کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 480
في الدنيا و خسرانهم في الآخرة أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا و ربحهم في الآخرة و الإخبات في اللغة هو الخشوع و الخضوع و طمأنينة القلب و لفظ الإخبات يتعدى بإلى و باللام فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه و إذا قلت أخبت له فمعناه خشع و خضع له فقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إشارة إلى جميع أعمال الجوارح و قوله و أخبتوا إشارة إلى أعمال القلوب و هي الخضوع و الخشوع للّه عز و جل يعني أن هذه الأعمال الصالحة لا تنفع في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب و هي الخشوع و الخضوع فإذا فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان معنى الكلام يأتون بالأعمال الصالحة مطمئنين إلى صدق وعد اللّه بالثواب و الجزاء على تلك الأعمال أو يكونون مطمئنين إلى ذكره سبحانه و تعالى و إذا فسرنا الإخبات بالخشوع و الخضوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفين وجلين أن لا تكون مقبولة و هو الخشوع و الخضوع أُولئِكَ يعني الذين هذه صفتهم أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أخبر عن حالهم في الآخرة بأنهم من أهل الجنة التي لا انقطاع لنعيمها و لا زوال.
قوله سبحانه و تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ لما ذكر اللّه سبحانه و تعالى أحوال الكفار و ما كانوا عليه من العمى عن طريق الهدى و الحق و من الصمم عن سماعه و ذكر أحوال المؤمنين و ما كانوا عليه من البصيرة و سماع الحق و الانقياد للطاعة ضرب لهم مثلا فقال تبارك و تعالى مثل الفريقين يعني فريق المؤمنين و فريق الكافرين كالأعمى و هو الذي لا يهتدي لرشده و الأصم و هو الذي لا يسمع شيئا البتة، و البصير و هو الذي يبصر الأشياء على ماهيتها، و السميع و هو الذي يسمع الأصوات و يجيب الداعي فمثل المؤمنين كمثل الذي يسمع و يبصر و هو الكامل في نفسه و مثل الكافر كمثل الذي لا يسمع و لا يبصر و هو الناقص في نفسه هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا قال الفراء لم يقل هل يستوون لأن الأعمى و الأصم في حيز كأنهما واحد و هما من وصف الكافر و البصير و السميع في حيز كأنهما واحد و هما من وصف المؤمن أَ فَلا تَذَكَّرُونَ يعني فتتعظون.
قوله عز و جل: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ يعني أن نوحا عليه السلام قال لقومه حين أرسله اللّه إليهم إني لكم أيها القوم نذير مبين يعني بين النذارة أخوف بالعقاب من خالف أمر اللّه و عبد غيره؛ و هو قوله سبحانه و تعالى: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ يعني مؤلم موجع قال ابن عباس: بعث نوح بعد أربعين سنة و لبث يدعو قومه تسعمائة و خمسين سنة و عاش بعد الطوفان ستين سنة فكان عمره ألفا و خمسين سنة.
و قال مقاتل: بعث و هو ابن مائة سنة و قيل و هو ابن خمسين سنة و قيل و هو ابن مائتين و خمسين سنة و مكث يدعو قومه تسعمائة و خمسين سنة و عاش بعد الطوفان مائتين و خمسين سنة فكان عمره ألفا و أربعمائة و خمسين سنة.
[سورة هود (11): الآيات 27 الى 30]
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعني الأشراف و الرؤساء من قوم نوح ما نَراكَ يا نوح إِلَّا بَشَراً
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 481
مِثْلَنا يعني آدميا مثلنا لا فضل لك علينا لأن التفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع اشتهاره إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة على جميع العالم و إنما قالوا هذه المقالة و تمسكوا بهذه الشبهة جهلا منهم لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدعوة إلى اللّه تعالى بإقامة الدليل و البرهان على ذلك و يظهر المعجزة الدالة على صدقه و لا يأتي ذلك إلا من آحاد البشر و هو من اختصه اللّه بكرامته و شرفه بنبوته و أرسله إلى عباده ثم قال سبحانه و تعالى إخبارا عن قوم نوح وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا يعني سفلتنا و الرذل الدون من كل شيء قيل هم الحاكة و الأساكفة و أصحاب الصنائع الخسيسة و إنما قالوا ذلك جهلا منهم أيضا لأن الرفعة في الذين و متابعة الرسول لا تكون بالشرف و لا بالمال و المناصب العالية بل للفقراء الخاملين و هم أتباع الرسل و لا يضرهم خسة صنائعهم إذا حسنت سيرتهم في الدين بادِيَ الرَّأْيِ يعني أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير تثبت و تفكر في أمرك، و لو تفكروا ما اتبعوك.
و قيل: معناه ظاهر الرأي، يعني أنهم اتبعوك ظاهرا من غير أن تفكروا باطنا وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ يعني بالمال و الشرف و الجاه و هذا القول أيضا جهل منهم لأن الفضيلة المعتبرة عند اللّه بالإيمان و الطاعة لا بالشرف و الرياسة بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ قيل الخطاب لنوح و من آمن معه من قومه و قيل هو لنوح وحده فعلى هذا يكون الخطاب بلفظ الجمع للواحد على سبيل التعظيم قالَ يعني نوحا يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي يعني على بيان و يقين من ربي بالذي أنذرتكم به وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ يعني هديا و معرفة و نبوة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ يعني خفيت و ألبست عليكم أَ نُلْزِمُكُمُوها الهاء عائدة إلى الرحمة و المعنى أ نلزمكم أيها القوم قبول الرحمة يعني أنا لا نقدر أن نلزمكم ذلك من عند أنفسنا وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ و هذا استفهام معناه الإنكار أي لا أقدر على ذلك و الذي أقدر عليه أن أدعوكم إلى اللّه و ليس لي أن أضطركم إلى ذلك قال قتادة و اللّه لو استطاع نبي صلى اللّه عليه و سلم لألزمها قومه و لكنه لم يملك ذلك وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا يعني لا أسألكم و لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا و ذلك أنهم طلبوا من نوح أن يطرد الذين آمنوا و هم الأرذلون في زعمهم فقال ما يجوز لي ذلك لأنهم يعتقدون إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فلا أطردهم وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ يعني عظمة اللّه و وحدانيته و ربوبيته و قيل معناه إنكم تجهلون أن هؤلاء المؤمنين خير منكم وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ يعني من يمنعني من عذاب اللّه إن طردتهم عني لأنهم مؤمنون مخلصون أَ فَلا تَذَكَّرُونَ يعني فتتعظون.
[سورة هود (11): الآيات 31 الى 36]
وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ هذا عطف على قوله لا أسألكم عليه مالا و المعنى لا أسألكم عليه مالا و لا أقول لكم عندي خزائن اللّه يعني التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها و قال ابن الأنباري الخزائن هنا بمعنى غيوب اللّه و ما هو منطو عن الخلق و إنما وجب أن يكون هذا جوابا من نوح عليه
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 482
السلام لهم لأنهم قالوا و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي و ادعوا أن المؤمنين إنما اتبعوه في ظاهر ما يرى منهم و هم في الحقيقة غير متبعين له فقال مجيبا لهم و لا أقول لكم عندي خزائن اللّه التي لا يعلم منها ما ينطوي عليه عباده و ما يظهرونه إلا هو و إنما قيل للغيوب خزائن لغموضها عن الناس و استتارها عنهم و القول الأول أولى ليحصل الفرق بين قوله و لا أقول لكم عندي خزائن اللّه و بين قوله وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يعني و لا أدعي علم ما يغيب عني مما يسرونه في نفوسهم فسبيل قبول إيمانهم في الظاهر و لا يعلم ما في ضمائرهم إلا اللّه وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ و هذا جواب لقولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا أي لا أدعي أني من الملائكة بل أنا بشر مثلكم أدعوكم إلى اللّه و أبلغكم ما أرسلت به إليكم.
( (فصل)) استدل بعضهم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء قال لأن نوحا عليه السلام قال و لا أقول إني ملك لأن الإنسان إذا قال أنا لا أدعي كذا و كذا لا يحسن إلا إذا كان ذلك الشيء أشرف و أفضل من أحوال ذلك القائل فلما قال نوح عليه السلام هذه المقالة وجب أن يكون الملك أفضل منه و الجواب أن نوحا عليه السلام إنما قال هذه المقالة في مقابلة قولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا لما كان في ظنهم أن الرسل لا يكونون من البشر إنما يكونون من الملائكة فأعلمهم أن هذا ظن باطل و أن الرسل إلى البشر إنما يكونون من البشر فلهذا قال سبحانه و تعالى: وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ و لم يرد أن درجة الملائكة أفضل من درجة الأنبياء و اللّه أعلم.
و قوله سبحانه و تعالى: وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ يعني تحتقر و تستصغر أعينكم يعني المؤمنين و ذلك لما قالوا إنهم أراذلنا من الرذالة و هي الخسة لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً يعني توفيقا و هداية و إيمانا و أجرا اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ يعني من الخير و الشر إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ يعني إن طردتهم مكذبا لظاهرهم و مبطلا لإيمانهم يعني أني إن فعلت هذا فأكون قد ظلمتهم و أنا لا أفعله فما أنا من الظالمين قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا يعني خاصمتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا يعني خصومتنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا يعني من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني في دعواك أنك رسول اللّه إلينا قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ يعني قال نوح لقومه حين استعجلوه بإنزال العذاب إن ذلك ليس إليّ إنما هو إلى اللّه ينزله متى شاء و على من يشاء إن أراد إنزال العذاب بكم وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ يعني و ما أنتم بفائتين إن أراد اللّه نزول العذاب بكم وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ يعني و لا ينفعكم إنذاري و تحذيري إياكم عقوبته و نزول العذاب بكم إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ يعني يضلكم و قيل يهلككم و هذا معنى و ليس بتفسير لأن الإغواء يؤدي إلى الهلاك هُوَ رَبُّكُمْ يعني أنه سبحانه و تعالى هو يملككم فلا تقدرون على الخروج من سلطانه وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يعني في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي اختلقه و جاء به من عند نفسه و الضمير يعود إلى الوحي الذي جاءهم به قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ أي اختلقته فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي إثم إجرامي و الإجرام اقتراف السيئة و اكتسابها يقال جرم و أجرم بمعنى أنه اكتسب الذنب و افتعله وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ يعني من الكفر و التكذيب و أكثر المفسرين على أن هذا من محاورة نوح قومه فهي من قصة نوح عليه السلام و قال مقاتل «أم يقولون» يعني المشركين من كفار مكة افتراه يعني محمدا صلى اللّه عليه و سلم اختلق القرآن من عند نفسه فعلى هذا القول تكون هذه الآية معترضة في قصة نوح ثم رجع إلى القصة فقال سبحانه و تعالى: وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ قال ابن عباس إن قوم نوح كانوا يضربون نوحا حتى يسقط فيلفونه في لبد و يلقونه في بيت يظنون أنه قد مات فيخرج في اليوم الثاني و يدعوهم إلى اللّه و يروي أن شيخا منهم جاء متكئا على عصاه و معه ابنه فقال يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون فقال يا أبت أمكني من العصا فأخذه من أبيه و ضرب بها نوحا عليه السلام حتى شجه شجة منكرة فأوحى اللّه إليه أنه لن يؤمن
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 483
من قومك إلا من قد آمن فَلا تَبْتَئِسْ يعني فلا تحزن عليهم فإني مهلكهم بِما كانُوا يَفْعَلُونَ يعني بسبب كفرهم و أفعالهم فحينئذ دعا نوح عليه السلام عليهم فقال «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا» و حكى محمد بن إسحاق عن عبد اللّه بن عمير الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يبسطون نوحا فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى تمادوا في المعصية و اشتد عليه منهم البلاء و هو ينتظر الجيل بعد الجيل فلا يأتي قرن إلا كان أنحس من الذي قبله و لقد كان يأتي القرن الآخر منهم فيقول قد كان هذا الشيخ مع آبائنا و أجدادنا هكذا مجنونا فلا يقبلون منه شيئا فشكا نوح إلى اللّه عز و جل فقال يا رب «إني دعوت قومي ليلا و نهارا» الآيات حتى بلغ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فأوحى اللّه سبحانه و تعالى إليه.
[سورة هود (11): الآيات 37 الى 38]
وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ يعني السفينة و الفلك لفظ يطلق على الواحد و الجمع بِأَعْيُنِنا قال ابن عباس بمرأى منا و قيل بعلمنا و قيل بحفظنا وَ وَحْيِنا يعني بأمرنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ يعني بالطوفان و المعنى و لا تخاطبني في إمهال الكفار فإني قد حكمت بإغراقهم و قيل و لا تخاطبني في ابنك كنعان و امرأتك واعلة فإنهما هالكان مع القوم و قيل إن جبريل أتى نوحا فقال له إن ربك يأمرك أن تصنع الفلك فقال كيف أصنعها و لست نجارا فقال إن ربك يقول اصنع فإنك بأعيننا فأخذ القدوم و جعل ينجر و لا يخطئ فصنعها مثل جؤجؤ الطير و هو قوله سبحانه و تعالى: وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ يعني كما أمره اللّه سبحانه و تعالى قال أهل السير لما أمر اللّه سبحانه و تعالى نوحا بعمل السفينة أقبل على عملها و لها عن قومه و جعل يقطع الخشب و يضرب الحديد و يهيئ القار و كل ما يحتاج إليه في عمل الفلك و جعل قومه يمرون و هو في عمله فيسخرون منه و يقولون يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة و أعقم اللّه أرحام النساء فلا يولد لهم ولد قال البغوي و زعم أهل التوراة أن اللّه أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج و أن يطليه بالقار من داخله و خارجه و أن يجعل طوله ثمانين ذراعا و عرضه خمسين ذراعا و طوله في السماء ثلاثين ذراعا و الذراع إلى المنكب و أن يجعله ثلاث طباق سفلى و وسطى و علينا و أن يجعل فيه كوى فصنعه نوح كما أمره اللّه سبحانه و تعالى و قال ابن عباس اتخذ نوح السفينة في سنتين فكان طولها ثلاثمائة ذراع و عرضها خمسين ذراعا و طولها في السماء ثلاثين ذراعا و كانت من خشب الساج و جعل لها ثلاثة بطون فجعل في البطن الأسفل الوحوش و السباع و الهوام و في البطن الأوسط الدواب و الأنعام و ركب هو و من معه في البطن الأعلى و جعل معه ما يحتاج إليه من الزاد و غيره قال قتادة و كان بابها في عرضها، و روي عن الحسن: أنه كان طولها ألف و مائتي ذراع و عرضها ستمائة ذراع و القول الأول أشهر و هو أن طولها ثلاثمائة ذراع و قال زيد بن أسلم: مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار و يقطعها و مائة سنة يصنع الفلك، و قال كعب الأحبار: عمل نوح عليه السلام السفينة في ثلاثين سنة و روي أنها ثلاثة أطباق الطبقة السفلى للدواب و الوحوش و الطبقة الوسطى للإنس و الطبقة العليا للطير فلما كثرت رواث الدواب أوحى اللّه سبحانه و تعالى إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير و خنزيرة و مسح على الخنزير فوقع منه الفأر فأقبلوا على الروث فأكلوه فلما أفسد الفأر في السفينة فجعل يقرضها و يقرض حبالها أوحى اللّه سبحانه و تعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور و سنورة و هي القطة و القط فأقبلا على الفأر فأكلاه.
قوله سبحانه و تعالى: وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ أي جماعة من قومه سَخِرُوا مِنْهُ يعني استهزءوا به و ذلك أنهم قالوا إن هذا الذي كان يزعم أنه نبي قد صار نجارا و قيل قالوا يا نوح ماذا تصنع قال أصنع بيتا يمشي
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 484
على الماء فضحكوا منه قالَ يعني نوحا لقومه إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ يعني إن تستجهلونا في صنعنا فإنا نستجهلكم لتعرضكم لما يوجب سخط اللّه و عذابه، فإن قلت السخرية لا تليق بمنصب النبوة فكيف قال نوح عليه السلام إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون.
قلت إنما سمي هذا الفعل سخرية على سبيل الازدواج في مشاكلة الكلام كما في قوله سبحانه و تعالى:
وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها و المعنى إنا نرى غب سخريتكم بنا إذا نزل بكم العذاب و هو قوله تعالى:
[سورة هود (11): الآيات 39 الى 40]
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني فسترون مَنْ يَأْتِيهِ يعني أينا يأتيه نحن أو أنتم عَذابٌ يُخْزِيهِ يعني يهينه وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ يعني في الآخرة فالمراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا و هو الغرق و المراد بالعذاب الثاني عذاب الآخرة و عذاب النار الذي لا انقطاع له.
و قوله عز و جل: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ يعني و غلى و الفور الغليان و فارت القدر إذا غلت.
و التنور: فارسي معرب لا تعرف له العرب اسما غير هذا فلذلك جاء في القرآن بهذا اللفظ فخوطبوا بما يعرفون و قيل إن لفظ التنور جاء هكذا بكل لفظ عربي و عجمي و قيل إن لفظ التنور أصله أعجمي فتكلمت به العرب فصار عربيا مثل الديباج و نحوه و اختلفوا في المراد بهذا التنور، فقال عكرمة و الزهري: هو وجه الأرض و ذلك أنه قيل لنوح عليه السلام إذا رأيت الماء قد فار على وجه الأرض فاركب السفينة فعلى هذا يكون قد جعل فوران التنور علامة لنوح على هذا الأمر العظيم و قال علي: فار التنور أي طلع الفجر و نور الصبح شبه نور الصبح بخروج النار من التنور، و قال الحسن و مجاهد و الشعبي: إن التنور هو الذي يخبز فيه، و هو قول أكثر المفسرين و رواية عن ابن عباس، أيضا و هذا القول أصح لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة و المجاز كان حمله على الحقيقة أولى و لفظ التنور حقيقة في اسم الموضع الذي يخبز فيه فوجب حمل اللفظ عليه.
فإن قلت الألف و اللام في لفظ التنور للعهد و ليس هاهنا معهود سابق عند السامع فوجب حمله على غيره و هو شدة الأمر و المعنى إذا رأيت الماء يشتد نبوعه و يقوى فانج بنفسك و من معك.
قلت: لا يبعد أن يكون ذلك التنور معلوما عند نوح عليه السلام، قال الحسن كان تنورا من حجارة و كانت حواء تخبز فيه ثم صار إلى نوح و قيل له إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت و أصحابك و اختلفوا في موضع التنور فقال مجاهد نبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته و كان ذلك في ناحية الكوفة و كان الشعبي يحلف باللّه ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة، قال الشعبي: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة و كان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة و كان فوران التنور علامة لنوح عليه السلام، و قال مقاتل: كان ذلك التنور تنور آدم و كان بالشام بموضع يقال له عين وردة و روي عن ابن عباس أنه كان بالهند قال: و الفوران الغليان قُلْنَا احْمِلْ فِيها يعني: قلنا لنوح احمل في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الزوجان كل اثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر كالذكر و الأنثى يقال لكل واحد منهما زوج و المعنى من كل صنف زوجين ذكرا أو أنثى فحشر اللّه سبحانه و تعالى إليه الحيوان من الدواب و السباع و الطير فجعل نوح يضرب بيديه في كل جنس منها فيقع الذكر في يده اليمنى و الأنثى في يده اليسرى فيجعلهما في السفينة وَ أَهْلَكَ أي و احمل أهلك و ولدك و عيالك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ يعني بإهلاك و أراد به امرأته واعلة و ولده كنعان وَ مَنْ آمَنَ يعني و احمل معك من آمن بك من
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 485
قومك وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ اختلفوا في عدد من حمل نوح معه في السفينة فقال قتادة و ابن جريج و محمد بن كعب القرظي لم يكن في السفينة إلا ثمانين: نفر نوح و امرأته و ثلاثة بنين له و هم سام و حام و يافث و نساؤهم؛ و قال الأعمش: كانوا سبعة نوحا و بنيه و ثلاث كنائن له. و قال محمد بن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم و هم نوح و بنوه سام و حام و يافث و ستة نفر آمنوا بنوح و أزواجهم جميعا، و قال مقاتل: كانوا اثنين و سبعين نفرا رجلا و امرأة و قال ابن عباس كان في السفينة ثمانون رجلا أحدهم جرهم، قال الطبري: و الصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال اللّه عز و جل: وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ فوصفهم اللّه سبحانه و تعالى بالقلة و لم يحدد عددا بمقدار فلا ينبغي أن يجاوز في ذلك حد اللّه سبحانه و تعالى إذ لم يرد ذلك في كتاب و لا خبر صحيح عنت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال مقاتل: حمل نوح معه جسد آدم عليه السلام فجعله معترضا بين الرجال و النساء و قصد نوحا جميع الدواب و الطيور ليحملها قال ابن عباس: أول ما حمل نوح الدرة و آخر ما حمل الحمار فلما أراد أن يدخل الحمار أدخل صدره فتعلق إبليس بذنبه فلم تنتقل رجلاه و جعل نوح يقول له ويحك ادخل فينهض فلا يستطيع حتى قال له أدخل و إن كان الشيطان معك كلمة ذلت على لسانه فلما قالها نوح خلى سبيل الحمار فدخل الحمار و دخل الشيطان معه فقال له نوح ماذا أدخلك عليّ يا عدو اللّه قال ألم تقل ادخل و إن كان الشيطان معك قال اخرج عني يا عدو اللّه.
قال: لا بد من أن تحملني معك فكان فيما يزعمون على ظهر السفينة، هكذا نقله البغوي و قال الإمام فخر الدين الرازي: و أما الذي يروى أن إبليس دخل السفينة فبعيد لأنه من الجن و هو جسم ناري أو هوائي فكيف يفر من الغرق و أيضا فإن كتاب اللّه لم يدل على ذلك و لم يرد فيه خبر صحيح فالأولى ترك الخوض فيه، قال البغوي:
و روي عن بعضهم أن الحية و العقرب أتيا نوحا عليه السلام فقالتا احملنا معك فقال إنكما سبب البلاء فلا أحملكما فقالتا احملنا فنحن نضمن لك أن لا نضر أحدا ذكرك فمن قرأ حين يخاف مضرتهما سلام على نوح في العالمين لم تضراه و قال الحسن لم يحمل نوح معه في السفينة إلا ما يلد و يبيض و أما ما سوى ذلك مما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق و البعوض فلم يحمل منها شيئا.
[سورة هود (11): الآيات 41 الى 43]
قوله سبحانه و تعالى: وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها يعني و قال نوح لمن حمل معه اركبوا في السفينة بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يعني بسم اللّه اجراؤها و إرساؤها قال الضحاك كان نوح إذا أراد أن تجري السفينة قال بسم اللّه فتجري و كان إذا أراد أن ترسو يعني تقف قال بسم اللّه فترسو أي تقف و هذا تعليم من اللّه لعباده أنه من أراد أمرا فلا ينبغي له أن يشرع فيه حتى يذكر اسم اللّه عليه وقت الشروع حتى يكون ذلك سببا للنجاح و الفلاح في سائر الأمور وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ الموج ما ارتفع من الماء إذا اشتدت عليه الريح، شبهه سبحانه و تعالى بالجبال في عظمه هو ارتفاعه على الماء قال العلماء: بالسير أرسل اللّه المطر أربعين يوما و ليلة و خرج الماء من الأرض فذلك قوله سبحانه و تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ يعني: صار إناء نصفين نصفا من السماء و نصفا من الأرض و ارتفع الماء على أعلى جبل و أطوله أربعين ذراعا و قيل خمسة عشر ذراعا حتى أغرق كل شيء.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 486
و روي أنه لما كثر الماء في الشكك خافت أم الصبي على ولدها من الغرق و كانت تحبه حبا شديدا فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلحقها الماء فارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما لحقها الماء ذهبت حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء إلى رقبتها رفعت الصبي بيديها حتى ذهب بهما الماء فأغرقهما فلو رحم اللّه منهم أحدا لرحم أم الصبي وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ يعني كنعان و كان كافرا وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يعني عن نوح لم يركب معه يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا يعني في السفينة وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ يعني فتهلك معهم قالَ يعني قال كنعان سَآوِي يعني سألتجئ و أصير إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي يعني يمنعني مِنَ الْماءِ قالَ يعني قال له نوح لا عاصِمَ يعني لا مانع الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يعني من عذابه إِلَّا مَنْ رَحِمَ يعني إلا من رحمه اللّه فينجيه من الغرق وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ يعني كنعان.
[سورة هود (11): الآيات 44 الى 46]
وَ قِيلَ يعني بعد ما تناهى الطوفان و أغرق اللّه قوم نوح يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ أي اشربيه وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي أي أمسكي وَ غِيضَ الْماءُ أي نقص و نضب يقال غاض الماء إذا نقص و ذهب وَ قُضِيَ الْأَمْرُ يعني و فرغ من الأمر و هو هلاك قوم نوح وَ اسْتَوَتْ يعني و استقرت السفينة عَلَى الْجُودِيِ و هو جبل بالجزيرة بقرب الموصل وَ قِيلَ بُعْداً يعني هلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قال العلماء: بالسير لما استقرت السفينة بعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع إليه فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها و لطخت رجليها بالطين، فعلم نوح أن الماء قد ذهب فدعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت و طوق الحمامة بالخضرة التي في عنقها و دعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت و روي أن نوحا عليه السلام ركب السفينة لعشر بقين من رجب و جرت بهم السفينة ستة أشهر و مرت بالبيت الحرام و قد رفعه اللّه من الغرق و بقي موضعه فطافت السفينة به سبعا و أودع الحجر الأسود جبل أبي قبيس و هبط نوح و من معه في السفينة يوم عاشوراء فصامه نوح عليه السلام و أمر جميع من معه بصيامه شكرا للّه تعالى و بنوا قرية بقرب الجبل فسميت سوق ثمانين فهي أول قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان، و قيل: إنه لم ينج أحد من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق و كان المال يصل إلى حجزته و سبب نجاته من الهلاك أن نوحا عليه السلام احتاج إلى خشب ساج لأجل السفينة فلم يمكنه نقله فحمله عوج بن عنق من الشام إلى نوح فنجاه اللّه من الغرق لذلك.
فإن قلت: كيف اقتضت الحكمة الإلهية و الكرم العظيم إغراق من لم يبلغوا الحلم من الأطفال و لم يدخلوا تحت التكليف بذنوب غيرهم.
قلت: ذكر بعض المفسرين أن اللّه عز و جل أعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فلم يولد لهم ولد تلك المدة و هذا الجواب ليس بقوي لأنه يرد عليه إغراق جميع الدواب و الهوام و الطير و غير ذلك من الحيوان و يرد على ذلك أيضا إهلاك أطفال الأمم الكافرة مع آبائهم غير قوم نوح.
و الجواب الشافي عن هذا كله أن اللّه سبحانه و تعالى متصرف في خلقه و هو المالك المطلق يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل و هم يسألون.