کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 139
فيأمر هذا بتقوى اللّه فإذا لم يقبل و أخذته العزة بالإثم قال و أنا أشري نفسي للّه فقاتله، و كان علي كرم اللّه وجهه إذا قرأ هذه الآية يقول اقتتلا و رب الكعبة. و سمع عمر رجلا يقرأ هذه الآية: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فقال عمر: إنا للّه و إنا إليه راجعون قام رجل فأمر بالمعروف و نهى عن المنكر فقتل. عن أبي سعيد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» أخرجه الترمذي، و قال حديث حسن غريب. و أما تفسير الآية فذكر المفسرون أن المراد بهذا الشراء البيع و منه قوله: وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ أي باعوه و المعنى أن المسلم باع نفسه بثواب اللّه تعالى في الدار الآخرة، و هذا البيع هو أن يبذل نفسه في طاعة اللّه من صلاة و صيام، و حج و جهاد و أمر بمعروف و نهي عن المنكر، فكان ما يبذله من نفسه كالسلعة فصار كالبائع، و اللّه تعالى المشتري، و الثمن هو ثواب اللّه تعالى في الآخرة ابتغاء مرضاة اللّه أي طلب رضا اللّه وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أي من رأفة اللّه بعباده أن جعل النعيم الدائم في الجنة جزاء على العمل القليل المنقطع، و من رأفته أنه يقبل توبة عبده و من رأفته أن نفس العباد و أموالهم له، ثم إنه تعالى يشتري ملكه بملكه فضلا منه و رحمة و إحسانا قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): الآيات 208 الى 209]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام و أصحابه، و ذلك لما أسلموا قاموا على تعظيم شرائع موسى فعظموا السبت و كرهوا لحوم الإبل و ألبانها، و قالوا: إن ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام و واجب في التوراة، و قالوا أيضا: يا رسول اللّه إن التوراة كتاب اللّه دعنا فلنقم به في صلاتنا بالليل، فأنزل اللّه هذه الآية و أمرهم أن يدخلوا في السلم أي في شرائع الإسلام و لا يتمسكوا بالتوراة فإنها منسوخة. و المعنى استسلموا للّه و أطيعوه فيما أمركم به و قيل هو خطاب لمن لم يؤمن بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم من أهل الكتاب. و المعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى و عيسى ادخلوا في السلم كافة أي في الإسلام. و روى جابر عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حين أتاه عمر فقال إنا نسمع أحاديث من يهود و تعجبنا فنرى أن نكتب بعضها فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: «أ تتهوكون كما تهوكت اليهود و النصارى، لقد جئتكم بها بيضاء نقية و لو أن موسى حي ما وسعه إلّا اتباعي» قوله أ تتهوكون أي تتحيرون أنتم في دينكم حتى تأخذوه من اليهود و النصارى، و قوله لقد جئتكم بها يعني بالملة الحنيفية بيضاء نقية، أي لا تحتاج إلى شيء، و قيل يحتمل أن يكون خطابا للمنافقين من المؤمنين، و المعنى يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا في السلم أي الانقياد و الطاعة لأن أصل السلم الاستسلام، و هو الانقياد كافة، أي بأجمعكم و لا تتفرقوا، و قيل يحتمل أن يرجع إلى الإسلام و المعنى ادخلوا في أحكام الإسلام و شرائعه كافة و هذا المعنى أليق بظاهر التفسير لأنهم أمروا بالقيام بها كلها. قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية: للإسلام ثمانية أسهم فعل الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و العمرة و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. قال: و قد خاب من لا سهم له وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ يعني آثاره فيما زين لكم من تحريم السبت و لحوم الإبل و غير ذلك، و قيل: لا تلتفتوا إلى الشبهات التي يلقيها إليكم أصحاب الضلالة و الغواية و الأهواء المضلة لأن من اتبع سنة إنسان فقد تبع آثره إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ يعني الشيطان. فإن قلت عداوته بإيصال الضرر و إلقاء الوسوسة فكيف يصح ذلك مع الاعتقاد، فإن اللّه هو الفاعل لجميع الأشياء. قلت: إنه يحاول إيصال الضرر و البلاء إلينا، و لكن اللّه منعه عن ذلك و أما معنى الوسوسة فمعلوم أنه يزين المعاصي و إلقاء الشبهات، و كل سبب لوقوع الإنسان في مخالفة اللّه تعالى فيصده بذلك عن الثواب، فهذا من أعظم جهات العداوة. فإن قلت: كيف يصح وصف الشيطان بأنه مبين مع أنا لا نراه؟ قلت: إن اللّه تعالى بين عداوته ما هي فكأنه بين و إن لم يشاهد فَإِنْ زَلَلْتُمْ أي ملتم و ضللتم
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 140
و قال ابن عباس أشركتم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أي الدلالات الواضحات فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي في نقمته ممن خالفه غالب لا يعجزه شيء حَكِيمٌ يعني أنه لا ينتقم إلّا بحق و الحكيم ذو الإصابة في الأمور كلها و في الآية و عيد و تهديد لمن في قلبه شك و نفاق، أو عنده شبهة في الدين قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): الآيات 210 الى 211]
هَلْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون التاركون الدخول في السلم و المتبعون خطوات الشيطان إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ جمع ظلة مِنَ الْغَمامِ يعني السحاب الأبيض الرقيق سمي غماما لأنه يغم و يستر و قيل هو شيء غير السحاب و لم يكن إلّا لبني إسرائيل في تيههم و هو كهيئة الضباب الأبيض وَ الْمَلائِكَةُ أي و تأتيهم الملائكة.
و روى الطبري في تفسيره بسند متصل عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «من الغمام طاقات يأتي اللّه عزّ و جلّ فيها محفوظا، و ذلك قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ قال عكرمة: و الملائكة حوله و قيل معناه حول الغمام و قيل حول الرب تبارك و تعالى. و اعلم أن هذه الآية من آيات الصفات و للعلماء في آيات الصفات و أحاديث الصفات مذهبان أحدهما و هو مذهب سلف هذه الأمة و أعلام أهل السنة: الإيمان و التسليم لما جاء في آيات الصفات و أحاديث الصفات، و أنه يجب علينا الإيمان بظاهرها و نؤمن بها كما جاءت و نكل علمها إلى اللّه تعالى و إلى رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم مع الإيمان، و الاعتقاد بأن اللّه تعالى منزه عن سمات الحدوث و عن الحركة و السكون. قال الكلبي: هذا من الذي لا يفسر و قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف اللّه به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته و السكوت عليه ليس لأحد أن يفسره إلّا اللّه و رسوله. و كان الزهري و الأوزاعي و مالك و ابن المبارك و سفيان الثوري و الليث بن سعد و أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه يقولون في هذه الآية و أمثالها اقرءوها كما جاءت بلا كيف و لا تشبيه و لا تأويل هذا مذهب أهل السنة و معتقد سلف الأمة، و أنشد بعضهم في المعنى:
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته
و لا ذاته شيء عقيدة صائب
نسلم آيات الصفات بأسرها
و أخبارها للظاهر المتقارب
و نؤيس عنها كنه فهم عقولنا
و تأويلنا فعل اللبيب المغالب
و نركب للتسليم سفنا فإنها
لتسليم دين المرء خير المراكب
(المذهب الثاني) و هو قول جمهور علماء المتكلمين، و ذلك أنه أجمع جميع المتكلمين من العقلاء و المعتبرين من أصحاب النظر على أنه تعالى منزه عن المجيء و الذهاب، و يدل على ذلك أن كل ما يصح عليه المجيء و الذهاب لا ينفك عن الحركة و السكون و هما محدثان، و ما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، و اللّه تعالى منزه عن ذلك فيستحيل ذلك في حقه تعالى فثبت بذلك أن ظاهر الآية ليس مرادا، فلا بد من التأويل على سبيل التفصيل، فعلى هذا قيل في معنى الآية هل ينظرون إلّا أن يأتيهم اللّه الآيات فيكون مجيء الآيات مجيئا للّه تعالى على سبيل التفخيم لشأن الآيات و قيل معناه إلّا أن يأتيهم أمر اللّه و وجه هذا التأويل أن اللّه تعالى فسره في آية أخرى فقال: هل ينظرون إلّا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك، فصار هذا الحكم مفسرا لهذا المجمل في هذه الآية. و قيل: معناه يأتيهم اللّه بما أوعد من الحساب و العقاب فحذف ما يأتي به تهويلا عليهم إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد، و إذا لم يذكر كان أبلغ و قيل يحتمل أن تكون الفاء بمعنى الباء لأن
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 141
بعض الحروف يقوم مقام بعض فيكون المعنى هل ينظرون إلّا أن يأتيهم اللّه بظلل من الغمام و الملائكة، و المراد العذاب الذي يأتي من الغمام مع الملائكة، و قيل معناه ما ينظرون إلّا أن يأتيهم قهر اللّه و عذابه في ظلل من الغمام. فإن قلت: لم كان إتيان العذاب في الغمام؟ قلت: لأن الغمام مظنة الرحمة و منه ينزل المطر، فإذا نزل منه العذاب كان أعظم و أفظع و قيل إن نزول الغمام علامة لظهور القيامة و أهوالها وَ قُضِيَ الْأَمْرُ أي وجب العذاب و فرغ من الحساب، و ذلك فصل اللّه القضاء بين العباد يوم القيامة وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إلى اللّه تصير أمور العباد في الآخرة. فإن قلت: هل كانت ترجع إلى غيره؟ قلت: إن أمور جميع العباد ترجع إليه في الدنيا و الآخرة، و لكن المراد من هذا إعلام الخلق إنه المجازي على الأعمال بالثواب و العقاب، و جواب آخر و هو أنه لما عبد قوم غيره في الدنيا أضافوا أفعاله إلى سواه ثم فإذا كان يوم القيامة و انكشف الغطاء ردوا إلى اللّه ما أضافوه إلى غيره في الدنيا. قوله عز و جل: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم أمره أن يسأل يهود المدينة، و ليس المراد بهذا السؤال العلم بالآيات لأنه كان صلّى اللّه عليه و سلّم قد علمها بإعلام اللّه إياه، و لكن المراد بهذا السؤال التقريع و التوبيخ و المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل اللّه و ترك الشكر، و قيل المراد بهذا السؤال التقرير و تذكير النعم التي أنعم بها على سلفهم كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي من دلالة واضحة على نبوة موسى عليه السلام مثل العصا و اليد البيضاء و فلق البحر و إنزال المن و السلوى وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ يعني يغير الآية التي جاءته من اللّه لأنها هي سبب الهدى و النجاة من الضلالة، و قيل هي حجج اللّه الدالة على نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و ذلك أنهم أنكروها و بدلوها، و قيل المراد بنعم اللّه عهده الذي عهد إليهم فلم يفوا به فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ يعني لمن بدل نعمة اللّه. قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): آية 212]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا نزلت في مشركي العرب أبي جهل و أصحابه لأنهم كانوا يتنعمون بما بسط لهم في الدنيا من المال و يكذبون بالمعاد، و قيل: نزلت في المنافقين عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه. و قيل: نزلت في رؤساء اليهود. و يحتمل أنها نزلت في الكلّ. و المزين هو اللّه تعالى بدليل قراءة من قرأ زين بفتح الزاي و ذلك أنه لا يمتنع أن يكون اللّه تعالى هو المزين لهم بما أظهره في الدنيا من الزهرة و النضارة و الطيب و اللذة و خلق الأشياء العجيبة و المناظر الحسنة، و إنما فعل ذلك ابتلاء العبادة و ذلك أنه جعل دار الدنيا ابتلاء و امتحان و ركب في الطباع الميل إلى اللذات و حب الشهوات لا على سبيل الإلجاء و القسر الذي لا يمكن تركه، بل على سبيل التحبب الذي تميل النفس إليه مع إمكان. ردها عنه فنظر الخلق إلى الدنيا أكثر من قدرها فأعجبهم حسنها و زهرتها و زينتها فأحبوها و فتنوا بها. و قيل: إن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا حتى أقبلوا عليها و أحبوها، فكان هذا الإمهال هو التزين. و قيل: إن المزين هو الشيطان و غواة الجن و الإنس، و ذلك أنهم زينوا للكفار الحرص على الدنيا و طلبها و قبحوا لهم أمر الآخرة. و قيل: أوهموهم أن لا آخرة ليقبلوا على لذات الدنيا و طلب الحرص عليها، و هذا التأويل ضعيف لأن قوله تعالى زين الذين كفروا يتناول جميع الكفار فيدخل فيه الشيطان و غواة الجن و الإنس و أن كلهم مزين لهم و هذا المزين لا بد و أن يكون مغايرا لهم فثبت بهذا ضعف قول المعتزلة وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني أن الكفار يستهزئون بفقراء المؤمنين، قال ابن عباس: مثل عبد اللّه بن مسعود و عمار بن ياسر و صهيب و بلال و نظرائهم. و قيل: كانوا يقولون انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا يعني الفقراء من المؤمنين فَوْقَهُمْ أي فوق الكفار يَوْمَ الْقِيامَةِ لأن الفقراء في عليين و الكفار و المنافقين في أسفل السافلين (ق) عن حارثة بن وهب أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «ألا أخبركم
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 142
بأهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على اللّه لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل عتلّ جوّاظ جعظري مستكبر» العتل الفظ الغليظ الشديد في الخصومة الذي لا ينقاد لخير. و الجواظ الفاجر المختال في مشيته، و قيل هو القصير البطين. و الجعظري الفظ الغليظ، و قيل هو الذي يتمدح بما ليس فيه أو عنده (ق) عن أسامة بن زيد عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين و أصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار و قمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء» الجد بفتح الجيم هو الحظ و الغنى و كثرة المال وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ قال ابن عباس: يعطي كثيرا بغير مقدار لأن كل ما يدخل عليه الحساب فهو قليل، و المعنى أنه يوسع لمن يشاء من عباده و قيل يرزقه في الدنيا و لا يحاسبه في الآخرة، و قيل معناه أنه يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب و قيل معناه أنه يرزقه بغير استحقاق و قيل معناه أنه تعالى لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب لما يخرج منها لأن الحساب إنما يكون ليعلم قدر ما يعطي و اللّه غني عالم بما يعطي و لا يخاف نفاد خزائنه لأنها بين الكاف و النون و قيل معناه إن اللّه يقتر الرزق على ما يشاء و يبسط الرزق لمن يشاء، و لا يعطي كل واحد على قدر حاجته، بل يعطي الكثير لمن لا يحتاج إليه، و لا معارض له في حكمه، و يحاسب فيما رزق، و لا يقال له لم أعطيت هذا و حرمت هذا، و لا لم أعطيت هذا أكثر من ذاك؟ لأنه تعالى لا شريك له في ملكه ينازعه و لا يسأل عما يفعل. و قيل: يحتمل أن يكون المراد منه ما يعطي اللّه المتقين في الآخرة من الثواب و الكرامة بغير محاسبة منه لهم على ما من به عليهم و ذلك أن نعيم الجنة لا نفاد له و لا انقطاع. و قيل: إنه تعالى يعطي أهل الجنة الثواب و الأجر بقدر أعمالهم ثم يتفضل عليهم فذلك الفضل منه إليهم بغير حساب قوله عز و جل.
[سورة البقرة (2): آية 213]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي على دين واحد. قيل هو آدم و ذريته كانوا مسلمين على دين واحد إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا. و قيل كان الناس على شريعة واحدة من الحق و الهدى من وقت آدم إلى مبعث نوح ثم اختلفوا، فبعث اللّه نوحا، و هو أول رسول بعث، ثم بعث بعده الرسل. و قيل هم أهل السفينة الذين كانوا مع نوح و كانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاته. و قيل إن العرب كانت على دين إبراهيم عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي. و قيل كانت الناس أمة واحدة حين أخرجوا من ظهر آدم لأخذ الميثاق فقال: أ لست بربكم؟ قالوا بلى، فاعترفوا بالعبودية و لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم، ثم لما ظهروا إلى الوجود اختلفوا بسبب البغي و الحسد. و قيل إن آدم وحده كان أمة واحدة يعني إماما و قدوة يقتدى به و إنما ظهر الاختلاف بعده. و قيل كان الناس أمة واحدة على الكفر و الباطل بدليل قوله فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ فإن قيل: أليس قد كان فيهم من هو مسلم نحو هابيل و شيث و إدريس و نحوهم؟ فالجواب أن الغالب في ذلك الزمان كان الكفر و الحكم للغالب. و قيل إن الآية دلت على أن الناس كانوا أمة واحدة و ليس فيها ما يدل على أنهم كانوا على إيمان أو كفر فهو موقوف على دليل من خارج فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ و جملتهم مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا الرسل منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر المذكورون منهم في القرآن بأسماء الأعلام ثمانية و عشرون نبيا مُبَشِّرِينَ بالثواب لمن آمن و أطاع وَ مُنْذِرِينَ يعني مخوفين بالعقاب لمن كفر و عصى، و إنما قدم البشارة على الإنذار لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة للأبدان و الإنذار يجري مجرى إزالة المرض، و لا شك أن المقصود هو الأول فكان أولى بالتقديم وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ أي الكتب أو يكون التقدير و أنزل مع كل واحد الكتاب بِالْحَقِ أي بالعدل و الصدق و جملة الكتب
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 143
المنزلة من السماء مائة و أربعة كتب أنزل على آدم عشر صحائف، و على شيث ثلاثون، و على إدريس خمسون، و على موسى عشر صحائف و التوراة، و على داود الزبور، و على عيسى الإنجيل، و على محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و عليهم القرآن لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ يعني الكتاب و إنما أضيف الحكم إلى الكتاب و إن كان الحاكم هو اللّه تعالى لأنه أنزله.
و المعنى ليحكم اللّه بالكتاب الذي أنزله و قيل معناه ليحكم بين الناس كل نبي بكتابة المنزل عليه فإسناد الحكم إلى الكتاب أو للنبي مجاز و اللّه هو الحاكم في الحقيقة فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في الحق الذي اختلفوا فيه من بعد ما كانوا متفقين عليه وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الحق إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي أعطوا الكتاب و المراد به التوراة و الإنجيل و الذين أوتوه اليهود و النصارى و اختلافهم هو تكفير بعضهم بعضا بغيا و حسدا. و قيل اختلافهم هو تحريفهم و تبديلهم. و قيل الكناية فيه راجعة إلى محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و المعنى و ما اختلف في أمر محمد صلّى اللّه عليه و سلّم بعد وضوح الدلالات على صحة نبوته صلّى اللّه عليه و سلّم إلّا اليهود الذين أوتوا الكتاب بغيا منهم و حسدا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الدلالات الواضحات على صحة نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم بَغْياً بَيْنَهُمْ أي إنهم لم يبق لهم عذر في العدول عنه و ترك ما جاء و إنما تركوا إتباعه بغيا و حسدا، و هو طلب الدنيا و طلب الرياسة فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي إلى ما اختلفوا فيه مِنَ الْحَقِ و المعنى فهدى اللّه الذين آمنوا لمعرفة ما اختلفوا فيه من الحق و قيل هو من المقلوب و المعنى فهدى اللّه الذين آمنوا للحق الذي اختلفوا فيه و كان اختلافهم الذي اختلفوا فيه الجمعة فهدى اللّه تعالى هذه الأمة الإسلامية إليها (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «نحن الآخرون السابقون يقوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا و أوتيناه من بعدهم فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا اللّه فغدا لليهود و بعد غد للنصارى» و في رواية قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض اللّه عليهم فاختلفوا فيه فهدانا اللّه له» زاد النسائي: يعني يوم الجمعة، ثم اتفقا فالناس لنا تبع اليهود غدا و النصارى بعد غد (م) عن حذيفة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أضل اللّه عن يوم الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، و للنصارى يوم الأحد، فجاء اللّه بنا فهدانا ليوم الجمعة فجعل اللّه الجمعة و السبت و الأحد و كذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا الأولون يوم القيامة المقضي لهم يوم القيامة قبل الخلائق. و قيل اختلفوا في شأن القبلة فصلت اليهود نحو المغرب إلى بيت المقدس، و صلت النصارى إلى المشرق، و هدانا اللّه إلى الكعبة. و قيل اختلفوا في الصيام فهدانا اللّه لشهر رمضان، و اختلفوا في إبراهيم فقالت اليهود كان يهوديا، و قالت النصارى كان نصرانيا، فهدانا إلى الحق فقلنا: كان حنيفا مسلما. و اختلفوا في عيسى ابن مريم فاليهود فرطوا فيه و النصارى أفرطوا فيه، فهدانا اللّه في ذلك كله للحق. و المعنى فهدى اللّه الذين آمنوا إلى الحق الذي اختلف فيه من اختلف بِإِذْنِهِ يعني بعلمه و أمره و إرادته وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .
[سورة البقرة (2): آية 214]
قوله عز و جل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ نزلت في غزوة الأحزاب و هي غزوة الخندق، و ذلك أن المسلمين أصابهم ما أصابهم من الجهد و الشدة و الخوف و البرد و ضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ. و قيل: نزلت في غزوة أحد. و قيل: لما دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه المدينة في أول الهجرة اشتد عليهم الضر لأنهم خرجوا بلا مال و تركوا أموالهم و ديارهم بأيدي المشركين، و آثروا رضا اللّه و رسوله، و أظهرت اليهود العداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و آثر قوم النفاق فأنزل اللّه هذه الآية تطييبا لقلوبهم. و معنى الآية: أ حسبتم و الميم صلة. و قيل:
هل حسبتم و المعنى أ ظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان و لم يصبكم مثل ما أصاب من كان
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 144
قبلكم من إتباع الأنبياء و الرسل من الشدائد و المحن و الابتلاء و الاختبار و هو قوله: وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي شبه الذين مضوا قبلكم من النبيين و أتباعهم من المؤمنين و مثل محنتهم مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ أي أصابهم الفقر و الشدة و المسكنة و هو اسم من البؤس وَ الضَّرَّاءُ يعني المرض و الزمانة و ضروب الخوف وَ زُلْزِلُوا أي و حركوا بأنواع البلايا و الرزايا و أصل الزلزلة الحركة و ذلك لأن الخائف لا يستقر بل لا يزال يضطرب و يتحرك لقلقه حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ و ذلك لأن الرسل أثبت من غيرهم و أصبر و أضبط للنفس عند نزول البلاء و كذا أتباعهم من المؤمنين. و المعنى أنه بلغ بهم الجهد و الشدة و البلاء و لم يبق لهم صبر و ذلك هو الغاية القصوى في الشدة فلما بلغ بهم الحال في الشدة إلى هذه الغاية و استبطئوا النصر قيل لهم أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ إجابة لهم في طلبهم. و المعنى: هكذا كان حالهم لم يغيرهم طول البلاء و الشدة عن دينهم إلى أن يأتيهم نصر اللّه فكونوا يا معشر المؤمنين كذلك و تحملوا الأذى و الشدة و المشقة في طلب الحق فإن نصر اللّه قريب (خ) عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تنتصر لنا ألا تدعو لنا فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين و يمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه و عظمه ما يصده ذلك عن دينه و اللّه ليتمنّ اللّه هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا اللّه و الذئب على غنمه و لكنكم تستعجلون».
[سورة البقرة (2): الآيات 215 الى 216]
قوله عز و جل: يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ نزلت في عمرو بن الجموح، و كان شيخا كبيرا ذا مال، فقال يا رسول اللّه بما ذا نتصدق و على من ننفق؟ فأنزل اللّه تعالى يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ أي مال و المعنى: و ما تفعلوا من إنفاق شيء من المال قل أو كثر فَلِلْوالِدَيْنِ و إنما قدم الإنفاق على الوالدين لوجوب حقهما على الولد لأنهما كانا السبب في إخراجه من العدم إلى الوجود وَ الْأَقْرَبِينَ و إنما ذكر بعد الوالدين الأقربين لأن الإنسان لا يقدر أن يقوم بمصالح جميع الفقراء فتقديم القرابة أولى من غيرهم وَ الْيَتامى و إنما ذكر بعد الأقربين اليتامى لصغرهم، و لأنهم لا يقدرون على الاكتساب، و لا لهم أحد ينفق عليهم وَ الْمَساكِينِ و إنما أخرهم لأن حاجتهم أقل من حاجة غيرهم وَ ابْنِ السَّبِيلِ يعني المسافر فإنه بسبب انقطاعه عن بلده قد يقع في الحاجة و الفقر فانظر إلى هذا الترتيب الحسن العجيب في كيفية الإنفاق. ثم لما فصل اللّه هذا التفصيل الحسن الكامل أتبعه بالإجمال فقال تعالى: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ و ما تفعلوا من خير مع هؤلاء أو غيرهم طلبا لوجه اللّه تعالى و رضوانه فإن اللّه به عليم فيجازيكم عليه و ذكر علماء التفسير أن هذه الآية منسوخة قال ابن مسعود نسختها آية الزكاة و قال الحسن إنها محكمة و وجه إحكامها أن اللّه ذكر فيها من تجب النفقة عليه مع فقره و هما الوالدان. و قال ابن زيد: هذا في النفل، و هو ظاهر الآية فمن أحب التقرب إلى اللّه تعالى بالإنفاق فالأولى به أن ينفق في الوجوه المذكورة في الآية، فيقدم الأول فالأول. (بقي في الآية سؤال:
و هو أنه كيف طابق السؤال الجواب و هو أنهم سألوا عن بيان ما ينفق فأجيبوا ببيان المصرف، و أجيب عن هذا السؤال بأنه قد تضمن قوله: ما أنفقتم من خير بيان ما ينفقونه و هو المال ثم ضم إلى جواب السؤال ما يكمل به المقصود، و هو بيان المصرف لأن النفقة لا تعد نفقة إلّا أن تقع موقعها قال الشاعر:
إن الصنيعة لا تعد صنيعة
حتى يصاب بها طريق المصنع
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 145
قوله عز و جل: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أي فرض عليكم الجهاد. و اختلف العلماء في حكم الآية فقال عطاء الجهاد تطوع و المراد من الآية أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم دون غيرهم و إليه ذهب الثوري و حكى عن الأوزاعي نحوه، و حجة هذا القول أن قوله كتب يقتضي الإيجاب و يكفي العمل به مرة واحدة و حجة من أوجبه على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن قوله عليكم يقتضى تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت، و قيل: بل الآية على ظاهرها و الجهاد فرض على كل مسلم و يدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا» أخرجه أبو داود بزيادة فيه (ق) عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح و لكن جهاد و نية، و إذا استنفرتم فانفروا» و قيل: إن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين و هذا القول: هو المختار الذي عليه جمهور العلماء. قال الزهري كتب اللّه القتال على الناس جاهدوا أو لم يجاهدوا فمن غزا فيها و نعمت و من قعد عدة إن استعين به أعان و إن استنفر نفر و إن استغنى عنه قعد قال اللّه تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى و لو كان القاعد تاركا فرضا لم يعده بالحسنى، و اختلف علماء الناسخ و المنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها أنها محكمة ناسخة للعفو عن المشركين. القول الثاني: إنها منسوخة لأن فيها وجوب الجهاد على الكافة ثم نسخ بقوله تعالى: وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً القول الثالث: إنها ناسخة من وجه و منسوخة من وجه فالناسخ منها إيجاب الجهاد مع المشركين بعد المنع منه، و المنسوخ إيجاب الجهاد على الكافة. و قوله تعالى: وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أي القتال شاق عليكم و هذا الكره إنما حصل من حيث نفور الطبع عن القتال، لما فيه من مؤنة المال و مشقة النفس و خطر الروح و الخوف لا أنهم كرهوا أمر اللّه قيل: نسخ هذا الكره بقوله تعالى إخبارا عنهم: «و قالوا سمعنا و أطعنا» و قيل: إنما كان كراهتهم القتال قبل أن يفرض عليهم لما فيه من الخوف و الشدة و كثرة الأعداء فبين اللّه تعالى أن الذين تكرهون من القتال هو خير لكم من تركه لئلا يكرهونه بعد أن فرض عليهم وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لفظة عسى توهم الشك مثل لعل، و هي من اللّه يقين.
و قيل: إنها كلمة مطمعة فهي لا تدل على حصول الشك للقائل و تدل على حصول الشك للمستمع، و المعنى أن الغزو فيه إحدى الحسنيين إما الظفر و الغنيمة و إما الشهادة و الجنة و قيل: ربما كان الشيء شاقا في الحال و هو سبب المنافع الجليلة في المستقبل، و مثله شرب الدواء المر فإنه ينفر عنه الطبع في الحال و يكرهه لكن يتحمل هذه الكراهة و المشقة لتوقع حصول الصحة في المستقبل وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً يعني القعود عن الغزو وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ يعني لما فيه من فوت الغنيمة و الأجر و طمع العدو فيكم، لأنه إذا علم ميلكم إلى الراحة و الدعة و السكون قصد بلادكم و حاول قتالكم و إذا علم أن فيكم شهامة و جلادة على القتال كف عنكم وَ اللَّهُ يَعْلَمُ يعني ما في الجهاد من الغنيمة و الأجر و الخير وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعني ذلك و المعنى أن العبد إذا علم قصور علمه و كمال علم اللّه ثم إن اللّه تعالى أمره بأمر كان ذلك الأمر فيه مصلحة عظيمة فيجب على العبد امتثال أمر اللّه تعالى و إن كان يشق على النفس في الحال. قوله عز و جل:
[سورة البقرة (2): الآيات 217 الى 218]