها تقع حقا و صدقا و قيل معناه ليس لوقعتها قصة كاذبة أي كل ما أخبر اللّه عنها و قص من خبرها قصة صادقة غير كاذبة و قيل معناه ليس لوقعتها نفس كاذبة أي إن كل من يخبر عن وقوعها صادق غير كاذب لم تكذب نفس أخبرت عن وقوعها، خافِضَةٌ رافِعَةٌ أي تخفض أقواما إلى النار و ترفع أقواما إلى الجنة و قال ابن عباس تخفض أقواما كانوا في الدنيا مرتفعين و ترفع أقواما كانوا في الدنيا مستضعفين و قيل تخفض أقواما بالمعصية و ترفع أقواما بالطاعة، إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي إذا حركت و زلزلت زلزالا و ذلك أن اللّه عز و جل إذا أوحى إليها اضطربت فرقا و خوفا قال المفسرون ترج كما يرج الصبي في المهد حتى ينهدم كل بناء عليها و ينكسر كل ما فيها من جبال و غيرها و هو قوله تعالى: وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتتت حتى صارت كالدقيق المبسوس و هو المبلول و قيل صارت كثيبا مهبلا بعد أن كانت شامخة و قيل معناه قلعت من أصلها و سيرت على وجه الأرض حتى ذهب بها فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا أي غبارا متفرقا كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل الكوة و هو الهباء، وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً أي أصنافا ثَلاثَةً ثم فسر الأزواج فقال تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ يعني أصحاب اليمين.
و الميمنة ناحية اليمين و هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة و قال ابن عباس هم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه و قال اللّه تعالى: «هؤلاء إلى الجنة و لا أبالي» و قيل هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم و قيل هم الذين كانوا ميامين أي مباركين على أنفسهم و كانت أعمالهم صالحة في طاعة اللّه و هم التابعون بإحسان ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ تعجيب من حالهم في السعادة. و المعنى أي شيء هم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 235
[سورة الواقعة (56): الآيات 9 الى 16]
وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ يعني أصحاب الشمال و هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار و قال ابن عباس هم الذين كانوا على شمال آدم عند إخراج الذرية و قال اللّه تعالى لهم: «هؤلاء إلى النار و لا أبالي» و قيل هم الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم و قيل هم المشائيم على أنفسهم و كانت أعمالهم في المعاصي لأن العرب تسمي اليد اليسرى الشؤمى، وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ قال ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة السابقون في الآخرة إلى الجنة و قيل هم السابقون إلى الإسلام و قيل هم الذين صلوا إلى القبلتين من المهاجرين و الأنصار و قيل هم السابقون إلى الصلوات الخمس و قيل إلى الجهاد و قيل هم المسارعون إلى التوبة و إلى ما دعا اللّه إليه من أعمال البر و الخير و قيل هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة.
فإن قلت لم أخر ذكر السابقين و كانوا أولى بالتقديم عن أصحاب اليمين.
قلت فيه لطيفة و ذلك أن اللّه تعالى ذكر في أول السورة من الأمور الهائلة عند قيام الساعة تخويفا لعباده فإما محسن فيزداد رغبة في الثواب و إما مسيء فيرجع عن إساءته خوفا من العقاب فلذلك قدم أصحاب اليمين ليسمعوا و يرغبوا ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا ثم ذكر السابقين و هم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ليجتهد أصحاب اليمين في القرب من جهنم ثم أثنى على السابقين فقال تعالى: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ يعني من اللّه في جواره و في ظل عرشه و دار كرامته و هو قوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ قوله تعالى: ثُلَّةٌ أي جماعة غير محصورة العدد، مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني من الأمم الماضية من لدن آدم إلى زمن نبينا وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ يعني من هذه الأمة و ذلك لأن الذين عاينوا جميع الأنبياء و صدقوهم من الأمم الماضية أكثر ممن عاين النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و آمن به و قيل إن الأولين هم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قيل من الآخرين أي ممن جاء بعدهم من الصحابة، عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ أي منسوجة من الذهب و الجوهر و قيل موضونة يعني مصفوفة مُتَّكِئِينَ عَلَيْها أي على السرر مُتَقابِلِينَ يعني لا ينظر بعضهم في قفا بعض وصفوا بحسن العشرة في المجالسة و قيل لأنهم صاروا أرواحا نورانية صافية ليس لهم أدبار و ظهور.
[سورة الواقعة (56): الآيات 17 الى 23]
وَ حُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي للخدمة وِلْدانٌ أي غلمان مُخَلَّدُونَ لا يموتون و لا يهرمون و لا يتغيرون و لا ينتقلون من حالة إلى حالة و قيل مخلدون مفرطون و الخلد القرط و هو الحلقة تعلق في الأذن و اختلفوا في هؤلاء الولدان فقيل هم أولاد المؤمنين الذين ماتوا أطفالا و فيه ضعف لأن اللّه أخبر أنه يلحقهم بآبائهم و لأن من المؤمنين من لا ولد له فلو خدمه ولد غيره كان منقصة بأبي الخادم و قيل هم صغار الكفار الذين ماتوا قبل التكليف و هذا القول أقرب من الأول لأنه قد اختلف في أولاد المشركين على ثلاثة مذاهب فقال الأكثرون هم في النار تبعا لآبائهم و توقف فيهم طائفة و المذهب الثالث و هو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة و لكل مذهب دليل ليس هذا موضعه، و قيل هم أطفال ماتوا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها و لا سيئات فيعاقبوا عليها و من قال بهذه الأقوال يعلل بأن الجنة ليس فيها ولادة و القول الصحيح الذي لا معدل عنه إن شاء اللّه إنهم ولدان خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة كالحور و إن لم يولدوا و لم يحصلوا عن ولادة أطلق عليهم اسم الولدان لأن العرب تسمي الغلام وليدا ما لم يحتلم و الأمة وليدة و إن أسنت، بِأَكْوابٍ جمع كوب و هي الأقداح المستديرة الأفواه لا آذان لها و لا عرا وَ أَبارِيقَ جمع إبريق و هي ذوات الخراطيم و العرا سميت أباريق
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 236
لبريق لونها من الصفاء و قيل لأنها يرى باطنها كما يرى ظاهرها، وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي من خمرة جارية لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أي لا تصدع رؤوسهم من شربها و عنها كناية عن الكأس و قيل لا يتفرقون عنها وَ لا يُنْزِفُونَ أي لا يغلب على عقولهم و لا يسكرون منها و قرئ بكسر الزاي و معناه لا ينفد شرابهم، وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يأخذون خيارها وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ قال ابن عباس يخطر على قلبه لحم الطير فيطير ممثلا بين يديه على ما اشتهى و قيل إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير.
فإن قلت هل في تخصيص الفاكهة بالتخير و اللحم بالاشتهاء بلاغة؟.
قلت نعم و كيف لا و في كل حرف من حروف القرآن بلاغة و فصاحة و الذي يظهر فيه أن اللحم و الفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم و إذا حضرا عند الشبعان تميل نفسه إلى الفاكهة فالجائع مشته و الشبعان غير مشته بل هو مختار و أهل الجنة إنما يأكلون لا من جوع بل للتفكه فميلهم إلى الفاكهة أكثر فيتخيرنها و لهذا ذكرت في مواضع كثيرة من القرآن بخلاف اللحم و إذا اشتهاه حضر بين يديه على ما يشتهيه فتميل نفسه إليه أدنى ميل و لهذا قدم الفاكهة على اللحم و اللّه أعلم، وَ حُورٌ عِينٌ أي و يطوف عليهم حور عين و قيل لهم حور عين و جاء في تفسير حور أي بيض عين أي ضخام العيون كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي المخزون في الصدف المصون الذي لم تمسه الأيدي و لم تقع عليه الشمس و الهواء فيكون في نهاية الصفاء روي «أنه سطع نور في الجنة فقيل ما هذا؟ قيل ضوء ثغر حوراء ضحكت» و روي «أن الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقيها و تمجيد الأسورة من ساعديها و إن عقد الياقوت يضحك من نحرها و في رجليها نعلان من ذهب شراكها من لؤلؤ يصران بالتسبيح».
[سورة الواقعة (56): الآيات 24 الى 31]
وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي فعلنا ذلك بهم جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا بطاعتنا لا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة، لَغْواً قيل اللغو ما يرغب عنه من الكلام و يستحق أن يلغى و قيل هو القبيح من القول و المعنى ليس فيها لغو فيسمع وَ لا تَأْثِيماً قيل معناه أن بعضهم لا يقول لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم كما يتكلم به أهل الدنيا و قيل معناه لا يأتون تأثيما أي ما هو سبب التأثيم من قول أو فعل قبيح إِلَّا قِيلًا معناه لكن يقولون قيلا أو يسمعون قيلا سَلاماً سَلاماً يعني يسلم بعضهم على بعض و قيل تسلم الملائكة عليهم أو يرسل الرب بالسلام إليهم و قيل معناه أن قولهم يسلم في اللغو.
ثم ذكر أصحاب اليمين و عجب من شأنهم فقال تعالى: وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ لما بين حال السابقين شرع في بيان حال أصحاب اليمين فقال تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ أي لا شوك فيه كأنه خضد شوكه أي قطع و نزع منه و هذا قول ابن عباس و قيل هو الموقر حملا قيل ثمرها أعظم من القلال و هو النبق قيل لما نظر المسلمون إلى وج و هو واد مخصب بالطائف فأعجبهم سدره فقالوا ليت لنا مثل هذا فأنزل اللّه هذه الآية وَ طَلْحٍ قيل هو الموز عند أكثر المفسرين و قيل هو شجر له ظل بارد طيب و قيل هو شجر أم غيلان له شوك و نور طيب الرائحة فخوطبوا و وعدوا بمثل ما يحبون و يعرفون إلا أن فضله على شجر الدنيا كفضل الجنة على الدنيا مَنْضُودٍ أي متراكم قد نضد بالحمل من أوله إلى آخره ليست له سوق بارزة بل من عروقه إلى أغصانه ثمر و ليس شيء من ثمر الجنة في غلاف كثمر الدنيا مثل الباقلاء و الجوز و نحوهما بل كلها مأكول و مشروب و مشموم و منظور إليه، وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ أي دائم لا تنسخه الشمس كظل أهل الدنيا و ذلك لأن الجنة ظل كلها لا
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 237
شمس فيها. (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة و اقرءوا إن شئتم و ظل ممدود» و عن ابن عباس في قوله و ظل ممدود قال شجرة في الجنة على ساق يخرج إليها أهل الجنة فيتحدثون في أصلها فيشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل اللّه عز و جل ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ أي مصبوب يجري دائما في غير أخدود و لا ينقطع.
[سورة الواقعة (56): الآيات 32 الى 36]
وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ قال ابن عباس لا تنقطع إذا جنيت و لا تمتنع من أحد إذا أراد أخذها و قيل لا مقطوعة بالأزمان و لا ممنوعة بالأثمان كما تنقطع ثمار الدنيا في الشتاء و لا يوصل إليها إلا بالثمن و قيل لا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا و جاء في الحديث «ما قطعت ثمرة من ثمار الجنة إلا أبدل اللّه عز و جل مكانها ضعفين» وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ قال علي مرفوعة على الأسرة و قيل بعضها فوق بعض فهي مرفوعة عالية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «في قوله: و فرش مرفوعة قال ارتفاعها كما بين السماء و الأرض و مسيرة ما بينهما خمسمائة عام» أخرجه الترمذي و قال حديث حسن غريب قال الترمذي قال بعض أهل العلم معنى هذا الحديث ارتفاعها كما بين السماء و الأرض يقول ارتفاع الفرش المرفوعة في الدرجات و الدرجات ما بين كل درجتين بين السماء و الأرض و قيل أراد بالفرش النساء و العرب تسمي المرأة فراشا و لباسا على الاستعارة فعلى هذا القول يكون معنى مرفوعة أي رفعن بالفضل و الجمال على نساء الدنيا و يدل على هذا التأويل قوله في عقبه، إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً أي خلقناهن خلقا جديدا قال ابن عباس يعني الآدميات العجائز الشمط يقول خلقناهن بعد الكبر و الهرم خلقا آخر، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً يعني عذارى. عن أنس رضي اللّه تعالى عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «إن أنشأناهن إنشاء قال إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا» أخرجه الترمذي و قال حديث غريب و ضعف بعض رواته و روى البغوي بسنده عن الحسن قال «أتت عجوز النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقالت يا رسول اللّه ادع اللّه أن يدخلني الجنة فقال يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز قال فولت تبكي قال أخبروها أنها لا تدخلها و هي عجوز إن اللّه تعالى قال إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً هذا حديث مرسل و روي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في قوله إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً قال عجائزكن في الدنيا عمشا رمصا فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً و قال المسيب بن شريك هن عجائز الدنيا أنشأهن اللّه بقدرته خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا و قيل إنهن فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا و قيل هن الحور العين أنشأهن اللّه لم تقع عليهن ولادة فجعلناهن أبكارا عذارى و ليس هناك وجع.
[سورة الواقعة (56): الآيات 37 الى 40]