کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 173
المشهود عليه، و قيل: إن الأمر بالعدل في القول هو أعم من الحكم و الشهادة، بل يدخل فيه كل قول حتى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من غير زيادة فيه و لا نقصان و أداء الأمانة و غير ذلك من جميع الأقوال التي يعتمد فيها العدل و الصدق وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا يعني ما عهد إلى عباده و وصاهم به و أوجبه عليهم أو ما أوجبه الإنسان على نفسه كنذر و نحوه فيجب الوفاء به ذلِكُمْ يعني الذي ذكر في هذه الآيات وَصَّاكُمْ بِهِ يعني بالعمل به لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يعني لعلكم تتعظون و تتذكرون فتأخذون ما أمرتكم به.
[سورة الأنعام (6): الآيات 153 الى 154]
قوله عز و جل وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ يعني و أن هذا الذي وصيتكم به و أمرتكم به في هاتين الآيتين هو صراطي يعني طريقي و ديني الذي ارتضيته لعبادي مستقيما يعني قويما لا اعوجاج فيه فاتبعوه و يعني فاعملوا به. و قيل: إن اللّه تعالى لما بين في الآيتين المتقدمين ما وصى به مفصلا أجمله في هذه الآية إجمالا يقتضي دخول جميع ما تقدم ذكره فيه و يدخل فيه أيضا جميع أحكام الشريعة و كل ما بينه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من دين الإسلام هو المنهج القويم و الصراط المستقيم و الدين الذي ارتضاه اللّه لعباده المؤمنين و أمرهم باتباع جملته و تفصيله وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ يعني الطرق المختلفة و الأهواء المضلة و البدع الرديئة و قيل السبل المختلفة مثل:
اليهود و النصرانية و سائر الملل و الأديان المخالفة لدين الإسلام فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ يعني فتميل بكم هذه الطرق المختلفة المضلة عن دينه و طريقه الذي ارتضاه لعباده، روى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال: خط لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خطا ثم قال هذا سبيل اللّه ثم خط خطوطا عن يمينه و عن شماله و قال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه و قرأ و إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل الآية ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ يعني باتباع دينه و صراطه الذي لا اعوجاج فيه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني الطرق المختلفة و السبل المضلة. قال ابن عباس: هذه الآيات محكمات في جميع الكتب لم ينسخهن شيء و هن من محرمات على بني آدم كلهم و هن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة و من تركهن دخل النار. و عن ابن مسعود قال: من سرّه أن ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمد صلى اللّه عليه و سلم فليقرأ هؤلاء الآيات قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ الآيات- إلى قوله- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أخرجه الترمذي و قال حديث حسن غريب.
قوله تعالى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة.
فإن قلت إتيان موسى الكتاب كان قبل نزول القرآن و حرف ثم للتعقيب فما معنى ذلك؟ قلت دخلت ثم لتأخير الخير لا لتأخير النزول و المعنى قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ و هو كذا و كذا إلى قوله تعالى لعلكم تتقون ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب و قيل إن المحرمات المذكورة في قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ محرمات على جميع الأمم و جميع الشرائع فتقدير الكلام: ذلك وصاكم به يا بني آدم قديما و حديثا ثم بعد ذلك آتينا موسى الكتاب يعني بعد إيجاب هذه المحرمات و قيل معناه قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ثم قال بعد ذلك يا محمد إنا آتينا موسى الكتاب فحذف لفظة قل لدلالة الكلام عليها.
و قوله تعالى: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ اختلف أهل التفسير فيه فقيل معناه تماما على المحسنين من قومه فيكون الذي بمعنى أي تماما على من أحسن من قومه لأنه كان منهم محسن و مسيء و على قراءة ابن مسعود تماما على الذين أحسنوا، و قيل: معناه تماما على كل من أحسن أي أتممنا فضيلة موسى على المحسنين و هم الأنبياء
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 174
و المؤمنون أي أتممنا فضله عليهم بالكتاب، و قيل: الذي أحسن هو موسى فيكون الذي بمعنى ما أي على ما أحسن و تقديره و آتينا موسى الكتاب إتماما للنعمة عليه لإحسانه في الطاعة و العبادة و تبليغ الرسالة و أداء الأمر.
و قيل الإحسان بمعنى العلم و تقديره آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن موسى من العلم و الحكمة زيادة له على ذلك و قيل معناه تماما مني على إحساني إلى موسى وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ يعني: و فيه بيان لكل شيء يحتاج إليه من شرائع الدين و أحكامه وَ هُدىً يعني: و فيه هدى من الضلالة وَ رَحْمَةً يعني: إنزاله عليهم رحمة مني عليهم لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ قال ابن عباس: لكي يؤمنوا بالبعث و يصدقوا بالثواب و العقاب.
[سورة الأنعام (6): الآيات 155 الى 157]
قوله عز و جل: وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ يعني: القرآن لأنه كثير الخير و النفع و البركة و لا يتطرق إليه نسخ فَاتَّبِعُوهُ يعني: فاعملوا بما فيه من الأوامر و النواهي و الأحكام وَ اتَّقُوا يعني مخالفته لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني: ليكن الغرض بالتقوى رحمة اللّه و قيل معناه لكي ترحموا على جزاء التقوى أَنْ تَقُولُوا يعني لئلا تقولوا و قيل معناه كراهية أن تقولوا يعني أنزلنا إليكم الكتاب كراهية أن تقولوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ و قيل:
يجوز أن تكون أن متعلقة بما قبلها فيكون المعنى و اتقوا أن تقولوا و هذا خطاب لأهل مكة و المعنى و اتقوا يا أهل مكة أن تقولوا إنما أنزل الكتاب و الكتاب اسم جنس لأن المراد به التوراة و الإنجيل عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا يعني اليهود و النصارى وَ إِنْ كُنَّا أي: و قد كنا و قيل و إنه كنا عَنْ دِراسَتِهِمْ يعني قراءتهم لَغافِلِينَ يعني:
لا علم لنا بما فيها لأنها ليست بلغتنا. و المراد بهذه الآية إثبات الحجة على أهل مكة و قطع عذرهم بإنزال القرآن على محمد صلى اللّه عليه و سلم بلغتهم و المعنى: و أنزلنا القرآن بلغتهم لئلا يقولوا يوم القيامة إن التوراة و الإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا بلسانهم و لغتهم فلم نعرف ما فيهما فقطع اللّه عذرهم بإنزال القرآن عليهم بلغتهم أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ و ذلك أن جماعة من الكفار قالوا لو أنزل علينا ما أنزله على اليهود و النصارى لكنّا خيرا منهم و أهدى و إنما قالوا ذلك لاعتمادهم على صحة عقولهم و جودة فطنهم و ذهنهم قال اللّه عز و جل: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ و هو رحمة و نعمة أنعم اللّه بها عليكم فَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم أو أكفر مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَ صَدَفَ عَنْها يعني و أعرض عنها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ يعني أسوأ العذاب و أشده بِما كانُوا يَصْدِفُونَ أي ذلك العذاب جزاؤهم بسبب إعراضهم و تكذيبهم بآيات اللّه قوله تعالى:
[سورة الأنعام (6): آية 158]
هَلْ يَنْظُرُونَ يعني: هل ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل و إنكارهم القرآن و صدهم عن آيات اللّه و هو استفهام معناه النفي و تقديره الآية أنهم لا يؤمنون بك إلا إذا جاءتهم إحدى هذه الأمور الثلاث فإذا جاءتهم إحداها آمنوا و ذلك حين لا ينفعهم إيمانهم إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ يعني: لقبض أرواحهم و قيل أن تأتيهم بالعذاب أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ يعني: للحكم و فصل القضاء بين الخلق يوم القيمة و قد تقدم الكلام في معنى الآية في
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 175
سورة البقرة عند قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ بما فيه كفاية و إن المجيء و الذهاب على اللّه لمحال فيجب إمرارها بلا تكييف أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ قال جمهور المفسرين: هو طلوع الشمس من مغربها، و يدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل طلوع الشمس من مغربها و الدجال و دابة الأرض» أخرجه مسلم. عن أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه و سلم في قوله «أو يأتي بعض آيات ربك» قال: «طلوع الشمس من مغربها» أخرجه الترمذي و قال حديث غريب (م) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب اللّه عليه» عن صفوان بن عسال المراد قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «باب من قبل المغرب مسيرة عرضه أو قال يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة خلقه اللّه تعالى يوم خلق السموات و الأرض مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه» أخرجه الترمذي و قال حديث حسن صحيح.
(ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها» و في رواية «فإذا طلعت و رآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» (م) عن حذيفة بن أسد الغفاري قال اطلع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم علينا و نحن نتذاكر فقال ما تذكرون قلنا الساعة فقال «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر: الدخان و الدجال و الدابة و طلوع الشمس من مغربها و نزول عيسى ابن مريم و ثلاث خسوف خسف بالمشرق و خسف بالمغرب و خسف بجزيرة العرب و آخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم» (م) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال «بادروا بالأعمال قبل ست: طلوع الشمس من مغربها و الدخان و الدجال و الدابة و خويصة أحدكم و أمر العامة» (م) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: حفظت من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حديثا لم أنسه بعد سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها و خروج الدابة على الناس ضحى و أيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا» و روى الطبري بسنده عن عبد اللّه بن مسعود في تفسير هذه الآية قال: «تصبحون و الشمس و القمر من هاهنا من قبل المغرب كالبعيرين القرينين» زاد في رواية عنه «فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» و بسنده عن أبي ذر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوما «أ تدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا اللّه و رسوله أعلم قال إنها تذهب إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي من حيث جئت فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي فارجعي من حيث جئت فتصبح طالعة من مطلعها لا تنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي فتخر ساجدة في مستقرها تحت العرش فيقال لها اطلعي من مغربك فتصبح طالعة من مغربها» قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «أ تدرون أي يوم ذلك أقالوا: اللّه و رسوله أعلم. قال ذلك يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا».
و بسنده عن أبي ذر قال: كنت رديف النبي صلى اللّه عليه و سلم ذات يوم على حمار «فنظر إلى الشمس حين غربت فقال إنها تغرب في عين حمئة تنطلق حتى تخر لربها ساجدة تحت العرش حتى يأذن لها فإذا أراد أن يطلعها من مغربها حبسها فتقول يا رب إن مسيري بعيد فيقول لها اطلعي من حيث غربت فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» و روي بسنده عن ابن عباس قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عشية من العشيات فقال لهم «عباد اللّه توبوا إلى اللّه قبل أن يأتيكم بعذاب فإنكم توشكون أن تروا الشمس من قبل المغرب فإذا فعلت حبست التوبة و طوي العمل» فقال الناس: هل لذلك من آية يا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «إن آية تلك الليلة أن تطول كقدر ثلاث ليال فيستيقظ الذين يخشون ربهم فيصلون له ثم يقضون صلاتهم و الليل مكانه لم ينقص ثم يأتون مضاجعهم
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 176
فينامون حتى إذا استيقظوا و الليل مكانه فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون ذلك بين يدي أمر عظيم فإذا أصبحوا فطال عليهم رأت أعينهم طلوع الشمس فبينما هم ينظرونها إذ طلعت عليهم من قبل المغرب فإذا فعلت ذلك لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» قال ابن عباس: لا ينفع مشركا إيمانه عند الآيات و ينفع أهل الإيمان عند الآيات إن كانوا اكتسبوا خيرا قبل ذلك. و قال ابن الجوزي قيل إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها أن الملحدة المنجمين زعموا أن ذلك لا يكون فيريهم اللّه قدرته فيطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق فيتحقق عجزهم و قيل بل ذلك بعض الآيات الثلاثة: الدابة و يأجوج و مأجوج و طلوع الشمس من مغربها. يروى عن ابن مسعود أنه قال: التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها ما لم تخرج إحدى ثلاث: الدابة و طلوع الشمس من مغربها أو يأجوج و مأجوج. و يروى عن عائشة قالت: إذا خرج أول الآيات طرحت التوبة و حبست الحفظة و شهدت الأجساد على الأعمال. و يروى عن أبي هريرة في قوله تعالى أو يأتي بعض الآيات ربك قال هي مجموع الآيات الثلاث: طلوع الشمس من مغربها و الدجال و دابة الأرض و رواه مرفوعا عن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا طلوع الشمس من مغربها و الدجال و دابة الأرض» و أصح الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة و ثبت عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه طلوع الشمس من مغربها و قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ يعني لا ينفع من كان مشركا إيمانه و لا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان و التوبة أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يعني أو عملت قبل ظهور هذه الآية خيرا من عمل صالح و تصديق. قال الضحاك: من أدركه بعض الآيات و هو على عمل صالح مع إيمانه قبل اللّه منه العمل الصالح بعد نزول الآية كما قبل منه قبل ذلك فأما من آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية فلا يقبل منه لأنها حالة اضطرار كما لو أرسل اللّه عذابا على أمة فآمنوا و صدقوا فإنها لا ينفعهم إيمانهم ذلك لمعاينتهم الأهوال و الشدائد التي تضطرهم إلى الإيمان و التوبة و قوله قُلِ انْتَظِرُوا يعني ما وعدتم به من مجيء الآية ففيه وعيد و تهديد إِنَّا مُنْتَظِرُونَ يعني ما وعدكم ربكم من العذاب يوم القيامة أو قبله في الدنيا. قال بعض المفسرين: و هذا إنما ينتظره من تأخر في الوجود من المشركين و المكذبين لمحمد صلى اللّه عليه و سلم إلى ذلك الوقت و المراد بهذا أن المشركين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا فإذا ماتوا أو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإيمان و حلت بهم العقوبة اللازمة أبدا. و قيل إن قوله قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ المراد به الكف عن قتال الكفار فتكون الآية منسوخة بآية القتال و على القول الأول تكون الآية محكمة.
[سورة الأنعام (6): آية 159]
قوله عز و جل: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا و قرئ فارقوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً يعني أحزابا متفرقة في الضلالة و معنى فرقوا دينهم أنهم لم يجتمعوا عليه و كانوا مختلفين فيه فمن قرأ و فرقوا دينهم يعني جعلوا دينهم و هو دين إبراهيم الحنيفية السهلة أديانا مختلفة كاليهودية و النصرانية و عبادة الأصنام و نحو ذلك من الأديان المختلفة، و من قرأ فارقوا دينهم قال: معناه باينوه و تركوه من المفارقة للشيء. و قيل: إن معنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد في الحقيقة و هو أن من فرق دينه فأمر ببعض و أنكر بعضا فارق دينه في الحقيقة ثم اختلفوا في المعنى بهذه الآية، فقال الحسن: هم جميع المشركين لأن بعضهم عبدوا الأصنام و قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه و بعضهم عبدوا الملائكة و قالوا إنهم بنات اللّه و بعضهم عبدوا الكواكب فكان هذا تفريق دينهم. و قال مجاهد: هم اليهود. و قال ابن عباس و قتادة و السدي و الضحاك: هم اليهود و النصارى لأنهم تفرقوا فكانوا فرقا مختلفة. و قال أبو هريرة:
في هذه الآية هم أهل الضلالة من هذه الأمة و روى ذلك مراوعا قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شيء و ليسوا منك هم أهل البدع و أهل الشبهات و أهل الضلالة من هذه الأمة» أسنده
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 177
الطبري، فعلى هذا يكون المراد من هذه الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة و أن لا يتفرقوا في الدين و لا يبتدعوا البدع المضلة. و روي عن عمر بن الخطاب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال لعائشة: «إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا هم أصحاب البدع و الأهواء من هذه الأمة» ذكره البغوي بغير سند عن العرباض بن سارية قال:
صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذات يوم ثم أقبل بوجهه علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون و وجلت منها القلوب فقال رجل: يا رسول اللّه كأن هذه موعظة مودّع فما تعهد إلينا؟ فقال «أوصيكم بتقوى اللّه و السمع و الطاعة و إن تأمر عليك عبد حبشي فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة» أخرجه أبو داود و الترمذي عن معاوية قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين و سبعين فرقة و إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث و سبعين ثنتان و سبعون في النار و واحدة في الجنة و هي الجماعة «زاد في رواية» و إنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق و لا مفصل إلا دخله» أخرجه أبو داود عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين و سبعين ملة و ستفترق أمتي على ثلاث و سبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول اللّه قال من كان على ما أنا عليه و أصحابي» أخرجه الترمذي. قال الخطابي في هذا الحديث دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة من الملة و الدين إذ جعلهم من أمته. و قوله تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، التجاري تفاعل من الجري و هو الوقوع في الأهواء الفاسدة و البدع المضلة تشبيها بجري الفرس و الكلب. قال ابن مسعود «إن أحسن الحديث كتاب اللّه و أحسن الهدى هدى محمد صلى اللّه عليه و سلم و شر الأمور محدثاتها» و رواه جابر عن النبي صلى اللّه عليه و سلم مرفوعا.
و قوله تعالى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ يعني: في قتال الكفار فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية القتال و هذا على قول من يقول إن المراد من الآية اليهود و النصارى و الكفار، و من قال: المراد من الآية أهل الأهواء و البدع من هذه الأمة قال: معناه لست منهم في شيء أي أنت منهم بريء و هم منك برآء. تقول العرب إن فعلت كذا فلست منك و لست مني أي كل واحد منا بريء من صاحبه إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ يعني في الجزاء و المكافأة ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ يعني إذا وردوا القيامة.
[سورة الأنعام (6): الآيات 160 الى 163]
قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها يعني مثلها في مقابلتها و اختلفوا في هذه الحسنة و السيئة على قولين:
أحدهما: أن الحسنة قول لا إله إلا اللّه و السيئة هي الشرك باللّه، و أورد على هذا القول: إن كلمة التوحيد لا مثل لها حتى يجعل جزاء قائلها عشر أمثالها و أجيب عنه بأن جزاء الحسنة قدر معلوم عند اللّه فهل يجازى على قدر إيمان المؤمن بما يشاء من الجزاء و إنما قال عشر أمثالها للترغيب في الإيمان لا للتحديد و كذلك جزاء السيئة بمثلها من جنسها.
و القول الثاني: إن اللفظ عام في كل حسنة يعملها العبد أو سيئة، و هذا أولى. لأن حمل اللفظ على العموم أولى قال بعضهم: التقدير بالعشرة ليس التحديد لأن اللّه يضاعف لمن يشاء في حسناته إلى سبعمائة و يعطي من
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 178
يشاء بغير حساب و إعطاء الثواب لعامل الحسنة فضل من اللّه تعالى هذا مذهب أهل السنة و جزاء السيئة بمثلها عدل منه سبحانه و تعالى و هو قوله تعالى: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ يعني لا ينقص من ثواب الطائع و لا يزاد على عذاب العاصي (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف و كل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى اللّه تعالى» (م) عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «يقول اللّه تبارك و تعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و أزيد من جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر و من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا و من تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا و من أتاني يمشي أتيته هرولة و من لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة» (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال «يقول اللّه تبارك و تعالى و إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها و إن ترك من أجلي فاكتبوها له حسنة و إذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة» لفظ البخاري و في لفظ مسلم عن محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال «قال اللّه تبارك و تعالى إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها و إذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها» فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة و هو أبصر به فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها و إن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من أجلي» زاد الترمذي: من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها.
قوله عز و جل: قُلْ يعني: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني: قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم و هو دين الإسلام الذي ارتضاه اللّه لعباده المؤمنين دِيناً قِيَماً يعني هداني صراطا مستقيما دينا قيما، و قيل: يحتمل أن يكون محمولا على المعنى تقديره:
و عرفني دينا قيما يعني دينا مستقيما لا اعوجاج فيه و لا زيغ، و قيل: قيما ثابتا مقوما لأمور معاشي و معادي، و قيل: هو من قام و هو أبلغ من القائم مِلَّةَ إِبْراهِيمَ و الملة بالكسر الدين و الشريعة. يعني هداني و عرفني دين إبراهيم و شريعته حَنِيفاً الأصل في الحنيف الميل و هو ميل عن الضلالة إلى الاستقامة و العرب تسمي كل من اختتن أو حج حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم عليه السلام وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني إبراهيم عليه السلام و فيه رد على كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم فأخبر اللّه تعالى أن إبراهيم لم يكن من المشركين و ممن يعبد الأصنام قُلْ إِنَّ صَلاتِي أي: قل يا محمد إن صلاتي وَ نُسُكِي قال مجاهد و سعيد بن جبير و الضحاك و السدي: أراد بالنسك في هذا الموضع الذبيحة في الحج و العمرة، و قيل: النسك العبادة و الناسك العابد. و قيل: المناسك أعمال الحج. و قيل: النسك كل ما يتقرب به إلى اللّه تعالى من صلاة و حج و ذبح و عبادة. و نقل الواحدي عن أبي الأعرابي قال: النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة و قيل للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام و صفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث.
و في قوله إن صلاتي و نسكي دليل على أن جميع العبادات يؤديها العبد على الإخلاص للّه و يؤكد هذا قوله للّه رب العالمين لا شريك له و فيه دليل على أن جميع العبادات لا تؤدى إلا على وجه التمام و الكمال لأن ما كان للّه لا ينبغي أن يكون إلا كاملا تاما مع إخلاص العبادة له فما كان بهذه الصفة من العبادات كان مقبولا وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي أي حياتي و موتي بخلق اللّه و قضائه و قدره أي هو يحييني و يميتني و قيل معناه إن محياي بالعمل الصالح و مماتي إذا مت على الإيمان للّه، و قيل: معناه إن طاعتي في حياتي للّه و جزائي بعد مماتي من اللّه و حاصل هذا الكلام له أن اللّه أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن يبين أن صلاته و نسكه و سائر عباداته و حياته و موته كلها واقعة بخلق اللّه
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 179
و قضائه و قدره و هو المراد بقوله لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ يعني في العبادة و الخلق و القضاء و القدر و سائر أفعاله لا يشاركه فيها أحد من خلقه وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ يعني: قل يا محمد و بهذا التوحيد أمرت وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قال قتادة: يعني من هذه الأمة و قيل معناه و أنا أول المستسلمين لقضائه و قدره.
[سورة الأنعام (6): الآيات 164 الى 165]
قوله عز و جل: قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا أي: قل يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك أغير اللّه أطلب سيدا أو إلها وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ يعني و هو سيد كل شيء و مالكه لا يشاركه فيه أحد و ذلك أن الكفار قالوا للنبي صلى اللّه عليه و سلم ارجع إلى ديننا. قال ابن عباس: كان الوليد بن المغيرة يقول اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم فقال اللّه عز و جل ردا عليه وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها يعني أن إثم الجاني عليه لا على غيره وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني لا تؤاخذ نفس آثمة بإثم أخرى و لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى و لا يؤاخذ أحد بذنب آخر ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يعني يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني في الدنيا من الأديان و الملل.