کتابخانه تفاسیر
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 532
تقديره فأرسلني أيها الملك فأرسله فأتى السجن قال ابن عباس و لم يكن السجن في المدينة يُوسُفُ أي يا يوسف أَيُّهَا الصِّدِّيقُ إنما سماه صديقا لأنه لم يجرب عليه كذبا قط و الصديق الكثير الصدق و الذي ل يكذب قط و قيل سماه صديقا لأنه صدق في تعبيره رؤياه التي رآها في السجن أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ فإن الملك رأى هذه الرؤيا لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ يعني أرجع بتأويل هذه الرؤيا إلى الملك و جماعته لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ يعني بتأويل هذه الرؤيا و قيل لعلهم يعلمون منزلتك في العلم قالَ يعني يوسف معبرا لتلك الرؤيا أما البقرات السمان و السنبلات الخضر فسبع سنين مخصبة و أما البقرات العجاف و السنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبة فذلك قوله تعالى: تَزْرَعُونَ و هذا خبر بمعنى الأمر أي ازرعوا سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً يعني عادتكم في الزراعة و الدأب العادة و قيل ازرعوا بجد و اجتهاد فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إنما أمرهم بترك ما حصدوه من الحنطة في سنبله لئلا يفسد و يقع في السوس و ذلك أبقى له على طول الزمان إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ يعني ادرسوا قليلا من الحنطة للأكل بقدر الحاجة و أمرهم بحفظ الأكثر لوقت الحاجة أيضا و هو وقت السنين المجدبة و هو قوله ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني من بعد السنين المخصبة سَبْعٌ شِدادٌ يعني سبع سنين مجدبة ممحلة شديدة على الناس يَأْكُلْنَ يعني يفنين ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ يعني يؤكل فيهن كل ما أعددتم و ادخرتم لهن من الطعام و إنما أضاف الأكل إلى السنين على طريق التوسع في الكلام إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ يعني تحرزون و تدخرون للبذر، و الإحصان الإحراز و هو إبقاء الشيء في الحصن بحيث يحفظ و لا يضيع.
[سورة يوسف (12): الآيات 49 الى 52]
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني من بعد هذه السنين المجدبة عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ أي يمطرون من الغيث الذي هو المطر، و قيل: هو من قولهم استغثت بفلان فأغاثني من الغوث وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ يعني يعصرون العنب خمرا و الزيتون زيتا و السمسم دهنا أراد به كثرة الخير و النعم على الناس و كثرة الخصب في الزرع و الثمار، و قيل يعصرون معناه ينجون من الكرب و الشدة و الجدب.
قوله عز و جل: وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ و ذلك أن الساقي لما رجع إلى الملك و أخبره بفتيا يوسف و ما عبر برؤياه استحسنه الملك و عرف أن الذي قاله كائن لا محالة فقال ائتوني به حتى أبصر هذا الرجل الذي قد عبر رؤياي بهذه العبارة فرجع الساقي إلى يوسف و قال له أجب الملك فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ فأبى أن يخرج معه حتى تظهر براءته للملك و لا يراه بعين النقص قالَ يعني قال يوسف للرسول ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ يعني إلى سيدك و هو الملك فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ و لم يصرح بذكر امرأة العزيز أدبا و احتراما لها (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي» أخرجه الترمذي، و زاد فيه «ثم قرأ فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن» هذا الحديث فيه بيان فضل يوسف عليه الصلاة و السلام و بيان قوة صبره و ثباته و المراد بالداعي رسول الملك الذي جاءه من عنده فلم يخرج معه مبادرا إلى الراحة و مفارقة ما هو فيه من الضيق و السجن الطويل فلبث في السجن و راسل الملك في كشف أمره الذي سجن بسببه لتظهر براءته عند الملك و غيره
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 533
فأثنى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على يوسف عليه الصلاة و السلام و بين فضيلته و حسن صبره على المحنة و البلاء و قوله: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ يعني أن اللّه تعالى عالم بصنيعهن و ما احتلن في هذه الواقعة من الحيل العظيمة فرجع الرسول من عند يوسف إلى الملك بهذه الرسالة فجمع الملك النسوة و امرأة العزيز معهن و قالَ لهن ما خَطْبُكُنَ أي شأنكن و أمركن إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ إنما خاطب الملك جميع النسوة بهذا الخطاب، و المراد بذلك امرأة العزيز وحدها ليكون أستر لها و قيل إن امرأة العزيز راودته عن نفسه وحدها و سائر النسوة أمرنه بطاعتها فلذلك خاطبهن بهذا الخطاب قُلْنَ يعني النسوة جميعا مجيبات للملك حاشَ لِلَّهِ يعني معاذ اللّه ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ يعني من خيانة في شيء من الأشياء قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ يعني ظهر و تبين و قيل إن النسوة أقبلن على امرأة العزيز فعزرنها و قيل خافت أن يشهد عليها فأقرت فقالت أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ يعني في قوله هي راودتني عن نفسي.
و اختلفوا في قوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ على قولين:
أحدهما: أنه من قول المرأة و وجه هذا القول أن هذا كلام متصل بما قبله و هو قول المرأة الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين، ثم قالت: ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب و المعنى ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه في حال غيبته و هو في السجن و لم أكذب عليه بل قلت أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين و إن كنت قد قلت فيه ما قلت في حضرته، ثم بالغت في تأكيد هذا القول فقالت وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ يعني أني لما أقدمت على هذا الكيد و المكر لا جرم أني افتضحت لأن اللّه لا يرشد و لا يوفق كيد الخائنين.
و القول الثاني: أنه من قول يوسف عليه الصلاة و السلام و هذا قول الأكثرين من المفسرين و العلماء و وجه هذا القول أنه لا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة عليه فعلى هذا يكون معنى الآية أنه لما بلغ يوسف قول المرأة أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين قال يوسف ذلك أي الذي فعلت من ردي رسول الملك إليه ليعلم يعني العزيز أني لم أخنه في زوجته بالغيب يعني في حال غيبته، فيكون هذا من كلام يوسف اتصل بقول امرأة العزيز أنا راودته عن نفسه من غير تمييز بين الكلامين لمعرفة السامعين لذلك مع غموض فيه لأنه ذكر كلام إنسان ثم أتبعه بكلام إنسان آخر من غير فصل بين الكلامين و نظير هذا قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ هذا من قول الملأ، فماذا تأمرون من قول فرعون و مثله قوله تعالى: وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً هذا من قول بلقيس وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ من قوله عز و جل تصديقا لها و على هذا القول اختلفوا أين كان يوسف حين قال هذه المقالة على قولين أحدهما أنه كان في السجن و ذلك أنه لما رجع إليه رسول الملك و هو في السجن و أخبره بجواب امرأة العزيز للملك قال حينئذ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب و هذه رواية أبي صالح عن ابن عباس و به قال ابن جريج.
و القول الثاني: إنه قال هذه المقالة عند حضوره عند الملك و هذه رواية عطاء عن ابن عباس فإن قلت فعلى هذا القول كيف خاطبهم بلفظة ذلك و هي إشارة للغائب مع حضوره عندهم.
قلت قال ابن الأنباري قال اللغويون هذا و ذلك يصلحان في هذا الموضع لقرب الخبر من أصحابه فصار كالمشاهد الذي يشار إليه بهذا و قيل ذلك إشارة إلى ما فعله يقول ذلك الذي فعلته من ردي الرسول ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي لم أخن العزيز في حال غيبته؛ ثم ختم هذا الكلام بقوله و أن اللّه لا يهدي كيد الخائنين يعني أني لو كنت خائنا لما خلصني اللّه من هذه الورطة التي وقعت فيها لأن اللّه لا يهدي أي لا يرشد و لا يوفق كيد الخائنين و اختلفوا في قوله.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 534
[سورة يوسف (12): الآيات 53 الى 54]
وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي من قول من؟ على قولين أيضا:
أحدهما: أنه من قول المرأة و هذا التفسير على قول من قال إن قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب من قول المرأة فعلى هذا يكون المعنى و ما أبرئ نفسي من مراودتي يوسف عن نفسه و كذبي عليه.
و القول الثاني: و هو الأصح و عليه أكثر المفسرين أنه من قول يوسف عليه الصلاة و السلام و ذلك أنه لما قال ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال له جبريل و لا حين هممت بها فقال يوسف عند ذلك و ما أبرئ نفسي و هذه رواية عن ابن عباس أيضا و هو قول الأكثرين و قال الحسن إن يوسف لما قال ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب خاف أن يكون قد زكى نفسه فقال و ما أبرئ نفسي لأن اللّه تعالى قال فلا تزكوا أنفسكم، ففي قوله و ما أبرئ نفسي هضم للنفس و انكسار و تواضع للّه عز و جل فإن رؤية النفس في مقام العصمة و التزكية ذنب عظيم فأراد إزالة ذلك عن نفسه فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ و السوء لفظ جامع لكل ما يهم الإنسان من الأمور الدنيوية و الأخروية و السيئة الفعلة القبيحة.
و اختلفوا في النفس الأمارة بالسوء ما هي فالذي عليه أكثر المحققين من المتكلمين و غيرهم أن النفس الإنسانية واحدة و لها صفات: منها الأمارة بالسوء، و منها اللوامة، و منها المطمئنة فهذه الثلاث المراتب هي صفات لنفس واحدة فإذا دعت النفس إلى شهواها مالت إليها فهي النفس الأمارة بالسوء فإذا فعلتها أتت النفس اللوامة فلامتها على ذلك الفعل القبيح من ارتكاب الشهوات و يحصل عند ذلك الندامة على ذلك الفعل القبيح و هذا من صفات النفس المطمئنة، و قيل: إن النفس أمارة بالسوء بطبعها فإذا تزكت وصفت من أخلاقها الذميمة صارت مطمئنة.
و قوله إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي قال ابن عباس: معناه إلا من عصم ربي فتكون ما بمعنى من فهو كقوله ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ يعني من طاب لكم و قيل هذا استثناء منقطع معناه لكن من رحم ربي فعصمه من متابعة النفس الأمارة بالسوء إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ يعني غفور لذنوب عباده رَحِيمٌ بهم.
قوله تعالى: وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي و ذلك أنه لما تبين للملك عذر يوسف و عرف أمانته و علمه طلب حضوره إليه فقال ائتوني به يعني بيوسف أستخلصه لنفسي أي أجعله خالصا لنفسي و الاستخلاص طلب خلوص الشيء من جميع شوائب الاشتراك و إنما طلب الملك أن يستخلص يوسف لنفسه، لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة العزيزة و لا يشاركهم فيها أحد من الناس و إنما قال الملك ذلك لما عظم اعتقاده في يوسف لما علم من غزارة علم يوسف و حسن صبره و إحسانه إلى أهل السجن و حسن أدبه و ثباته على المحن كلها فلهذا حسن اعتقاد الملك فيه و إذا أراد اللّه تعالى أمرا هيأ أسبابه فألهم الملك ذلك فقال ائتوني به أستخلصه لنفسي فَلَمَّا كَلَّمَهُ فيه اختصار تقديره فلما جاء الرسول إلى يوسف فقال له أجب الملك الآن بلا معاودة فأجابه.
روي أن يوسف لما قام ليخرج من السجن دعا لأهله فقال اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار و لا تعم عليهم الأخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد، فلما خرج من السجن كتب على بابه هذا بيت البلواء و قبر الأحياء و شماتة الأعداء و تجربة الأصدقاء ثم اغتسل و تنظف من درن السجن و لبس ثيابا حسنة ثم قصد باب الملك.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 535
قال وهب: فلما وقف بباب الملك قال: حسبي ربي من دنياي و حسبي ربي من خلقه عز جارك و جل ثناؤك و لا إله غيرك ثم دخل الدار فلما أبصر الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره و أعوذ بك من شره و شر غيره فلما نظر إليه الملك سلم يوسف عليه بالعربية فقال له الملك ما هذا اللسان؟ قال لسان عمي إسماعيل ثم دعا له بالعبرانية فقال له و ما هذا اللسان أيضا قال يوسف هذا لسان آبائي قال وهب و كان الملك يتكلم بسبعين لغة فلم يعرف هذين اللسانين و كان الملك كلما كلمه بلسان أجاباه يوسف و زاد عليه بالعربية و العبرانية فلما رأى الملك منه ذلك أعجبه ما رأى مع حداثة سن يوسف عليه السلام و كان له من العمر يومئذ ثلاثون سنة فأجلسه إلى جنبه فذلك قوله تعالى فلما كلمه يعني فلما كلم الملك يوسف لأن مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبدأ بالكلام فيها و إنما يبدأ فيها بالكلام و قيل معناه فلما كلم يوسف الملك قال الساقي أيها الملك هذا الذي علم تأويل الملك رؤياك مع عجز السحرة و الكهنة عنها فأقبل عليه الملك و قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ يقال: اتخذ فلان عند فلان مكانة أي منزلة و هي الحالة التي يتمكن بها صاحبها مما يريد، و قيل: المكانة المنزلة و الجاه و المعنى قد عرفت أمانتك و منزلتك و صدقك و براءتك مما نسبت إليه و قوله مكين أمين كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل و المناقب في أمر الدين و الدنيا.
روي أن الملك قال ليوسف عليه الصلاة و السلام أحب أن أسمع تأويل رؤياي منك شفاها فقال: نعم أيها الملك رأيت سبع بقرات سمان شهب غر حسان غير عجاف كشف لك عنهن النيل فطلعن من شاطئه تشخب أخلافهن لبنا فبينما أنت تنظر إليهن و قد أعجبك حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه و بدا يبسه فخرج من حمأته سبع بقرات عجاف شعث غبر ملصقات البطون ليس لهما ضروع و لا أخلاف و لهن أنياب و أضراس و أكف كأكف الكلاب و خراطيم كخراطيم السباع فاختلطن بالسمان فاترسن السمان فافترس السبع فأكلن لحومهن و مزقن جلودهن و حطمن عظامهن و مشمشن مخهن فبينما أنت تنظر و تتعجب كيف غلبنهن و هن مهازيل ثم لم يظهر منهن سمن و لا زيادة بعد أكلهن إذ سبع سنبلات خضر طريات ناعمات ممتلئات حبا و ماء و إلى جانبهن سبع أخر سود يابسات في منبت واحد عروقهن في الثرى و الماء فبينا أنت تقول في نفسك أي شيء هؤلاء خضر مثمرات و هؤلاء سود يابسات و المنبت واحد و أصولهن في الثرى و الماء.
إذ هبت الريح فذرت أوراق اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهن النار فأحرقتهن فصرن سودا فهذا ما رأيت أيها الملك ثم انتبهت مذعورا فقال الملك و اللّه ما أخطأت منها شيئا فما شأن هذه الرؤيا و إن كان عجبا فما هو بأعجب مما سمعت منك و ما ترى في تأويل رؤياي أيها الصديق؟ قال يوسف عليه الصلاة و السلام: أرى أن تجمع الطعام و تزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة و تجعل ما يتحصل من ذلك الطعام في الخزائن بقصبه و سنبله فإنه أبقى له فيكون ذلك القصب و السنبل علفا للدواب و تأمر الناس فليرفعوا الخمس من زروعهم أيضا فيكفيك ذلك الطعام الذي جمعته لأهل مصر و من حولها و تأتيك الخلق من سائر النواحي للميرة و يجتمع عندك من الكنوز و الأموال ما لا يجتمع لأحد قبلك فقال الملك: و من لي بهذا و من يجمعه و يبيعه لي و يكفيني العمل فيه فعند ذلك.
[سورة يوسف (12): آية 55]
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
قالَ يعني يوسف اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ يعني على خزائن الطعام و الأموال، و أراد بالأرض أرض مصر أي اجعلني على خزائن أرضك التي تحت يدك، و قال الربيع بن أنس اجعلني على خزائن خراج مصر و دخلها إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ أي حفيظ الخزائن عليم بوجوه مصالحها و قيل معناه إني حاسب كاتب و قيل حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني و قيل حفيظ للحساب عليم أعلم لغة من يأتيني، و قال الكلبي: حفيظ بتقديره في
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 536
السنين المخصبة للسنين المجدبة عليم بوقت الجوع حين يقع فقال الملك عند ذلك و من أحق بذلك منك و ولّاه ذلك، و روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «يرحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته و لكنه أخر ذلك سنة».
فإن قلت كيف طلب يوسف علي الصلاة و السلام الإمارة و الولاية مع ما ورد من النهي عنها مع كراهية طلبها لما صح من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم «يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة و كلت إليها و إن أتيتها من غير مسألة أعنت عليها» أخرجاه في الصحيحين.
قلت إنما يكره طلب الإمارة إذا لم يتعين عليه طلبها فإذا تعين عليه طلبها وجب ذلك عليه و لا كراهية فيه فأما يوسف عليه الصلاة و السلام فكان عليه طلب الإمارة لأنه مرسل من اللّه تعالى و الرسول أعلم بمصالح الأمة من غيره و إذا كان مكلفا برعاية المصالح و لا يمكنه ذلك إلا بطلب الإمارة وجب عليه طلبها، و قيل إنه علم أنه سيحصل قحط و شدة إما بطريق الوحي من اللّه أو بغيره و ربما أفضى ذلك إلى هلاك معظم الخلق، و كان في طلب الإمارة إيصال الخير و الراحة إلى المستحقين وجب عليه طلب الأمارة لهذا السبب.
فإن قلت كيف مدح يوسف نفسه بقوله إني حفيظ عليم و اللّه تعالى يقول فلا تزكوا أنفسكم.
قلت إنما يكره تزكية النفس إذا قصد به الرجل التطاول و التفاخر و التوسل به إلى غير ما يحل فهذا القدر المذموم في تزكية النفس.
أما إذا قصد بتزكية النفس و مدحها إيصال الخير و النفع إلى الغير فلا يكره ذلك و لا يحرم بل يجب عليه ذلك مثاله أن يكون بعض الناس عنده علم نافع و لا يعرف به فإنه يجب عليه أن يقول أنا عالم، و لما كان المالك قد علم من يوسف أنه عالم بمصالح الدين و لم يعلم أنه عالم بمصالح الدنيا نبهه يوسف بقوله إني حفيظ عليم على أنه عالم بما يحتاج إليه في مصالح الدنيا أيضا مع كمال علمه بمصالح الدين.
[سورة يوسف (12): الآيات 56 الى 57]
قوله عز و جل: وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ و كذلك إشارة إلى ما تقدم، يعني و كما أنعمنا على يوسف بأن أنجيناه من الجب و خلصناه من السجن و زيناه في عين الملك حتى قربه و أدنى منزلته كذلك مكنا له في الأرض يعني أرض مصر؛ و معنى التمكين هو أن لا ينازعه منازع فيما يراه و يختاره و إليه الإشارة بقوله يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ لأنه تفسير للتمكين.
قال ابن عباس و غيره لما انقضت السنة من يوم سأل يوسف الإمارة دعاه الملك فتوجه و قلده بسيفه و حلاه بخاتمه و وضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر و الياقوت طوله ثلاثون ذراعا و عرضه عشرة أذرع و وضع له عليه ثلاثون فراشا و ستون ماريا و ضرب له عليه كلة من إستبرق و أمره أن يخرج فخرج متوجا لونه كالثلج و وجهه كالقمر يرى الناظر وجهه فيه من صفاء لونه فانطلق حتى جلس على ذلك السرير و دانت ليوسف الملوك و فوض الملك الأكبر إليه ملكه و عزل قطفير عما كان عليه و جعل يوسف مكانه.
قال ابن إسحاق قال ابن زيد و كان لملك مصر خزائن كثيرة فسلمها إلى يوسف و سلم له سلطانه كله و جعل أمره و قضاءه نافذا في مملكته قالوا ثم هلك قطفير عزيز مصر في تلك الليالي فزوج الملك يوسف امرأة العزيز بعد هلاكه فلما دخل يوسف عليها قال لها أليس هذا خيرا مما كنت تريدين قالت له أيها الصديق لا تلمني فإني
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 537
كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى في ملك و دنيا و كان صاحبي لا يأتي النساء و كنت كما جعلك اللّه في حسنك و هيئتك فغلبتني نفسي و عصمك اللّه قالوا فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له ولدين ذكرين إفراثيم و ميشا و هما ابنا يوسف منها و استوثق ليوسف ملك مصر و أقام فيه العدل و أحبه الرجال و النساء فلما اطمأن يوسف في ملكه دبر في جمع الطعام أحسن التدبير فبنى الحصون و البيوت الكثيرة و جمع فيها الطعام للسنين المجدبة و أنفق المال بالمعروف حتى خلت السنين المخصبة و دخلت السنين المجدبة بهول و شدة لم ير الناس مثله، و قيل: إنه دبر في طعام الملك و حاشيته كل يوم مرة واحدة نصف النهار فلما دخلت سنين القحط كان أول من أصابه الجوع الملك فجاع نصف النهار فنادى يا يوسف الجوع الجوع فقال يوسف هذا أول أوان القحط فهلك في السنة الأولى من أول سنين القحط كل ما أعدوه في السنين المخصبة فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف فباعهم في السنة الأولى بالنقود حتى لم يبق بمصر درهم و لا دينار إلا أخذه منهم و باعهم في السنة الثانية بالحلي و الجواهر حتى لم يبق بمصر في أيدي الناس منها شيء و باعهم في السنة الثالثة بالدواب و المواشي و الأنعام حتى لم تبق دابة و لا ماشية إلا احتوى عليها كلها و باعهم في السنة الرابعة بالعبيد و الجواري حتى لم يبق بأيدي الناس عبد و لا أمة و باعهم في السنة الخامسة بالضياع و العقار حتى أتى عليها كلها و باعهم في السنة السادسة بأولادهم، حتى استرقهم و باعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر و لا حرة إلا ملكه فصاروا جميعهم عبيدا ليوسف عليه الصلاة و السلام فقال أهل مصر ما رأينا كاليوم ملكا أجمل و لا أعظم من يوسف فقال يوسف للملك كيف رأيت صنع اللّه بي فيما خولني فما ترى في هؤلاء قال الملك الرأي رأيك و نحن لك تبع قال فإني أشهد اللّه و أشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم و رددت عليهم أملاكهم و قيل إن يوسف كان لا يشبع من الطعام في تلك الأيام فقيل له أ تجوع و بيدك خزائن الأرض فقال أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع و أمر يوسف طباخي الملك أن يجعلوا غداءه نصف النهار و أراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائع فمن ثم جعل الملوك غداءهم نصف النهار.
قال مجاهد: و لم يزل يوسف يدعو الملك إلى الإسلام و يتلطف به حتى أسلم الملك و كثير من الناس فذلك قوله سبحانه و تعالى: و كذلك مكّنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ يعني نختص بنعمتنا و هي النبوة من نشاء يعني من عبادنا وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس يعني الصابرين وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ يعني و لثواب الآخرة خَيْرٌ يعني أفضل من أجر الدنيا لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ يعني يتقون ما نهى اللّه عنه و فيه دليل على أن الذي أعد اللّه عز و جل ليوسف عليه الصلاة و السلام في الآخرة من الأجر و الثواب الجزيل أفضل مما أعطاه اللّه في الدنيا من الملك قوله تعالى:
[سورة يوسف (12): آية 58]
وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ قال العلماء: لما اشتد القحط و عظم البلاء و عم ذلك جميع البلاد حتى وصل إلى بلاد الشام قصد الناس مصر من كل مكان للميرة و كان يوسف لا يعطي أحدا أكثر من حمل بعير و إن كان عظيما تقسيطا و مساواة بين الناس و نزل بآل يعقوب ما نزل بالناس من الشدة فبعث بنيه إلى مصر للميرة و أمسك عنده بنيامين أخا يوسف لأمه و أبيه و أرسل عشرة فذلك قوله تعالى و جاء إخوة يوسف و كانوا عشرة و كان مسكنهم بالعربات من أرض فلسطين و العربات ثغور الشام و كانوا أهل بادية و إبل و شياه فدعاهم يعقوب عليه الصلاة و السلام و قال بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا له و اقصدوه لتشتروا منه ما تحتاجون إليه من الطعام فخرجوا حتى قدموا مصر فدخلوا على يوسف فعرفهم.
لباب التأويل فى معانى التنزيل، ج2، ص: 538
قال ابن عباس و مجاهد: بأول نظرة نظر إليهم عرفهم، و قال الحسن: لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه و هم له منكرون يعني لم يعرفوه.
قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: كان بين أن قذفوه في الجب و بين دخولهم عليه مدة أربعين سنة فلذلك أنكروه و قال عطاء: إنما لم يعرفوه لأنه كان على سرير الملك و كان على رأسه تاج الملك و قيل لأنه كان قد لبس زي ملوك مصر عليه ثياب حرير و في عنقه طوق من ذهب و كل واحد من هذه الأسباب مانع من حصول المعرفة فكيف و قد اجتمعت فيه، و قيل إن العرفان إنما يقع في القلب بخلق اللّه تعالى له فيه و إن اللّه سبحانه و تعالى لم يخلق ذلك العرفان في تلك الساعة في قلوبهم تحقيقا لما أخبر أنه سينبئهم بأمرهم هذا و هم لا يشعرون فكان ذلك معجزة ليوسف عليه الصلاة و السلام فلما نظر إليهم يوسف و كلموه بالعبرانية كلمهم بلسانهم فقال لهم أخبروني من أنتم و ما أمركم فإني قد أنكرت حالكم قالوا: نحن قوم من أرض الشام رعاة قد أصابنا من الجهد ما أصاب الناس فجئنا نمتار؟ قال يوسف لعلكم جئتم تنظرون عورة بلادي قالوا: لا و اللّه ما نحن بجواسيس إنما نحن إخوة بنو أب واحد و هو شيخ كبير صديق يقال له يعقوب نبي من أنبياء اللّه تعالى قال و كم أنتم؟ قالوا كنا اثني عشر فذهب أخ لنا معنا إلى البرية فهلك فيها و كان أحبنا إلى أبينا قال: فكم أنتم الآن، قالوا: عشرة قال:
و أين الآخر قالوا هو عند أبينا لأنه أخو الذي هلك لأمه فأبونا يتسلى به قال فمن يعلم أن الذي تقولون حق قالوا أيها الملك إننا ببلاد غربة لا يعرفنا فيها أحد قال فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين فأنا راض بذلك منكم قالوا إن أبانا يحزن لفراقه و سنراوده عنه قال فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني به فاقترعوا فيما بينهم فأصابت القرعة شمعون و كان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده فذلك قوله تعالى:
[سورة يوسف (12): الآيات 59 الى 62]