کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 329
هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء عرفناه فيأتيهم اللّه في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه» قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه اللّه و غيره اعلم أن هذا الحديث من أكبر أحاديث الصفات و أعظمها و للعلماء فيه و في أمثاله قولان:
أحدهما: و هو قول معظم السلف أو كلهم أنه لا يتكلم في معناها بل يقولون يجب علينا أن نؤمن بها و نعتقد أن لها معنى يليق بجلال اللّه تعالى و عظمته مع اعتقادنا الجازم أن اللّه تعالى ليس كمثله شيء و أنه منزه عن التجسيم و الانتقال و التحيز في جهة و عن سائر صفات المخلوقين و هذا القول هو مذهب جماعة من المتكلمين و اختاره جماعة من محققيهم و هو أسلم و قال الخطابي هذا الحديث تهيب القول فيه شيوخنا فأجروه على ظاهر لفظه و لم يكشفوا عن باطن معناه على نحو مذهبهم في التوقف عن تفسير كل ما لا يحيط العلم بكنهه من هذا الباب.
و القول الثاني: و هو مذهب معظم المتكلمين أنها تتأول على ما يليق بها على حسب مواقعها و إنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله فعلى هذا المذهب يقال في قوله صلّى اللّه عليه و سلّم فيأتيهم اللّه أن الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته بالإتيان فعبر بالإتيان و المجيء هنا عن الرؤية مجازا و قيل الإتيان فعل من أفعال اللّه تعالى سماه إتيانا و قيل المراد بيأتيهم اللّه يأتيهم بعض ملائكته قال القاضي عياض و هذا الوجه أشبه عندي بالحديث قال و يكون هذا الملك هو الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدوث الظاهرة على الملك و المخلوق قال أو يكون معناه يأتيهم اللّه في صورة أي يصور و يظهر لهم من صور ملائكته و مخلوقاته التي لا تشبه صفات الإله ليختبرهم و هذا آخر امتحان المؤمنين فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة أنا ربكم رأوا عليه علامة من علامات المخلوقات مما ينكرونه و يعلمون بذلك أنه ليس ربهم فيستعيذون باللّه منه.
و أما قوله صلّى اللّه عليه و سلّم فيأتيهم اللّه في صورته التي يعرفون فالمراد بالصورة هنا الصفة و معناه فيتجلى اللّه تعالى لهم في الصفة التي يعلمونها و يعرفونه بها و إنما عرفوه بصفته و إن لم تكن تقدمت لهم رؤية له سبحانه و تعالى لأنهم على هذه الصفة يرونه شيئا من مخلوقاته و قد علموا أنه لا يشبه شيئا من مخلوقاته فيعلمون بذلك أنه ربهم فيقولون أنت ربنا و إنما عبر عن الصفة بالصورة لمشابهتها إياها و لمجانسة الكلام فإنه تقدم ذكر الصورة.
و قوله في حديث أبي سعيد «أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها» معنى رأوه فيها أي علموها و هي صفته المعلومة للمؤمنين و هي أنه لا يشبهه شيء و قولهم «نعوذ باللّه منك لا نشرك باللّه» إنما استعاذوا منه لما قدمناه من كونهم رأوا عليه سمات المخلوق.
قوله «فيكشف عن ساق و في رواية للبخاري يكشف ربنا عن ساقه» ذكر هذه الرواية البيهقي في كتاب الأسماء و الصفات، قال أبو سليمان الخطابي فيحتمل أن يكون معنى قوله فيكشف عن ساقه أي عن قدرته التي تكشف عن الشدة و ضبط يكشف بفتح الياء و ضمها و قد تقدم تفسير كشف الساق و قيل المراد بالساق في هذا الحديث نور عظيم. و ورد ذلك في حديث عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و هو ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في قوله «يوم يكشف عن ساق قال نور عظيم يخرون له سجدا تفرد به روح بن حبان مولى عمر بن عبد العزيز و هو شامي يأتي بأحاديث منكرة لا يتابع عليها و موالي عمر بن عبد العزيز كثيرون ففي إسناده مجهول أيضا و قال ابن فورك و معنى ذلك ما يتجدد للمؤمن عند رؤية اللّه تعالى من الفوائد و الألطاف قال القاضي عياض و قيل قد يكون الساق علامة بينه و بين المؤمنين من ظهور جماعة من الملائكة على خلقة عظيمة و قد تكون ساقا مخلوقة جعلها اللّه تعالى علامة للمؤمنين خارجة عن السوق المعتادة، قيل معناه كشف الحزن و إزالة للرعب عنهم و ما كان غلب على عقولهم من الأهوال فتطمئن حينئذ نفوسهم عند ذلك و يتجلى اللّه لهم فيخرون سجدا قال
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 330
الخطابي و هذه الرؤية في هذا المقام يوم القيامة غير الرؤية التي هي في الجنة لكرامة أولياء اللّه و إنما هذه الرؤية امتحان اللّه لعباده و قوله فلا يبقى من كان يسجد للّه تعالى من تلقاء نفسه إلا أذن اللّه له في السجود و لا يبقى من كان يسجد نفاقا و رياء إلا جعل اللّه ظهره طبقة واحدة هذا السجود امتحان من اللّه تعالى لعباده و معنى طبقة واحدة أي فقارة واحدة كالصحيفة فلا يقدر على السجود و قوله ثم يرفعون رؤوسهم و قد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة معناه ثم يرفعون رؤوسهم و قد أزال المانع لهم من رؤيته و تجلى لهم فيقولون أنت ربنا و قوله ثم يضرب الجسر على جهنم الجسر بفتح الجيم و كسرها لغتان و هو الصراط و تحل للشفاعة بكسر الحاء و قيل بضمها من حل و معناه و تقع الشفاعة و يؤذن فيها قوله دحض مزلة أي تزلق فيه الأقدام و لا تثبت قوله فيه خطاطيف جمع خطاف و هو الذي يخطف الشيء و كلاليب جمع كلوب و هو الحديدة التي يعلق بها اللحم و الحسك الذي يقال له السعدان نبت له شوك عظيم من كل جانب قوله فناج مسلم و مخدوش مرسل و مكردس في نار جهنم معناه أنهم ثلاثة أقسام قسم يسلم فلا يناله شيء أصلا و قسم يخدش ثم يرسل فيخلص و قسم يكردس أي يلقى و يسقط في جهنم و في هذا إثبات الصراط و هو مذهب أهل السنة و أهل الحق و هو جسر يجعل على متن جهنم و هو أرق من الشعر و أحد من السيف فيمر عليه الناس كلهم فالمؤمنون ينجون على حسب منازلهم و أعمالهم و الآخرون يسقطون في جهنم أعاذنا اللّه منها، و معنى مناشدة المؤمنين للّه يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار شفاعتهم لهم و قوله فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير و مثقال نصف دينار من خير و مثقال ذرة قال القاضي عياض قيل معنى الخير اليقين قال و الصحيح أن معناه شيء زائد على مجرد الإيمان لأن الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزأ و إنما يكون هذا الخير زائدا عليه من عمل صالح و ذكر خفي و عمل من أعمال القلب من شفقة على مسكين أو خوف من اللّه تعالى أو نية صادقة و مثقال الذرة مثل لأقل الخير لأن ذلك أقل المقادير و قول المؤمنين لم نذر فيها خيرا أي صاحب خير و قوله تعالى: «شفعت الملائكة هو بفتح الفاء و شفع النبيون و شفع المؤمنون و لم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط» هؤلاء الذين معهم مجرد الإيمان فقط و لم يعملوا خيرا قط و تفرد اللّه تعالى بعلم ما تكنه القلوب فالرحمة لمن ليس عنده إلا مجرد الإيمان فقط و معنى قبض قبضة أي جمع جماعة.
قوله قد عادوا حمما أي صاروا فحما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة جمع فوهة و هي أول النهر.
قوله فيخرجون كاللؤلؤ أي في الصفاء في رقابهم الخواتم قيل معناه أنه يعلق في رقابهم أشياء من ذهب أو غير ذلك مما يعرفون بها و اللّه أعلم.
قوله تعالى: وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ السجود يعني الكفار و المنافقين تصير أصلابهم كصياصي البقر أو كصفيحة نحاس فلا يستطيعون السجود.
[سورة القلم (68): آية 43]
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ و ذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم من السجود و وجوههم أشد بياضا من الثلج و قد علاها النور و البهاء و تسود وجوه الكفار و المنافقين و يغشاهم ذل و خسران و ندامة وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يعني في دار الدنيا كانوا يدعون إلى الصلاة المكتوبة بالأذان و الإقامة و ذلك أنهم كانوا يسمعون حي على الصلاة حي على الفلاح فلا يجيبون وَ هُمْ سالِمُونَ يعني أنهم كانوا يدعون إلى الصلاة و هم أصحاء فلا يأتونها قال كعب الأحبار و اللّه ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعة.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 331
[سورة القلم (68): الآيات 44 الى 51]
قوله عز و جل: فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي دعني و المكذبين بالقرآن و خل بيني و بينهم و لا تشغل قلبك بهم و كلهم إليّ فإني أكفيك إياهم سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أي سنأخذهم بالعذاب مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ فعذبوا يوم بدر بالقتل و الأسر، و قيل في معنى الآية كلما أذنبوا ذنبا جددنا لهم نعمة و أنسيناهم الاستغفار و التوبة.
و هذا هو الاستدراج لأنهم يحسبونه تفضيلا لهم على المؤمنين و هو في الحقيقة سبب إهلاكهم فعلى العبد المسلم إذا تجددت عنده نعمة أن يقابلها بالشكر و إذا أذنب ذنبا أن يعاجله بالاستغفار و التوبة. وَ أُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم و أطيل لهم المدة. و قيل معناه أمهلهم إلى الموت فلا أعاجلهم بالعقوبة إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي عذابي شديد و قيل الكيد ضرب من الاحتيال فيكون بمعنى الاستدراج المؤدي إلى العذاب أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي على تبليغ الرسالة فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ المغرم الغرامة و المعنى أ تطلب منهم أجرا فيقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم ذلك عن الإيمان أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ما يحكمون به و هو استفهام على سبيل الإنكار فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي اصبر على أذاهم لقضاء ربك قيل إنه منسوخ بآية السيف وَ لا تَكُنْ في الضجر و العجلة كَصاحِبِ الْحُوتِ يعني يونس بن متى إِذْ نادى ربه أي في بطن الحوت وَ هُوَ مَكْظُومٌ أي مملوء غما لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي حين رحمه و تاب عليه، لَنُبِذَ بِالْعَراءِ أي لطرح بالفضاء من بطن الحوت على الأرض وَ هُوَ مَذْمُومٌ أي يذم و يلام بالذنب. و قيل في معنى الآية لو لا أن تداركته نعمة من ربه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ثم ينبذ بعراء القيامة أي بأرضها و فضائها فإن قلت هل يدل قوله و هو مذموم على كونه كان فاعلا للذنب.
قلت الجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن كلمة لو لا دلت على أنه لم يحصل منه ما يوجب الذم الثاني لعل المراد منه ترك الأفضل فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين الثالث لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة يدل عليه قوله تعالى: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ و الفاء للتعقيب أي اصطفاه ورد عليه الوحي و شفعه في قومه فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي النبيين.
قوله تعالى: وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ و ذلك أن الكفار أرادوا أن يصيبوا النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بالعين فنظرت قريش إليه و قالوا ما رأينا مثله و لا مثل حججه، و قيل كانت العين في بني أسد حتى أن كانت الناقة أو البقرة لتمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول لجاريته خذي المكتل و الدراهم فائتينا بلحم من لحم هذه فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر. و قيل كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول لم أر كاليوم إبلا و لا غنما أحسن من هذه فما تذهب إلا قليلا حتى يسقط ما عناه فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالعين و يفعل به مثل ذلك فعصم اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم و أنزل و إن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم قال ابن عباس: معناه ينفذونك و قيل يصيبونك بعيونهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه. و قيل يصرعونك و قيل يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة و إنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرا شديدا بالعداوة و البغضاء يكاد يسقطك، و منه قولهم نظر إلي نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يهلكني يدل على صحة هذا المعنى أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن و هو قوله لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ لأنهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة و يحدون النظر إليه بالبغضاء وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن قال تعالى ردا عليهم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 332
[سورة القلم (68): آية 52]
وَ ما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
وَ ما هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ قال ابن عباس موعظة للمؤمنين قال الحسن: دواء من أصابته العين أن تقرأ عليه هذه الآية (ق)، عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «العين حق» زاد البخاري «و نهى عن الوشم» (م) عن ابن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «العين حق و لو كان شيء سابق القدر سبقته العين و إذا استغسلتم فاغسلوا» و عن عبيد اللّه بن رفاعة الزرقي «أن أسماء بنت عميس كانت تقول يا رسول اللّه إن ولد جعفر تسرع إليهم العين أ فأسترقي لهم؟ قال: نعم و لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» أخرجه الترمذي قوله العين حق أخذ بظاهر هذا الحديث جماهير العلماء و قالوا العين حق و أنكره طوائف من المبتدعة و الدليل على فساد قولهم «أن كل معنى ليس مخالفا في نفسه و لا يؤدي إلى قلب حقيقة و لا إفساد دليل فإنه من مجوزات العقول فإذا أخبر الشارع بوقوعه وجب اعتقاده و لا يجوز تكذيبه و مذهب أهل السنة أن العين إنما تفسد و تهلك عند قابلة هذا الشخص الذي هو العائن لشخص آخر فتؤثر فيه بقدرة اللّه تعالى و فعله و قوله و لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، فيه إثبات القدر و أنه حق و المعنى أن الأشياء كلها بقدر اللّه و لا يقع شيء إلا على حسب ما قدر اللّه و سبق به علمه و لا يقع شرر العين و غيره من الخير و الشر إلا بقدرة اللّه و فيه صحة إثبات العين و أنها قوية الضرر إذا وافقها القدر، و اللّه أعلم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 333
سورة الحاقة
مكية و هي اثنتان و خمسون آية و مائتان و ست و خمسون كلمة و ألف و أربع و ثلاثون حرفا.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة الحاقة (69): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
قوله عز و جل: الْحَاقَّةُ يعني القيامة سميت حاقة من الحق الثابت يعني أنها ثابتة الوقوع لا ريب فيها.
و قيل لأن فيها تحقيق الأمور فتعرف على الحقيقة و فيها يحق الجزاء على الأعمال أي يجب. و قيل الحاقة النازلة التي حقت فلا كاذبة لها. و قيل الحاقة هي التي تحق على القوم أي تقع بهم، مَا الْحَاقَّةُ استفهام و معناه التفخيم لشأنها و التهويل لها و المعنى أي شيء هي الحاقة وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ أي إنك لا تعلمها إذ لم تعاينها و لم تر ما فيها من الأهوال على أنه من العظم و الشدة أمر لا تبلغه دراية أحد و لا فكره و كيف قدرت حالها فهي أعظم من ذلك.
[سورة الحاقة (69): الآيات 4 الى 10]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عادٌ بِالْقارِعَةِ قال ابن عباس بالقيامة سميت قارعة لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة. و قيل كذبت بالعذاب أي الذي أوعدهم نبيهم حتى نزل بهم فقرع قلوبهم فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ أي طغيانهم و كفرهم. و قيل الطاغية الصيحة الشديدة المجاوزة الحد في القوة. و قيل الطاغية الفرقة التي عقروا الناقة فأهلك قوم ثمود بسببهم وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أي شديدة الصوت في الهبوب لها صرصرة. و قيل هي الباردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد و كثر فهي تحرق بشدة بردها عاتِيَةٍ أي عتت على خزنتها فلم تطعهم و لم يكن لهم عليهم سبيل و جاوزت الحد و المقدار فلم يعرفوا مقدار ما خرج منها. و قيل عتت على عاد فلم يقدروا على دفعها عنهم بقوة و لا حيلة سَخَّرَها عَلَيْهِمْ أي أرسلها و سلطها عليهم و فيه رد على من قال إن سبب ذلك كان باتصال الكواكب فنفى هذا المذهب بقوله سخرها عليهم و بين اللّه تعالى أن ذلك بقضائه و قدره و بمشيئته لا باتصال الكواكب، سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ ذات برد و رياح شديدة. قال وهب هي الأيام التي سماها العرب العجوز لأنها أيام ذات برد و رياح شديدة و سميت عجوزا لأنها تأتي في عجز الشتاء و قيل لأن عجوزا من قوم عاد دخلت سربها فاتبعتها الريح حتى قتلتها حُسُوماً أي متتابعة دائمة ليس فيها فتور، و ذلك أن الريح المهلكة
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 334
تتابعت عليهم في هذه الأيام فلم يكن لها فتور و لا انقطاع حتى أهلكتهم، و قيل حسوما شؤما و قيل لهذه الأيام حسوما لأنها تحسم الخير عن أهلها و الحسم القطع. و المعنى أنها حسمتهم بعذاب الاستئصال فلم تبق منهم أحدا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها أي في تلك الليالي و الأيام صَرْعى أي هلكى جمع صريع قد صرعهم الموت كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ أي ساقطة و قيل خالية الأجواف شبههم بجذوع نخل ساقطة ليس لها رؤوس فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ أي من نفس باقية، قيل إنهم لما أصبحوا موتى في اليوم الثامن كما وصفهم اللّه تعالى بقوله أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ حملتهم الريح فألقتهم في البحر فلم يبق منهم أحد.
قوله تعالى: وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ قرئ بكسر القاف و فتح الباء أي و من معه من جنوده و أتباعه و قرئ بفتح القاف و سكون الباء أي و من قبله من الأمم الكافرة الْمُؤْتَفِكاتُ يعني قرئ قوم لوط يريد أهل المؤتفكات، و قيل يريد الأمم الذين ائتفكوا بخطيئتهم و هو قوله بِالْخاطِئَةِ أي بالخطيئة و المعصية و هو الشرك فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ، قيل يعني موسى بن عمران و قيل لوطا و الأولى أن يقال المراد بالرسول كلاهما لتقدم ذكر الأمتين جميعا فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً يعني نامية و قال ابن عباس شديدة و قيل زائدة على عذاب الأمم.
[سورة الحاقة (69): الآيات 11 الى 17]
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي عتا و جاوز حده حتى علا على كل شيء و ارتفع فوقه و ذلك في زمن نوح عليه الصلاة و السلام و هو الطوفان حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ يعني حملنا آباءكم و أنتم في أصلابهم فصح خطاب الحاضرين في الجارية أي السفينة التي تجري في الماء لِنَجْعَلَها أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلناها من إغراق قوم نوح و نجاة من حملنا معه، لَكُمْ تَذْكِرَةً أي عبرة و موعظة وَ تَعِيَها أي تحفظها أُذُنٌ واعِيَةٌ أي حافظة لما جاء من عند اللّه. و قيل أذن سمعت و عقلت ما سمعت و قيل لتحفظها كل أذن فتكون عظة و عبرة لمن يأتي بعد و المراد صاحب الإذن و المعنى ليعتبر و يعمل بالموعظة.
قوله عز و جل: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ يعني النفخة الأولى وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ أي رفعت من أماكنها فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً أي كسرتا و فتتتا حتى صارتا هباء منبثا و الضمير عائد إلى الأرض و الجبال فعبر عنهما بلفظ الاثنين فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي قامت القيامة وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ أي ضعيفة لتشققها وَ الْمَلَكُ يعني الملائكة عَلى أَرْجائِها يعني نواحيها و أقطارها و هو الذي لم ينشق منها قال الضحاك تكون الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الرب فينزلون فيحيطون بالأرض و من عليها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أي فوق رؤوسهم يعني الحملة يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة ثَمانِيَةٌ يعني ثمانية أملاك، و جاء في الحديث أنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم اللّه بأربعة آخرين فكانوا ثمانية على صورة الأوعال بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء. الأوعال تيوس الجبل و روى السدي عن أبي مالك قال إن الصخرة التي تحت الأرض السابعة و منتهى علم الخلائق على أرجائها يحملها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه إنسان و وجه أسد و وجه ثور و وجه نسر فهم قيام عليها قد أحاطوا بالسموات و الأرض و رؤوسهم تحت العرش، و عن عروة بن الزبير قال حملة العرش منهم من صورته على صورة الإنسان و منهم من صورته على صورة النسر و منهم من صورته على صورة الثور و منهم من صورته على صورة الأسد. و عن ابن عباس قال صدق النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أمية بن أبي الصلت في شيء من الشعر فقال:
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 335
رجل و ثور تحت رجل يمينه
و النسر للأخرى و ليث يرصد
عن جابر رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة اللّه من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام أخرجه أبو داود بإسناد صحيح غريب عن العباس بن عبد المطلب رضي اللّه عنه عم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قال «كنت جالسا في البطحاء في عصابة و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيهم إذ مرت سحابة فنظروا إليها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هل تدرون ما اسم هذه قلنا نعم هذا السحاب قال و المزن قالوا و المزن قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و العنان قالوا و العنان ثم قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هل تدرون كم بعد ما بين السماء و الأرض؟
قالوا لا و اللّه ما ندري قال: فإن بعد ما بينهما إما قال واحدة و إما قال اثنتان و إما ثلاث و سبعون سنة و بعد التي فوقها كذلك و كذلك حتى عدهن سبع سموات كذلك ثم فوق السماء السابعة بحرا أعلاه و أسفله كما بين سماء إلى سماء و فوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهن و ركبهن كما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله و أعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء و اللّه عز و جل فوق ذلك» أخرجه الترمذي و أبو داود زاد في رواية «و ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء»، عن ابن مسعود قال ما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام و ما بين كل سماء و سماء خمسمائة عام و فضاء كل سماء و أرض مسيرة خمسمائة عام و ما بين السماء السابعة و الكرسي مسيرة خمسمائة عام و ما بين الكرسي و الماء مسيرة خمسمائة عام و العرش على الماء و اللّه على العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم». أخرجه أبو سعيد الدارمي و ابن خزيمة و غيرهما موقوفا على ابن مسعود قال ابن خزيمة اختلاف خبر العباس و ابن مسعود في قدر المسافة على اختلاف سير الدواب. و عن ابن عباس قال:
«لحملة العرش قرون ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام و من كعبه إلى ركبته مسيرة خمسمائة عام و من ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام».
و عن عبد اللّه بن عمر قال «الذين يحملون العرش ما بين موق أحدهم إلى مؤخر عينيه خمسمائة عام» و عن شهر بن حوشب قال «حملة العرش ثمانية فأربعة منهم يقولون سبحانك اللهم و بحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك، و أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم و بحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك» و روي عن ابن عباس في قوله يومئذ ثمانية قال ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا اللّه عز و جل:
[سورة الحاقة (69): الآيات 18 الى 24]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ أي على اللّه تعالى للحساب لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ أي فعلة خافية. و المعنى أنه تعالى عالم بأحوالكم لا يخفى عليه شيء منها و أن عرضكم يوم القيامة عليه ففيه المبالغة و التهديد، و قيل معناه لا يخفى منكم يوم القيامة ما كان مخفيا في الدنيا فإنه يظهر أحوال الخلائق فالمحسنون يسرون بإحسانهم و المسيئون يحزنون بإساءتهم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال و معاذير و أما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه و آخذ بشماله» أخرجه الترمذي و قال و لا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة و قد رواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.