کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 264
اللّه. و قال الطبري: معناه و اذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ اللّه يعني حين أخذ اللّه ميثاق النبيين. و أصل الميثاق في اللغة عقد يؤكد بيمين، و معنى ميثاق النبيين ما وثقوا به على أنفسهم من طاعة اللّه فيما أمرهم به و نهاهم عنه و ذكروا في معنى أخذ الميثاق وجهين: أحدهما: أنه مأخوذ من الأنبياء. و الثاني: أنه مأخوذ لهم من غيرهم فلهذا السبب اختلفوا في المعنى بهذه الآية، فذهب قوم إلى أن اللّه تعالى أخذ الميثاق من النبيين خاصة قبل أن يبلغوا كتاب اللّه و رسالاته إلى عباده أن يصدق بعضهم بعضا، و أخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء و ينصره إن أدركه و إن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، و من عيسى أن يؤمن بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم و عليهم أجمعين. و هذا قول سعيد بن جبير و الحسن و طاوس و قيل: إنما أخذ الميثاق من النبيين في أمر محمد صلّى اللّه عليه و سلّم خاصة و هو قول علي و ابن عباس و قتادة و السدي فعلى هذا القول اختلفوا، فقيل إنما أخذ اللّه الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل إليهم النبيين و يدل عليه قوله ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه و إنما كان محمد صلّى اللّه عليه و سلّم مبعوثا إلى أهل الكتاب دون النبيين، و إنما أطلق هذا اللفظ عليهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل كتاب و النبيون منا، و قيل أخذ اللّه الميثاق على النبيين و أممهم جميعا في أمر محمد صلّى اللّه عليه و سلّم فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد مع الأتباع و هو قول ابن عباس قال علي بن أبي طالب: ما بعث اللّه نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و أخذ هو العهد على قومه ليؤمنن به و لئن بعث و هم أحياء لينصرنه و قيل إن المراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون العهد و الميثاق على أممهم بأنه إذا بعث محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم أن يؤمنوا به و ينصروه و هذا قول كثير من المفسرين و قوله لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ قرئ بفتح اللام من لما و بكسرها مع التخفيف في القراءتين فمن قرأ بفتح اللام قال: معنى الآية و إذ أخذ اللّه ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول يعني ذكر محمد صلّى اللّه عليه و سلّم في التوراة لتؤمنن به للذي عندكم في التوراة من ذكره و من قرأ بكسر اللام جعل قوله لتؤمنن به من أخذ الميثاق كما يقال أخذت ميثاقك لتفعلن لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف فكان معنى الآية و إذ استحلف اللّه النبيين للذي أتاهم من كتاب و حكمة متى جاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به و لينصرنه و قوله ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ يعني محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ و ذلك أن اللّه وصفه في كتب الأنبياء المتقدمة و شرح فيها أحواله فإذا جاءت صفاته و أحواله مطابقة في كتبهم المنزلة فقد صار مصدقا لها فيجب الإيمان به و الانقياد لقوله و لام قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لام القسم تقديره و اللّه لتؤمنن به وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قال البغوي: قال اللّه عز و جل للأنبياء حين استخرج الذرية من صلب آدم و الأنبياء فيهم كالمصابيح أخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلّى اللّه عليه و سلّم أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي الآية. و قال الإمام فخر الدين الرازي: يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد من اللّه واجب، فإذا جاء رسول و ظهرت المعجزات الدالة على صدقه، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن اللّه أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه بتقرير هذا الدليل في عقولهم فهذا هو المراد من الميثاق قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ يعني قال اللّه تعالى: أ أقررتم فإن فسرنا أن أخذ الميثاق كان من النبيين؛ كان معناه قال اللّه تعالى للنبيين: أ أقررتم بالإيمان به و النصر له و إن فسرنا بأن أخذ الميثاق كان على الأمم كان معناه قال كل نبي لأمته أ أقررتم و ذلك لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه و إن كان النبيون أخذوه على الأمم فلذلك طلب هذا الإقرار و أضافه إلى نفسه و إن وقع من الأنبياء و المقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا الميثاق و
تأكيده على الأمم و طالبوهم بالقبول و أكدوا ذلك بالإشهاد وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي عهدي و الإصر العهد الثقيل و قيل سمي العهد إصرا لأنه مما يؤصر أي يشد و يعقد. قالُوا أَقْرَرْنا أي قال النبيون: أقررنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدقين لما معنا من كتبك قالَ فَاشْهَدُوا يعني قال اللّه عز و جل للنبيين: فاشهدوا يعني أنتم على أنفسكم و قيل: على أممكم و أتباعكم الذين أخذتم عليهم الميثاق و قيل: قال اللّه للملائكة فاشهدوا فهو
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 265
كناية عن غير مذكور، و قيل: معناه فاعلموا و بينوا لأن أصل الشهادة العلم و البيان وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ يعني قال اللّه يا معشر الأنبياء و أنا معكم من الشاهدين عليكم و على أتباعكم أو قال للملائكة و أنا معكم من الشاهدين عليهم.
[سورة آلعمران (3): الآيات 82 الى 83]
فَمَنْ تَوَلَّى أي أعرض عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم و نصرته بَعْدَ ذلِكَ الإقرار فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن الإيمان و الطاعة. قوله عز و جل: أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ و ذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فادعى كل فريق منهم أنه على دين إبراهيم عليه السلام فاختصموا إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا و قالوا: لا نرضى بقضائك و لا نأخذ بدينك فأنزل اللّه أ فغير دين اللّه؛ الهمزة للاستفهام و المراد منه الإنكار و التوبيخ يعني أ فبعد أخذ الميثاق عليهم و وضوح الدلائل لهم أن دين إبراهيم هو دين اللّه الإسلام. تبغون قرئ بالتاء على خطاب الحاضر أي أ فغير دين اللّه تطلبون يا معشر اليهود و النصارى و قرى بالياء على الغيبة ردا على قوله فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وَ لَهُ أَسْلَمَ أي خضع و انقاد مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً الطوع الانقياد و الاتباع بسهولة و الكره ما كان من ذلك بمشقة و إباء من النفس. و اختلفوا في معنى قوله طوعا و كرها فقيل: أسلم أهل السموات طوعا و أسلم بعض أهل الأرض طوعا و بعضهم كرها من خوف القتل و السبي، و قيل: أسلم المؤمن طوعا و انقاد الكافر كرها، و قيل هذا في يوم أخذ الميثاق حين قال: أ لست بربكم؟ قالوا: بلى فمن سبقت له السعادة قال ذلك طوعا، و من سبقت له الشقاوة قال ذلك كرها. و قيل: أسلم المؤمن طوعا فنفعه إسلامه يوم القيامة و الكافر يسلم كرها عند الموت في وقت اليأس فلم ينفعه ذلك في القيامة و قيل إنه لا سبيل لأحد من الخلق إلى الامتناع على اللّه في مراده فأما المسلم فينقاد للّه فيما أمره أو نهاه عنه طوعا و أما الكافر فينقاد للّه كرها في جميع ما يقتضي عليه و لا يمكنه دفع قضائه و قدره عنه وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قرئ بالتاء و الياء و المعنى أن مرجع الخلق كلهم إلى اللّه يوم القيامة ففيه وعيد عظيم لمن خالفه في الدنيا. قوله عز و جل:
[سورة آلعمران (3): الآيات 84 الى 86]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ لما ذكر اللّه عز و جل في الآية المتقدمة أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدقا لما معهم بين في هذه الآية أن من صفة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم مصدقا لما معهم فقال تعالى: قل آمنا باللّه و إنما وحد الضمير في قوله قل و جمع في قوله آمنا باللّه لأنه إنما خاطبه بلفظ الواحد ليدل هذا الكلام على أنه لا يبلغ هذا التكليف عن اللّه تعالى إلى الخلق إلا هو. ثم قال: آمنا باللّه تنبيها على أنه حين قال هذا القول وافقه أصحابه فحسن الجمع في قوله آمنا، و معنى الآية: قل يا محمد صدقنا باللّه أنه ربنا و إلهنا لا إله غيره و لا رب سواه و إنما قدم الإيمان باللّه على غيره لأنه الأصل وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعني و قل يا محمد و صدقنا أيضا بما أنزل علينا من وحيه و تنزيله و إنما قدم ذكر القرآن لأنه أشرف الكتب و أنه لم يحرف و لم يبدل و غيره حرف و بدل وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى إنما خص هؤلاء الأنبياء بالذكر لأن أهل
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 266
الكتاب يعترفون بوجودهم و لم يختلفوا في نبوتهم، و الأسباط هم أولاد يعقوب الاثنا عشر و كانوا أنبياء ثم جمع جميع الأنبياء فقال وَ النَّبِيُّونَ أي و ما أوتي النبيون مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ و ذلك أن أهل الكتاب يؤمنون ببعض النبيين و يكفرون ببعض فأمر اللّه عز و جل نبيه محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم أن يخبر عن نفسه و عن أمته أنه يؤمن بجميع الأنبياء. فإن قلت: لم عدي أنزل في «هذه الآية بحرف الاستعلاء و فيما تقدم من مثلها في البقرة بحرف الانتهاء». قلت لوجود المعنيين جميعا لأن الوحي ينزل من فوق و ينتهي إلى الرسل فجاء تارة بأحد المعنيين و تارة بالمعنى الآخر وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكا في عبادتنا. قوله عز و جل: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ يعني أن الدين المقبول عند اللّه هو دين الإسلام و أن كل دين سواه غير مقبول عنده لأن الدين الصحيح ما يأمر اللّه به و يرضى عن فاعله و يثيبه عليه وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني الذين وقعوا في الخسارة و هو حرمان الثواب و حصول العقاب و روى ابن جرير الطبري عن عكرمة: في قوله: و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه قالت اليهود فنحن مسلمون فقال اللّه عز و جل لنبيه محمد صلّى اللّه عليه و سلّم قل لهم و للّه على الناس حج البيت فلم يحجوا. قوله عز و جل: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ نزلت في اثني عشر رجلا ارتدوا عن الإسلام و خرجوا من المدينة و أتوا مكة كفارا منهم الحارث بن سويد الأنصاري و طعمة بن أبيرق و حجوج بن الأسلت. و قال ابن عباس: نزلت في اليهود و النصارى و ذلك أن اليهود كانوا قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يستفتحون به على الكفار و يقرون به و يقولون: قد أظل زمان نبي مبعوث فلما بعث محمد صلّى اللّه عليه و سلّم كفروا به بغيا و حسدا و معنى كيف يهدي اللّه كيف يرشد اللّه للصواب و يوفق للإيمان قوما كفروا أي جحدوا نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم بعد إيمانهم أي تصديقهم إياه و إقرارهم به و بما جاء به من عند ربه وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ يعني و بعد أن أقروا و شهدوا أن محمدا رسول اللّه إلى خلقه و أنه حق و صدق وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ يعني الحجج و البراهين و المعجزات الدالة على صحة نبوته التي بمثلها ثبتت النبوة وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يوفقهم إلى الحق و الصواب لما سبق في علمه تعالى أنهم ظالمون و قيل لا يهديهم في الآخرة إلى الجنة و الثواب. فإن قلت: كيف قال في أول الآية كيف يهدي اللّه قوما كفروا و قال في آخرها و اللّه لا يهدي القوم الظالمين و هذا تكرار؟ قلت: ليس فيه تكرار لأن قوله كيف يهدي اللّه قوما كفروا إنما هو مختص بأولئك المرتدين عن الإسلام ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في آخر الآية فقال: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني جميع الكفار المرتدين عن الإسلام و الكافر الأصلي و إنما سمي الكافر ظالما لأنه وضع العبادة في غير موضعها.
[سورة آلعمران (3): الآيات 87 الى 90]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ يعني الذين كفروا بعد إيمانهم أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها أي في عذاب اللعنة و قد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يؤخرون عن وقت العذاب لا يؤخر عنهم من وقت إلى وقت ثم استثنى سبحانه و تعالى فقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني من بعد ارتدادهم و كفرهم و ذلك أل الحارث بن سويد الأنصاري لما لحق بالكفار ندم على ذلك فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هل لي من توبة؟ ففعلوا ذلك فأنزل اللّه تعالى إلّا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا اللّه فبعث بها إليه أخوه الجلاس مع رجل من قومه، فأقبل إلى المدينة تائبا و قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم توبته و حسن إسلامه وَ أَصْلَحُوا أي و ضموا إلى التوبة الأعمال الصالحة فبيّن أن التوبة وحدها لا تكفي حتى
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 267
يضاف إليها العمل الصالح. و قيل: معناه و أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات و ظاهرهم مع الخلق بالعبادات و الطاعات فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر رحيم في الآخرة بالعفو و قيل: غفور بإزالة العذاب رحيم بإعطاء الثواب. قوله عز و جل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ نزلت في اليهود و ذلك أنهم كفروا بعيسى و الإنجيل بعد إيمانهم بموسى و غيره من أنبيائهم ثم ازدادوا كفرا يعني كفرهم بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم و القرآن، و قيل نزلت في اليهود و النصارى و ذلك أنهم كفروا بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم لما رأوه بعد إيمانهم به قبل مبعثه لما ثبت عندهم من نعته و صفته في كتبهم ثم ازدادوا كفوا يعني ذنوبا في حال كفرهم. و قيل نزلت في جميع الكفار و ذلك أنهم أشركوا باللّه بعد إقرارهم بأن اللّه خالقهم ثم ازدادوا كفرا يعني بإقامتهم على كفرهم حتى هلكوا عليه، و قيل زيادة كفرهم هو قولهم نتربص بمحمد ريب المنون و قيل نزلت في أحد عشر رجلا من أصحاب الحارث بن سويد الذين ارتدوا عن الإسلام فلما رجع الحارث إلى الإسلام أقاموا على كفرهم بمكة و قالوا: نقيم على الكفر ما بدا لنا و متى أردنا الرجعة ينزل فينا مثل ما نزل في الحارث فلما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مكة فمن دخل منهم في الإسلام قبلت توبته و نزل فيمن مات منهم على كفره: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ الآية. فإن قلت قد وعد اللّه قبول التوبة ممن تاب فما يعني قوله لن تقبل توبتهم؟ قلت اختلف المفسرون في معنى قوله: لن تقبل توبتهم فقال الحسن و عطاء و قتادة و السدي: لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت و هو وقت الحشرجة لأن اللّه تعالى قال: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فإن الذي يموت على الكفر لا تقبل توبته كأنه قال إن اليهود أو الكفار أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا ثم ماتوا على ذلك لن تقبل توبتهم و قال ابن عباس: إنهم الذين ارتدوا و عزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم و الكفر في ضمائرهم و قال أبو العالية: هم قوم تابوا من ذنوب عملوها في حال للشرك و لم يتوبوا من الشرك فإن توبتهم في حال الشرك، غير مقبولة. و قال مجاهد: لن تقبل توبتهم إذا ماتوا على الكفر و قال ابن جرير الطبري: معنى لن تقبل توبتهم أي مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم لا من كفرهم لأن اللّه تعالى لما وعد أن يقبل التوبة عن عباده و أنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب لقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ علم أن المعنى الذي لا تقبل التوبة منه غير المعنى الذي تقبل التوبة منه فعلى هذا فالذي لا تقبل التوبة منه هو الازدياد على الكفر بعد الكفر لا يقبل اللّه منه توبة ما أقام على كفره لأن اللّه تعالى لا يقبل عمل مشرك ما أقام على شركه، فإذا تاب من شركه و كفره و أصلح فإن اللّه كما وصف نفسه غفور رحيم. و قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ يعني هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا و هم الذين ضلوا عن سبيل الحق و أخطئوا منهاجه. قوله عزّ و جلّ:
[سورة آلعمران (3): الآيات 91 الى 92]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ قال ابن عباس: لما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مكة دخل من كان من أصحاب الحارث بن سويد حبا في الإسلام فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم على الكفر، و قيل نزلت فيمن مات كافرا من جميع أصناف اليهود و النصارى و عبدة الأصنام، فالآية عامة في جميع من مات على الكفر فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً أي قدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها وَ لَوِ افْتَدى بِهِ قيل معناه لو افتدى به و الواو زائدة مقحمة و قيل الواو على حالها و فائدتها أنها للعطف و التقدير لو تقرب إلى اللّه بملء الأرض ذهبا و قد مات على كفره لم ينفعه ذلك و كذا لو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهبا لن يقبل منه، و هذا آكد في التغليظ لأنه
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 268
تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه. فإن قلت الكافر لا يملك شيئا في الآخرة فما وجه قوله فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا؟ قلت: الكلام ورد على سبيل الفرض و التقدير و المعنى لو أن للكافر قدر ملء الأرض ذهبا يوم القيامة لبذله في تخليص نفسه من العذاب و لكن لا يقدر على شيء من ذلك و قيل معناه لو أن الكافر أنفق في الدنيا ملء الأرض ذهبا ثم مات على كفره لم ينفعه ذلك لأن الطاعة مع الكفر غير مقبولة أُولئِكَ إشارة إلى من مات على الكفر لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني مانعين يمنعونهم من العذاب (ق) عن أنس بن مالك عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال يقول اللّه عز و جل لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أ كنت تفتدي به؟ فيقول: نعم فيقول أردت منك أهون من هذا و أنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا الشرك لفظ مسلم. قوله عز و جل: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ قال ابن عباس: يعني الجنة، و قيل: البر هو التقوى، و قيل هو الطاعة و قيل معناه لن تنالوا حقيقة البر و لن تكونوا أبرار حتى تنفقوا مما تحبون و قيل معناه لن تنالوا بر اللّه و هو ثوابه و أصل البر التوسع في فعل الخير يقال بر العبد ربه أي توسع في طاعته فالبر من اللّه الثواب و من العبد الطاعة و قد يستعمل في الصدق و حسن الخلق لأنهما من الخير المتوسع فيه (ق) عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن الصدق يهدي إلى البر و إن البر يهدي إلى الجنة و أن الرجل ليصدق حتى يكتب عند اللّه صديقا، و إن الكذب يهدي إلى الفجور و إن الفجور يهدي إلى النار و إن الرجل ليكذب حتى يكتب عند اللّه كذابا». (م) عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن البر و الإثم فقال: البر حسن الخلق و الإثم ما حاك في صدرك و كرهت أن يطلع عليه الناس منك فعلى هذا يكون المعنى عليكم بالأعمال الصالحة حتى تكونوا أبرارا و تدخلوا في زمرة الأبرار و من قال إن لفظ البر هو الجنة فقال معنى الآية لن تنالوا ثواب البر المؤدي إلى الجنة حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ يعني من جيد أموالكم أنفسها عندكم قال اللّه تعالى: وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ و قيل هو أن تنفق من مالك ما أنت محتاج إليه قال اللّه تعالى: وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ (ق) عن أبي هريرة قال: أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رجل فقال: يا رسول اللّه أي الصدقة أفضل؟ قال: إن تصدق و أنت صحيح شحيح تخشى الفقر و تأمل الغنى، و لا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا و لفلان كذا إلّا و قد كان، و اختلفوا في هذا الإنفاق قال ابن عباس: هو الزكاة المفروضة و المعنى لن تنالوا حتى تخرجوا زكاة أموالكم فعلى هذا القول قيل إن الآية منسوخة بآية الزكاة و فيه بعدا لأنه ترغيب في إخراج الزكاة و قال ابن عمر: المراد بها سائر الصدقات و قال الحسن: كل شيء أنفقه المسلم من مالك مما يبتغي به وجه اللّه و يطلب ثوابه حتى التمرة فإنه يدخل في قوله: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون (ق) عن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا و كان أحب أمواله إليه بيرحا و كانت مستقبلة المسجد و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يدخلها و يشرب من ماء فيها طيب قال أنس: فلما نزلت هذه الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قام أبو طلحة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: يا رسول اللّه إن اللّه تعالى يقول في كتابه لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ و إن أحب أموالي إلي بيرحا و إنها صدقة للّه عز و جل أرجو برها و ذخرها عند اللّه فضعها يا رسول اللّه حيث شئت فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «بخ بخ ذلك مال رابح» أو قال ذلك مال رابح أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة:
افعل يا رسول اللّه فقسمها أبو طلحة في أقاربه و بني عمه قوله بخ بخ هي كلمة تقال عند المدح و الرضا و تكريرها للمبالغة و هي مبنية على السكون فإذا وصلت جرب و نونت فقلت: بخ بخ قوله: مال رابح أي ذو ربح و في الرواية الأخرى ذلك مال رايح بالياء معناه يروح عليك نفعه و ثوابه و بيرحا اسم موضع بالمدينة و هو حائط كان لأبي طلحة. و روي عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت فلما جاءت أعجبته فقال عمر إن اللّه عزّ و جلّ يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فأعتقها عمر و عن حمزة بن عبد اللّه بن عمر أن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما خطرت على قلبه هذه الآية:
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 269
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال عبد اللّه فذكرت ما أعطاني اللّه تعالى فما كان شيء أحب إليّ من فلانة فقلت هي حرة لوجه اللّه تعالى قال و لو لا أني لا أعود في شيء جعلته للّه لنكحتها و عن عمرو بن دينار قال لما نزلت هذه الآية لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سيل كان يحبها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: تصدق بهذه يا رسول اللّه فأعطاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أسامة بن زيد بن حارثة فقال يا رسول اللّه إنما أردت أن أتصدق بها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: قد قبلت صدقتك و في رواية كأن زيدا أوجد في نفسه فلما رأى ذلك منه النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال: أما إن اللّه قد قبلها و روى أن أبا ذر نزل به ضيف فقال للراعي: ائتني بخير إبلي فجاء بناقة مهزولة فقال للراعي خنتني فقال الراعي وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوما حاجتكم إليه فقال: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي و قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ يعني من أي شيء كان من طيب تحبونه أو من خبيث تكرهونه فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي يعلمه و يجازيكم به. قوله عز و جل:
[سورة آلعمران (3): آية 93]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم: إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم و كان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل و ألبانها و أنت تأكل ذلك كله فلست على ملته فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: كان ذلك حلالا لإبراهيم قالوا كل ما نحرمه اليوم كان ذلك حراما على نوح و إبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل اللّه عز و جل كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلّا ما حرم إسرائيل على نفسه و هو يعقوب من قبل أن ينزل التوراة يعني ليس الأمر على ما تدعيه اليهود من تحريم لحوم الإبل على إبراهيم بل كان ذلك حلالا على إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب، و إنما حرمه يعقوب بسبب من الأسباب و بقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بإحضار التوراة و طلب منهم أن يستخرجوا منها أن ذلك كان حراما على إبراهيم، فعجزوا عن ذلك و افتضحوا و بأن كذبهم فيما ادعوا من حرمة هذه الأشياء على إبراهيم و قيل: إن اليهود أنكروا شرع محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و ادعوا أن النسخ غير جائز، فأبطل اللّه ذلك عليهم و أخبر أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالا ثم صار حراما عليه و على أولاده فقد حصل النسخ و بطل قول اليهود بأن النسخ غير جائز، فأنكرت اليهود ذلك و قالوا:
بل كان ذلك حراما من زمن آدم إلى هذا الوقت فألزمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بإحضار التوراة و قال: إن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه فخاف اليهود من الفضيحة و امتنعوا من إحضار التوراة فحصل بذلك كذبهم و أنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها و بطل قولهم بأن النسخ غير جائز، و في هذا دليل على صحة نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و ذلك أنه صلّى اللّه عليه و سلّم كان رجلا أميا لم يقرأ الكتب و لم يعرف ما في التوراة، فلما أخبر أن ذلك ليس في التوراة علم أن الذي أخبر به صلّى اللّه عليه و سلّم وحي من اللّه تعالى و قوله تعالى: كل الطعام يعني كل أنواع الطعام أو سائر المطعومات كان حلا أي حلالا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، و اختلفوا في الذي حرم يعقوب على نفسه قيل حرم لحوم الإبل و ألبانها و روى الطبري بسنده عن ابن عباس: أن عصابة من اليهود حضرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنشدكم باللّه الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه فنذر للّه نذرا لئن عافاه اللّه من سقمه ليحرمنّ أحب الطعام و الشراب إليه، و كان أحب الطعام إليه لحم الإبل، و أحب الشراب إليه ألبانها؟
فقالوا: اللّهم نعم. و قال ابن عباس: هي العروق و كان سبب ذلك أنه اشتكى عرق النسا و كان أصل وجعه فيما
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج1، ص: 270
روي عن الضحاك أن يعقوب كان نذر لئن وهب اللّه له اثني عشر ولدا و أتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح أحدهم. و في رواية آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة و قال: يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع؟
فعالجه فلم يصرع أحدهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك ثم قال أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت و لكن غمزتك هذه الغمزة لأنك قد نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت آخر ولدك، فجعل اللّه لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجا، فلما قدم يعقوب بيت المقدس أراد ذبح ولده و نسي ما قال له الملك فأتاه الملك و قال له: إنما غمزتك للمخرج و قد و في نذرك فلا سبيل لك إلى ذبح ولدك. و قال ابن عباس في آخرين أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه العيص، و كان يعقوب رجلا بطشا قويا فلقيه ملك في صورة رجل فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب و صعد إلى السماء و يعقوب ينظر فهاج به عرق النسا و لقي منه شدة فكان لا ينام الليل من الوجع و يبيت و له رغاء أي صياح، فحلف يعقوب لئن شفاه اللّه أن لا يأكل عرقا و لا طعاما فيه عرق فحرمه على نفسه فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق و يخرجونها من اللحم و لا يأكلونها، و قيل لما أصاب يعقوب ذلك وصف له الأطباء أن يجتنب لحوم الإبل فحرمها يعقوب على نفسه، و قيل إنما حرم يعقوب لحوم الجزور تعبدا للّه تعالى و سأل ربه أن تنجز فحرمه اللّه على ولده و هو ظاهر الآية لأن اللّه تعالى قال: كل الطعام كان حلّا لبني إسرائيل، ثم استثنى ما حرم إسرائيل على نفسه فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراما على بني إسرائيل أما قوله من قبل أن تنزل التوراة فمعناه أن قبل إنزال التوراة كان كل أنواع الطعام حلالا لبني إسرائيل سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه أما بعد نزول التوراة فقد حرم اللّه تعالى عليهم أشياء كثيرة من أنواع الطعام ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة فقال السدي: حرم اللّه عليهم في التوراة ما كانوا حرموه على أنفسهم قبل نزولها و قال عطية: إنما كان حراما عليهم بتحريم إسرائيل فإنه قال: إن عافاني اللّه تعالى لا يأكله ولد لي و لم يكن ذلك محرما عليهم في التوراة و قال الكلبي: لم يحرمه اللّه في التوراة و إنما حرم عليهم بعد نزول التوراة لظلمهم كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ و قال تعالى: و على الذين هادوا حرمنا إلى أن قال ذلك جزيناهم ببغيهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم اللّه عليهم طعاما طيبا أو صب عليهم رجزا و هو الموت. و قال الضحاك: لم يكن شيء من ذلك حراما عليهم و لا حرمه اللّه في التوراة، و إنما حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم ثم أضافوا تحريمه للّه عز و جل فكذبهم اللّه تعالى فقال اللّه تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ يعني قل لهم يا محمد فأتوا بالتوراة فَاتْلُوها أي فاقرؤوها و ما فيها حتى يتبين أن الأمر كما قلتم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني فيما ادعيتم فلم يأتوا بها و خافوا الفضيحة فقال تعالى:
[سورة آلعمران (3): الآيات 94 الى 96]