کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 257
من السماء لأنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع حيث تسقط الريح فهو هالك لا محالة. إما باستلاب الطير لحمه أو بسقوطه في المكان السحيق. و قيل معنى الآية من أشرك باللّه فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس وراءه إهلاك بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير ففرقت أجزاءه في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة. و قيل شبه الإيمان بالسماء في علوه و الذي ترك الإيمان بالساقط من السماء و الأهواء التي توزع أفكاره بالطير المختطفة و الشياطين التي تطرحه في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. قوله عزّ و جلّ ذلِكَ يعني الذي ذكر من اجتناب الرجس و قول الزور وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ يعني تعظيم شعائر اللّه من تقوى القلوب قال ابن عباس: شعائر اللّه البدن و الهدي و أصلها من الإشعار، و هو العلامة التي يعرف بها أنها هدى و تعظيمها استسمانها و استحسانها و قيل شعائر اللّه أعلام دينه و تعظيمها من تقوى القلوب لَكُمْ فِيها أي في البدن مَنافِعُ قيل هي درها و نسلها و صوفها و وبرها و ركوب ظهرها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أن يسميها و يوجبها هديا فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها. و هو قول مجاهد و قتادة و الضحّاك و رواية عن ابن عباس و قيل معناه لكم في الهدايا منافع بعد إيجابها و تسميتها هدايا بأن تركبوها و تشربوا من ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى يعني إلى أن تنحروها و هو قول عطاء. و اختلف العلماء في ركوب الهدي فقال مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق: يجوز ركوبها و الحمل عليها من غير ضرر بها لما روي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: «اركبها فقال يا رسول اللّه إنّها بدنة فقال: اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة». أخرجاه في الصحيحين. و كذلك يجوز له أن يشرب من لبنها بعد ما يفضل عن ري ولدها. و قال أصحاب الرأي: لا يركبها إلّا أن يضطر إليه و قيل أراد بالشعائر المناسك و مشاهدة مكة لكم فيها منافع يعني بالتجارة و الأسواق إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى الخروج من مكة و قيل لَكُمْ فِيها مَنافِعُ يعني بالأجر و الثواب في قضاء المناسك إلى انقضاء أيام الحج ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ يعني منحرها عند البيت العتيق يريد به جميع أرض الحرم. و روي عن جابر في حديث حجة الوداع أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال «نحرت ها هنا و منى كلها منحر فانحروا في رحالكم» و من قال الشعائر المناسك قال معنى ثم محلها يعني محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق يطوفون به طواف الزيارة. قوله تعالى وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ يعني جماعة مؤمنة سلفت قبلكم جَعَلْنا مَنْسَكاً قرئ بكسر السين يعني مذبحا و هو موضع القربان منسكا بفتح السين و هو إراقة الدم و ذبح القرابين لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يعني عند ذبحها و نحرها سماها بهيمة لأنها لا تتكلم و قيد بالأنعام لأن ما سواها لا يجوز ذبحه في القرابين و إن جاز أكله. قوله عزّ و جلّ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعني سموا على الذبح اسم اللّه وحده فإنّ إلهكم إله واحد فَلَهُ أَسْلِمُوا يعني أخلصوا و انقادوا و أطيعوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ قال ابن عباس: المتواضعين و قيل المطمئنين إلى اللّه و قيل الخاشعين الرقيقة قلوبهم و قيل هم الذين لا يظلمون و إذا ظلموا لا ينتصرون ثم وصفهم فقال تعالى:
[سورة الحج (22): الآيات 35 الى 40]
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 258
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ يعني خافت من عقاب اللّه فيظهر عليها الخشوع و التواضع للّه تعالى وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ يعني من البلاء و المرض و المصائب و نحو ذلك مما كان من اللّه تعالى و ما كان من غير اللّه فله أن يصبر عليه و له أن ينتصر لنفسه وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ يعني في أوقاتها محافظة عليها وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يعني يتصدّقون. قوله تعالى وَ الْبُدْنَ جمع بدنة سميت بدنة لعظمها و ضخامتها، يريد الإبل الصحاح الأجسام و البقر و لا تسمى الغنم بدنة لصغرها جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ يعني من أعلام دينه قيل لأنها تشعر و هو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم بذلك أنها هدي لَكُمْ فِيها خَيْرٌ يعني نفع في الدنيا و ثواب في العقبى فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها يعني عند نحرها صَوافَ يعني قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها و يدها اليمنى و الأخرى معقولة فينحرها كذلك (ق) عن زياد بن جبير قال: «رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها قال ابعثها قياما مقيدة سنّة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم» فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها يعني سقطت بعد النحر و وقع جنبها على الأرض فَكُلُوا مِنْها أمر إباحة وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ قيل القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى و لا يسأل. و المعتر هو الذي يسأل و عن ابن عباس القانع هو الذي لا يسأل و لا يتعرض. و قيل: القانع هو الذي يسأل و المعتر هو الذي يريك نفسه و يتعرض و لا يسأل و قيل القانع المسكين و المعتر الذي ليس بمسكين و لا تكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم كَذلِكَ يعني مثل ما وصفنا من نحرها قياما سَخَّرْناها لَكُمْ يعني لتتمكنوا من نحرها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني إنعام اللّه عليكم لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها و ذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها يزعمون أن ذلك قربة إلى اللّه تعالى فأنزل اللّه لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها يعني لن ترفع إلى اللّه لحومها و لا دماؤها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ يعني و لكن ترفع إليه الأعمال الصالحة و الإخلاص و هو ما أريد به وجه اللّه كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ يعني البدن لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ و أرشدكم لمعالم دينه و مناسك حجه و هو أن يقول اللّه: أكبر على ما هدانا و الحمد للّه على ما أولانا وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس الموحدين.
قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أي يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين و يمنعهم منهم و ينصرهم عليهم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أي خوان في أمانة اللّه كفور لنعمته. قال ابن عباس: خانوا اللّه فجعلوا منه شريكا و كفروا نعمه. و قيل من تقرّب إلى الأصنام بذبيحته و سمى غير اللّه عليها فهو خوان كفور. قوله عزّ و جلّ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي أذن اللّه لهم بالجهاد ليقاتلوا المشركين قال المفسرون كان مشركوا أهل مكة يؤذون أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فلا يزالون يجيئون من بين مضروب و مشجوج و يشكون ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيقول لهم: «اصبروا فإني لم أومر بقتال» حتى هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأنزل اللّه تعالى هذه الآية و هي أول آية أذن اللّه فيها بالقتال. و قيل نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاعترضهم مشركو مكة فأذن اللّه لهم في قتال الكفار الذين يمنعون من الهجرة بأنهم ظلموا أي بسبب ما ظلموا و اعتدوا عليهم بالإيذاء وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فيه وعد من اللّه بنصر المؤمنين ثم وصفهم. فقال تعالى الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ يعني أنهم أخرجوا بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار و التعظيم و التمكين لا موجب الإخراج وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي بالجهاد و إقامة الحدود لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ هي معابد الرهبان المتخذة في الصحراء وَ بِيَعٌ هي معابد النصارى في البلد و قيل الصوامع للصابئين و البيع للنصارى وَ صَلَواتٌ هي كنائس اليهود و يسمونها بالعبرانية صلوتا
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 259
وَ مَساجِدُ يعني مساجد المسلمين يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً يعني في المساجد. و معنى الآية و لو لا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدم في شريعة كل نبي مكان صلواتهم فهدم في زمن موسى الكنائس و في زمن عيسى البيع و الصوامع و في زمن محمد صلّى اللّه عليه و سلّم المساجد وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي ينصر دينه و نبيه إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌ أي على نصر من ينصر دينه عَزِيزٌ أي لا يضام و لا يمنع مما يريده. قوله عزّ و جلّ:
[سورة الحج (22): الآيات 41 الى 47]
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أي نصرناهم على عدوهم تمكنوا من البلاد أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ هذا وصف أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و قيل: هم جميع هذه الأمة و قيل هم المهاجرون و هو الأصح لأنه قوله «الذين إن مكناهم» صفة لمن تقدم ذكرهم و هو قوله «الذين أخرجوا من ديارهم» و هم المهاجرون وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي آخر أمور الخلق مصيرها إليه و ذلك أنه يبطل فيها كل ملك سوى ملكه فتصير الأمور إليه بلا منازع. قوله تعالى وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فيه تسلية و تعزية للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و المعنى و إن كذبك قومك فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى فإن قلت لم قال و كذب موسى و لم يقل و قوم موسى؟. قلت فيه و جهان أحدهما: أن موسى لم يكذبه قومه و هم بنو إسرائيل و إنما كذبه غير قومه و هو القبط الثاني: كأنه قيل بعد ما ذكرت تكذيب كل قوم رسولهم قال و كذب موسى أيضا مع وضوح آياته و عظم معجزاته فما ظنك بغيره فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أي أمهلتهم و أخرت العقوبة عنهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي عاقبتهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم ما فعلوا من التكذيب بالعذاب و الهلاك يخوف به من خالف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و كذبه. قوله عزّ و جلّ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها و قرئ أهلكناها على التعظيم وَ هِيَ ظالِمَةٌ أي و أهلها ظالمون فَهِيَ خاوِيَةٌ أي ساقطة عَلى عُرُوشِها أي على سقوفها وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي و كم من بئر معطلة أي متروكة مخلاة عن أهلها وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ أي رفيع طويل عال و قيل مجصص و قيل إن البئر المعطلة و القصر المشيد باليمن. أما القصر فعلى قمة جبل و البئر في سفحه و لكل واحد منهما قوم كانوا في نعمة فكفروا فأهلكهم اللّه و بقي البئر و القصر خاليين. و قيل إن هذه البئر كانت بحضر موت في بلدة يقال لها: حاضوراء و ذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السلام لما نجوا من العذاب أتوا إلى حضر موت و معهم صالح فلما حضروه مات صالح فسمي المكان حضر موت. لذلك و لما مات صالح بنو حاضوراء و قعدوا على هذه البئر و أمروا عليهم رجلا منهم فأقاموا دهرا و تناسلوا حتى كثروا و عبدوا الأصنام و كفروا فأرسل اللّه تعالى إليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان. و كان حمالا فيهم فقتلوه في السوق فأهلكهم اللّه و عطلت بئرهم و خرب قصرهم. قوله تعالى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعني كفار مكة فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أي يعلمون بها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها يعني ما يذكر لهم من أخبار
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 260
القرون الماضية فيعتبرون بها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ المعنى أن عمى القلب هو الضار في أمر الدين لا عمى البصر لأن البصر الظاهر بلغة و متعة و بصر القلوب النافع وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ نزلت في النضر بن الحارث وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي إنه أنجز ذلك يوم بدر وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال ابن عباس: يعني يوما من الأيام الستة التي خلق اللّه فيها السموات و الأرض. و قيل يوما من أيام الآخرة يدل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم و ذلك مقدار خمسمائة سنة» أخرجه أبو داود بزيادة فيه و أخرج الترمذي نحوه و معنى الآية أنهم يستعجلون بالعذاب و إن يوما من أيام عذابهم في الآخرة كألف سنة. و قيل إن يوما من أيام العذاب في الثقل و الاستطالة كألف سنة فكيف يستعجلونه و قيل معناه أن يوما عنده و ألف سنة في الإمهال سواء لأنه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير فيستوي في قدرته وقوع ما يستعجلونه من العذاب و تأخيره و هذا معنى قول ابن عباس.
[سورة الحج (22): الآيات 48 الى 52]
وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها يعني أمهلتها وَ هِيَ ظالِمَةٌ يعني مع استمرار أهلها على الظلم ثُمَّ أَخَذْتُها يعني أنزلت بهم العذاب وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ يعني مصيرهم إلي في الآخرة ففيه وعيد و تهديد. قوله عزّ و جلّ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أمر رسول اللّه أن يديم لهم التخويف و الإنذار و أن يقول لهم إنما بعثت لكم منذرا فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ لما أمر اللّه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بأن يقول «إنما أنا نذير مبين» أردف ذلك بأن أمره بوعد من آمن و وعيد من عصى فقال «فالذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم مغفرة» يعني ستر لصغائر ذنوبهم و قيل للكبائر أيضا مع التوبة و رزق كريم يعني لا ينقطع أبدا و قيل هو الجنة وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا يعني عملوا في إبطال آياتنا مُعاجِزِينَ يعني مثبطين الناس عن الإيمان و قرئ معاجزين يعني معاندين مشاقين و قيل معناه ظانين و مقدرين أنهم يعجزوننا و يفوتوننا فلا نقدر عليهم بزعمهم أن لا بعث و لا نشور و لا جنة و لا نار أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ قوله تعالى وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ قال ابن عباس و غيره من المفسرين: لما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تولي قومه عنه و شق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من اللّه تعالى تمنى في نفسه أن يأتيه من اللّه ما يقارب بينه و بين قومه لحرصه على إيمانهم فكان يوما في مجلس لقريش فأنزل اللّه عزّ و جلّ سورة و النجم فقرأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حتى بلغ «أ فرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة الأخرى» ألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدث به نفسه و يتمناه تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به و مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في قراءته فقرأ السورة كلها و سجد في آخرها و سجد المسلمون بسجوده و سجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن و لا كافر إلا سجد غير الوليد بن المغيرة و أبي أحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء و رفعاها إلى جبهتهما و سجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود و تفرقت قريش و قد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم و يقولون قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر و قالوا: قد عرفنا أن اللّه يحيي و يميت و يرزق و لكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فإن جعل لها محمد نصيبا فنحن معه فلما أمسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أتاه
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 261
جبريل فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن اللّه تعالى فحزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حزنا شديدا و خاف من اللّه تعالى خوفا كبيرا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية يعزيه و كان به رحيما و سمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم. و بلغهم سجود قريش و قيل قد أسلمت قريش و أهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم و قالوا: هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد منهم إلّا بجوار أو مستخفيا. فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند اللّه فغير ذلك و كان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه و شدة على من أسلم و قوله وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ الرسول هو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا وَ لا نَبِيٍ النبي هو الذي تكون نبوته إلهاما، أو مناما فكل رسول نبي و ليس كل نبي رسولا إلا إذا تمنى يعني أحب شيئا و اشتهاه و حدث به نفسه مما لم يؤمر به أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ يعني في مراده و قال ابن عباس: إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه و وجد إليه سبيلا. و المعنى ما من نبي «إلا تمنى» أن يؤمن قومه و لم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى قومه فينسخ اللّه ما يلقي الشيطان. و قال أكثر المفسرين معنى تمنى قرأ و تلا كتاب اللّه ألقى الشيطان في أمنيته يعني في تلاوته قال حسان في عثمان حين قتل:
تمنى كتاب اللّه أول ليلة
و آخرها لاقى حمام المقادر
فإن قلت: قد قامت الدلائل على صدقة و أجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا قصدا و لا عمدا و لا سهوا و لا غلطا قال اللّه تعالى: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى و قال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فكيف يجوز الغلط على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في التلاوة و هو معصوم منه؟. قلت ذكر العلماء عن هذا الإشكال أجوبة: أحدها: توهين أصل هذه القصة و ذلك أنه لم يروها أحد من أهل الصحة و لا أسندها ثقة بسند صحيح أو سليم متصل و إنما رواها المفسرون و المؤرخون المولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح و سقيم و الذي يدل على ضعيف هذه القصة اضطراب رواتها و انقطاع سندها و اختلاف ألفاظها فقائل يقول إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان في الصلاة و آخر يقول قرأها و هو في نادي قومه و آخر يقول قرأها و قد أصابته سنة و آخر يقول بل حدث نفسه بها فجرى ذلك على لسانه و آخر يقول إن الشيطان قالها على لسان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و إن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم لمّا عرضها على جبريل قال ما هكذا أقرأتك إلى غير ذلك من اختلاف ألفاظها و الذي جاء في الصحيح من حديث عبد اللّه بن مسعود أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ و النجم فسجد فيها و سجد من كان معه غير أن شيخا من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته قال عبد اللّه فلقد رأيته بعد قتل كافرا». أخرجه البخاري و مسلم و صح من حديث ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «سجد بالنجم و سجد معه المسلمون و المشركون و الجن و الإنس». رواه البخاري فهذا الذي جاء في الصحيح لم يذكر فيه أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ذكر تلك الألفاظ و لا قرأها و الذي ذكره المفسرون عن ابن عباس في هذه القصة. فقد رواه عنه الكلبي و هو ضعيف جدا فهذا توهين هذه القصة الجواب الثاني: و هو من حيث المعنى هو أنّ الحجة قد قامت بالدليل الصحيح و إجماع الأمة على عصمة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و نزاهته عن مثل هذه الرذيلة و هو تمنيه أن ينزل عليه مدح إله غير اللّه أو أن يتسور عليه الشيطان و يشبه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه حتى نبهه جبريل عن ذلك فهذا كله ممتنع في حقه صلّى اللّه عليه و سلّم قال اللّه عزّ و جلّ «و لو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين». الآية الجواب الثالث: في تسليم وقوع هذه القصة و سبب سجود الكفار أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان إذا قرأ يرتل القرآن ترتيلا و يفصل الآي تفصيلا كما صح عنه في قراءته فيحتمل أن الشيطان ترصد لتلك السكنات فدس فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكيا لصوت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فسمعه من دنا منه من الكفار فظنوها من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فسجدوا معه لسجوده فأما المسلمون فلم يقدح ذلك عندهم لتحققهم من حال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ذم الأوثان و عيبها و إنهم كانوا يحفظون السورة كما
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 262
أولها اللّه عزّ و جلّ الجواب الرابع: في تحقيق تفسير الآية و قد تقدم أنّ التمني يكون بمعنى حديث النفس و بمعنى التلاوة فعلى الأول: يكون معنى قوله إِلَّا إِذا تَمَنَّى أي خطر بباله و تمنى بقلبه بعض الأمور و لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة و على الثاني: و هو تفسير التمني بالتلاوة فيكون معنى قوله «إلا إذا تمنى» أي تلا و هو ما يقع للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من السهو في إسقاط آية أو آيات أو كلمة أو نحو ذلك و لكنه لا يقر على هذا السهو بل ينبه عليه و يذكر به للوقت و الحين كما صح في الحديث «لقد أذكرني كذا كذا آية كنت أنسيتها من سورة كذا» و حاصل هذا أن الغرض من هذه الآية أن الأنبياء و الرسل و إن عصمهم اللّه عن الخطأ في العلم فلم يعصمهم من جواز السهو عليهم بل حالهم في ذلك كحال سائر البشر و اللّه تعالى أعلم. قوله عزّ و جلّ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي يبطله و يذهبه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي يثبتها وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قوله عزّ و جلّ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً أي محنة و بلية و اللّه تعالى يمتحن عباده بما يشاء لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك و نفاق وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي الجافية قلوبهم عن قبول الحق و هم المشركون وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي في خلاف شديد.
[سورة الحج (22): الآيات 54 الى 58]
وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي التوحيد و القرآن و التصديق ينسخ اللّه ما يشاء أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الذي أحكم اللّه من آيات القرآن هو الحق من ربك فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي يعتقدوا أنه من اللّه عزّ و جلّ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي تسكن إليه وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى طريق قويم و هو الإسلام. قوله عزّ و جلّ وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي في شك من القرآن و قيل من الدين الذي هو صراط مستقيم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أي فجأة و قيل أراد بالساعة الموت أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ أي عذاب يوم لا ليلة له و هو يوم القيامة و قيل هو يوم بدر سمي عقيما لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير كالريح العقيم لا تأتي بخير و قيل لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة لِلَّهِ وحده من غير منازع و لا مشارك فيه يَحْكُمُ أي يفصل بَيْنَهُمْ ثم بين ذلك الحكم فقال تعالى فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ . قوله تعالى وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي فارقوا أوطانهم و عشائرهم في طاعة اللّه و طلب رضاه ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً أي لا ينقطع أبدا و هو رزق الجنة لأنه فيها ما تشتهي الأنفس و تلذ الأعين وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإن قلت الرازق في الحقيقة هو اللّه عزّ و جلّ لا رازق للخلق غيره فكيف قال و إن اللّه لهو خير الرازقين. قلت قد يسمى غير اللّه رازقا على المجاز كقوله رزق السلطان الجند أي أعطاهم أرزاقهم و إن الرزاق في الحقيقة هو اللّه تعالى و قيل لأنه اللّه تعالى يعطي الرزق ما لا يقدر عليه غيره.
[سورة الحج (22): الآيات 59 الى 71]
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج3، ص: 263