کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 195
[سورة الذاريات (51): الآيات 25 الى 34]
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي غرباء لا نعرفكم.
قال ابن عباس: قال في نفسه هؤلاء قوم لا نعرفهم و قيل: إنما أنكر أمرهم، لأنهم دخلوا بغير استئذان و قيل: أنكر سلامهم في ذلك الزمان و في تلك الأرض فَراغَ أي عدل و مال إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ أي جيد و كان مشويا. قيل: كان عامة مال إبراهيم البقر فجاء بعجل فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ هذا من آداب المضيف أن يقدم الطعام إلى الضيف و لا يحوجهم السعي إليه فلما لم يأكلوا قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ يعني أنه حثهم على الأكل. و قيل:
عرض عليهم الأكل من غير أن يأمرهم فَأَوْجَسَ أي فأضمر مِنْهُمْ خِيفَةً لأنهم لم يتحرموا بطعامه قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي يبلغ و يعلم و قيل: عليم أي نبي فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ قيل لم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان بل كانت في البيت فهو كقول القائل أقبل يفعل كذا إذا أخذ فيه فِي صَرَّةٍ أي في صيحة و المعنى أنها أخذت تولول و ذلك من عاد النساء إن سمعن شيئا فَصَكَّتْ وَجْهَها قال ابن عباس: لطمت وجهها. و قيل: جمعت أصابعها و ضربت جبينها تعجبا و ذلك من عادة النساء أيضا إذا أنكرن شيئا وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ معناه: أ تلد عجوز عقيم و ذلك لأن سارة لم تلد قبل ذلك قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أي كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلاما إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ثم إن إبراهيم عليه الصلاة و السلام لما علم حالهم و أنهم من الملائكة قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي فما شأنكم و ما طلبكم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني قوم لوط لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ قيل هو الآجر مُسَوَّمَةً أي معلمة قيل على كل حجر اسم من يهلك به.
و قيل: معلمه بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس يعني المشركين لأن الشرك أسرف الذنوب و أعظمها.
[سورة الذاريات (51): الآيات 35 الى 43]
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها أي في قرى قوم لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ أي أهل بيت مِنَ الْمُسْلِمِينَ يعني لوطا و ابنتيه وصفهم اللّه تعالى بالإيمان و الإسلام جميعا لأنه ما من مؤمن إلا و هو مسلم.
لأن الإسلام أعم من الإيمان. و إطلاق العام على الخاص لا مانع منه فإذا سمي المؤمن مسلما، لا يدل على اتحاد مفهوميهما وَ تَرَكْنا فِيها أي في مدينة قوم لوط آيَةً أي عبرة لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ و المعنى تركنا فيها علامة للخائفين تدلهم على أن اللّه مهلكهم فيخافون مثل عذابهم قوله عز و جل: وَ فِي مُوسى أي و تركنا في إرسال موسى آية و عبرة إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة ظاهرة فَتَوَلَّى أي أعرض عن الإيمان بِرُكْنِهِ أي بجمعه و جنوده الذين كان يتقوى بهم وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ أي فأغرقناهم في البحر وَ هُوَ مُلِيمٌ أي آت بما يلام عليه من دعوى الربوبية و تكذيب الرسل وَ فِي
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 196
عادٍ أي و في إهلاك عاد أيضا آية و عبرة إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ يعني التي لا خير فيها و لا بركة فلا تلقح شجرا و لا تحمل مطرا ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي من أنفسهم و أموالهم و أنعامهم إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ أي كالشيء الهالك البالي و هو ما يبس و ديس من نبات الأرض كالشجر و التبن و نحوه و أصله من رم العظم إذا بلي وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ يعني إلى وقت انقضاء آجالهم و ذلك أنهم لما عقروا الناقة قيل لهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام.
[سورة الذاريات (51): الآيات 44 الى 51]
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي تكبروا عن طاعة ربهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي بعد مضي ثلاثة أيام من بعد عقر الناقة و هي الموت في قول ابن عباس. و قيل: أخذهم العذاب و الصاعقة كل عذاب مهلك وَ هُمْ يَنْظُرُونَ أي يرون ذلك العذاب عيانا فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أي فما قاموا بعد نزول العذاب بهم و لا قدروا على نهوض من تلك الصرعة وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ممتنعين منا و قيل: ما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من أمر اللّه وَ قَوْمَ نُوحٍ قرئ بكسر الميم و معناه و في يوم نوح و قرئ بنصبها و معناه: و أغرقنا قوم نوح مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء و هم عاد و ثمود و قوم فرعون إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن الطاعة.
قوله تعالى: وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي بقوة و قدرة وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ قيل: هو من السعة: أي أوسعنا السماء بحيث صارت الأرض و ما يحيط بها من السماء و الفضاء و بالنسبة إلى سعة السماء كالحلقة الملقاة في الفلاة و قال ابن عباس: معناه قادرون على بنائها كذلك و عنه لموسعون أي الرزق على خلقنا و قيل: معناه و إنا ذوو السعة و الغنى وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها أي بسطناها و مهدناها لكم فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي نحن وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ أي صنفين و نوعين مختلفين كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و الليل و النهار و البر و البحر و السهل و الجبل و الصيف و الشتاء و الجن و الإنس و الذكر و الأنثى و النور و الظلمة و الإيمان و الكفر و السعادة و الشقاوة و الحق و الباطل و الحلو و المر و الحامض لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي فتعلمون أن خالق الأزواج فرد لا نظير له و لا شريك معه فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي: قل يا محمد ففروا إلى اللّه أي فاهربوا من عذابه إلى ثوابه بالإيمان و الطاعة و قال ابن عباس ففروا منه إليه و اعملوا بطاعته و قال سهل بن عبد اللّه ففروا مما سوى اللّه إلى اللّه إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ أي مخوف مُبِينٌ أي بين الرسالة بالحجة الظاهرة و المعجزة الباهرة و الباهرة القاطع وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي و حدوده و لا تشركوا به شيئا إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ قيل: إنما كرر قوله إني لكم منه نذير مبين عند الأمر بالطاعة و النهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان و أنه لا يفوز عند اللّه إلا الجامع بينهما.
[سورة الذاريات (51): الآيات 52 الى 57]
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
كَذلِكَ أي كما كذبك قومك و قالوا ساحر أو مجنون كذلك ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 197
مكة و الأمم الخالية مِنْ رَسُولٍ يعني يدعوهم إلى الإيمان و الطاعة إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ قال اللّه تعالى أَ تَواصَوْا بِهِ أي أوصى أولهم آخرهم و بعضهم بعضا بالتكذيب و تواطؤوا عليه و فيه توبيخ لهم بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي لم يتواصلوا بهذا القول لأنهم لم يتلاقوا على زمان واحد بل جمعتهم على ذلك علة واحدة و هي الطغيان و هو الحامل لهم على ذلك القول فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عنهم فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي لا لوم عليك فقد أديت الرسالة و بذلت المجهود و ما قصرت فيما أمرت به.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية حزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و اشتد على أصحابه و ظنوا أن الوحي قد انقطع و أن العذاب قد حضر إذ أمر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أن يتولى عنهم فأنزل اللّه عز و جل: وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت نفوسهم بذلك و المعنى عظ بالقرآن كفار مكة فإن الذكرى تنفع من علم اللّه أنه يؤمن منهم و قيل: معناه عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم.
قوله عز و جل: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ أي من المؤمنين إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قيل هذا خاص بأهل طاعته من الفريقين يدل عليه قراءة ابن عباس «و ما خلقت الجن و الإنس من المؤمنين إلا ليعبدون» و قيل: معناه و ما خلقت السعداء من الجن و الإنس إلا لعبادتي و الأشقياء منهم إلا لمعصيتي و هو ما جبلوا عليه من الشقاوة و السعادة. و قال علي بن أبي طالب إلا ليعبدون أي إلا لآمرهم أن يعبدوني و أدعوهم إلى عبادتي. و قيل: معناه إلا ليعرفوني و هذا حسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده و توحيده. و قيل: معناه إلا ليخضعوا لي و يتذللوا لأن معنى العبادة في اللغة التذلل و الانقياد و كل مخلوق من الجن و الإنس خاضع لقضاء اللّه متذلل للمشيئة لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له. و قيل: معناه إلا ليوحدوني فأما المؤمن فيوحده اختيارا في الشدة و الرخاء و أما الكافر فيوحده اضطرارا في الشدة و البلاء دون النعمة و الرخاء ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي و لا أن يرزقوا أنفسهم لأني أنا الرزاق المتكفل لعبادي بالرزق القائم لكل نفس بما يقيمها من قوتها وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي أن يطعموا أحدا من خلقي و إنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق كلهم عيال اللّه و من أطعم عيال أحد فقد أطعمه لما صح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «إن اللّه عز و جل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك و أنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك و أنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال: يا رب كيف أسقيك و أنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي» أخرجه مسلم ثم بين أن الرزاق هو لا غيره فقال تعالى:
[سورة الذاريات (51): الآيات 58 الى 60]
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ أي لجميع خلقه ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ يعني هو القوي الشديد المقتدر البليغ القوة و القدرة الذي لا يلحقه في أفعاله مشقة فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي من أهل مكة ذَنُوباً أي نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ أي مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا من قوم نوح و عاد و ثمود فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي بالعذاب لأنهم أخروا إلى يوم القيامة يدل عليه قوله عز و جل فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يعني يوم القيامة و قيل: يوم بدر و اللّه تعالى أعلم بمراده.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 198
سورة الطور
(مكية و هي تسع و أربعون آية و ثلاثمائة و اثنتا عشرة كلمة و ألف و خمسمائة حرف) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة الطور (52): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَ الطُّورِ (1) وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
قوله عز و جل: وَ الطُّورِ أراد به الجبل الذي كلم اللّه موسى عليه الصلاة و السلام بالأرض المقدسة و قيل: بمدين وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ أي مكتوب فِي رَقٍ يعني الأديم الذي يكتب فيه المصحف مَنْشُورٍ أي مبسوط.
و اختلفوا في الكتاب، فقيل: هو ما كتب اللّه بيده لموسى من التوراة و موسى يسمع صرير الأقلام. و قيل:
هو اللوح المحفوظ. و قيل: هو دواوين الحفظة يخرج إليهم يوم القيامة منشورا فآخذ بيمينه و آخذ بشماله.
و قيل: هو القرآن.
[سورة الطور (52): الآيات 4 الى 10]
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10)
وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ يعني بكثرة الغاشية و الأهل و هو بيت في السماء السابعة قدام العرش بحيال الكعبة يقال له الصراع حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض و صح في حديث المعراج من أفراد مسلم عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رأى البيت المعمور في السماء السابعة قال: فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه و في رواية أخرى قال فانتهيت إلى بناء فقلت للملك ما هذا؟ قال بناء بناه اللّه للملائكة يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون يسبحون اللّه و يقدسونه.
و في أفراد البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك» وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يعني السماء وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ يعني الموقد المحمى بمنزلة التنور المسجور و هو قول ابن عباس. و ذلك ما روي أن اللّه تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة نارا فيزاد بها في نار جهنم و جاء في الحديث عن عبد اللّه بن عمرو و قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «لا يركبن رجل البحر إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا فإن تحت البحر نارا و تحت النار بحرا و قيل: المسجور المملوء و قيل: هو اليابس الذي ذهب ماؤه و نضب. و قيل: هو المختلط العذب بالملح.
و روي عن علي أنه قال البحر المسجور هو بحر تحت العرش غمره كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان يمطر العباد بعد النفخة الأولى منه أربعين صباحا فينبتون من قبورهم أقسم اللّه
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 199
بهذه الأشياء لما فيها من عظيم قدرته و جواب القسم قوله تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ يعني إنه لحق و كائن و نازل بالمشركين في الآخرة ما لَهُ مِنْ دافِعٍ أي مانع.
قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في أسارى بدر فدفعت له و هو يصلي بأصحابه المغرب و صوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ و الطور إلى قوله إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع فكأنما صدع قلبي حين سمعت و لم يكن أسلم يومئذ فأسلمت خوفا من نزول العذاب و ما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب ثم بين أنه متى يقع فقال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أي تدور كدوران الرحى و تتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة و قيل: تتحرك و تختلف أجزاؤها بعضها من بعض و تضطرب وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي تزول عن أماكنها و تصير هباء منثورا و الحكمة في مور السماء و سير الجبال الإنذار و الأعلام بأن لا رجوع و لا عود إلى الدنيا و ذلك لأن الأرض و السماء و ما بينهما من الجبال و البحار و غير ذلك إنما خلقت لعمارة الدنيا و انتفاع بني آدم بذلك فلما لم يبق لهم عود إليها أزالها اللّه تعالى و ذلك لخراب الدنيا و عمارة الآخرة.
[سورة الطور (52): الآيات 11 الى 21]
فَوَيْلٌ أي شدة عذاب يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي يوم القيامة الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ أي يخوضون في الباطل يَلْعَبُونَ أي غافلون لأهون عما يراد بهم يَوْمَ يُدَعُّونَ أي يدفعون إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا يعني دفعا بعنف و جفوة، و ذلك أن خزنة جهنم يغلّون أيدي الكفار إلى أعناقهم و يجمعون نواصيهم إلى أقدامهم و يدفعون بها دفعا إلى النار على وجوههم و زجّا في أقفيتهم حتى يردوا إلى النار، فإذا دنوا منها، قال لهم خزنتها: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي في الدنيا أَ فَسِحْرٌ هذا ذلك أنهم كانوا ينسبون محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم إلى السحر و أنه يغطي على الأبصار فوبخوا بذلك و قيل لهم: أ فسحر هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْها أي قاسوا شدتها فَاصْبِرُوا أي على العذاب أَوْ لا تَصْبِرُوا أي عليه سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الصبر و الجزع إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي من الكفر و التكذيب في الدنيا.
قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ فاكِهِينَ أي معجبين بذلك ناعمين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي من الخير و الكرامة وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ كُلُوا أي يقال لهم كلوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً أي مأمون العاقبة من التخمة و السقم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا من الإيمان و الطاعة مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ أي موضوعة بعضها إلى بعض وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ يعني ألحقنا أولادهم الصغار و الكبار بإيمانهم فالكبار بإيمانهم بأنفسهم و الصغار بإيمان آبائهم فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعا لأحد أبويه أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ يعني المؤمنين في الجنة بدرجات آبائهم و إن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تكرمة لآبائهم لتقر بذلك أعينهم هذه رواية عن ابن عباس. و في رواية أخرى عنه، أن معنى الآية و الذين آمنوا و اتبعناهم ذرياتهم يعني البالغين بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم أخبر اللّه تعالى أنه
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 200
يجمع لعبده المؤمن من ذريته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه فيدخلهم الجنة بفضله و يلحقهم بدرجته بعمله من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئا و ذلك قوله تعالى: وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: و ما نقصنا الآباء من أعمالهم شيئا عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يرفع ذرية المؤمن في درجته و إن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ و الذين آمنوا و أتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم إلى آخر الآية.
عن علي قال: «سألت خديجة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هما في النار فلما رأى الكراهية في وجهها قال: لو رأيت مكانهما لأبغضتهما قالت يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فولدي منك قال: في الجنة ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إن المؤمنين و أولادهم في الجنة و إن المشركين و أولادهم في النار ثم قرأ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و الذين آمنوا و أتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم» أخرج هذين الحديثين البغوي بإسناد الثعلبي.
كُلُّ امْرِئٍ أي كافر بِما كَسَبَ أي عمل من الشرك رَهِينٌ أي مرتهن بعمله في النار و المؤمن لا يكون مرتهنا بعمله لقوله «كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين» ثم ذكر ما وعدهم به من الخير و النعمة فقال تعالى:
[سورة الطور (52): الآيات 22 الى 23]
وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ يعني زيادة عما كان لهم وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي من أنواع اللحوم يَتَنازَعُونَ أي يتعاطون و يتناولون فِيها أي في الجنة كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها أي لا باطل فيها و لا رفث و لا تخاصم و لا تذهب عقولهم فيلغوا و يرفثوا وَ لا تَأْثِيمٌ أي لا يكون فيها ما يؤثمهم و لا يجري بينهم ما فيه لغو و إثم كما يجري بين شربة الخمر في الدنيا. و قيل: لا يأثمون في شربها.
[سورة الطور (52): الآيات 24 الى 30]
وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي للخدمة غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ أي في الحسن و البياض و الصفاء لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي مخزون مصون لم تمسه الأيدي و قال عبد اللّه بن عمرو ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام كل واحد منهم على عمل غير عمل صاحبه و عن قتادة قال: «ذكر لنا أن رجلا قال يا نبي اللّه هذا الخادم فكيف المخدوم؟ قال: فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
قوله تعالى: وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يعني يسأل بعضهم بعضا في الجنة قال ابن عباس:
يتذاكرون ما كانوا فيه من الخوف و التعب في الدنيا قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا أي في الدنيا مُشْفِقِينَ أي خائفين من العذاب فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي بالمغفرة وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ يعني عذاب النار و قيل: هو اسم من أسماء جهنم إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا نَدْعُوهُ أي نخلص الدعاء و العبادة له إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ قال ابن عباس: اللطيف و قيل: يعني الصادق فيما وعد. و قيل: البر العطوف على عباده المحسن إليهم الذي عم بره جميع خلقه الرَّحِيمُ بعبيده.
قوله عز و جل: فَذَكِّرْ يعني فعظ يا محمد بالقرآن كفار مكة فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي برحمته و عصمته و قيل: بإنعامه عليك بالنبوة بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ الكاهن هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب و يخبر بما في غد من غير وحي و المعنى أنك لست كما يقول كفار مكة إنه كاهن أو مجنون إنما تنطلق بالوحي نزلت في الذين اقتسموا أعقاب مكة يرمون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالكهانة و السحر و الشعر و الجنون أَمْ يَقُولُونَ يعني هؤلاء المقتسمين
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج4، ص: 201
شاعِرٌ أي هو شاعر نَتَرَبَّصُ بِهِ أي ننتظر به رَيْبَ الْمَنُونِ يعني حوادث الدهر و صروفه فيموت و يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء أو يتفرق عنه أصحابه و إن أباه مات و هو شاب و نحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه و المنون اسم للموت و للدهر و أصله القطع سميا بذلك لأنهما يقطعان الأجل.
[سورة الطور (52): الآيات 31 الى 37]
قُلْ تَرَبَّصُوا أي انتظروا بي الموت فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أي من المنتظرين حتى يأتي أمر اللّه فبكم فعذبوا يوم بدر بالقتل و السبي أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ أي عقولهم بِهذا و ذلك أن عظماء قريش كانوا يوصفون بالأحلام و العقول فأزرى اللّه بعقولهم حين لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي يتجاوزون الحد في الطغيان و الكفر أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي اختلق القرآن من تلقاء نفسه و التقول التكلف و لا يستعمل إلا في الكذب و المعنى ليس الأمر كما زعموا بَلْ لا يُؤْمِنُونَ أي بالقرآن استكبارا ثم ألزمهم الحجة فقال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أي مثل القرآن في نظمه و حسنه و بيانه إِنْ كانُوا صادِقِينَ يعني إن محمد تقوله من قبل نفسه أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ .
قال ابن عباس: من غير رب خالق. و المعنى: أم خلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق و ذلك مما لا يجوز أن يكون لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أي لأنفسهم و ذلك في البطلان أشد لأن ما لا وجود له كيف يخلق فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا فليؤمنوا به و ليوحدوه و ليعبدوه و قيل: في معنى الآية: أخلقوا باطلا فلا يحاسبون و لا يؤمرون و لا ينهون أم هم الخالقون أي لأنفسهم فلا يجب عليهم للّه أمر أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ يعني ليس الأمر كذلك بَلْ لا يُوقِنُونَ أي بالحق و هو توحيد اللّه تعالى و قدرته على البعث و أن اللّه تعالى هو خالقهم و خالق السموات و الأرض فليؤمنوا به و ليوقنوا أنه ربهم و خالقهم أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ يعني النبوة و مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا و قيل: خزائن المطر و الرزق أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي المسلطون الجبارون.
و قيل: الأرباب القاهرون فلا يكونون تحت أمر و لا نهي و يفعلون ما يشاءون.
[سورة الطور (52): الآيات 38 الى 45]