کتابخانه روایات شیعه
الجزء الأول
[مقدمة التحقيق]
المقدّمة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه ربّ العالمين، منتهى الحمد، و غايته، و صلّى اللّه على محمّد النبيّ الأمّي، و الرحمة المهداة، و على أهل بيته سفن النجاة، و منائر الهدى.
أما بعد:
فلعله من البديهي القول بانّ كتابة التأريخ، أو ما يصطلح على تسميته بعلم التاريخ، يعد بلا شك من علوم المعرفة التي حظيت بالعناية الواسعة من قبل المسلمين بحيث يعدو من العسير تصور وجود أمة اخرى اقامت لها تأريخا واسعا و مسهبا كما هو لدى المسلمين.
و إذا كان همّ المسلمين عقب العهد الإسلامي الأول هو تثبيت و حفظ مغازي الرسول الاكرم (صلّى اللّه عليه و آله) لما لها من دلالة مهمة على حقيقة شهدت الانعطاف الكبير المعاكس في حياة البشرية، نحو إقرار المثل، و تصحيح الانحراف الذي اصاب كل الكيانات الاساسية في البنيان البشري، و ترجمة ملموسة لحاجة المجتمع الإسلامي في محاولته ارساء العقائد و الاحكام الشرعية التي جاء بها صاحب الشريعة، و تثبيتها كأصول تعبدية، فان القرآن
الكريم قد فتح الباب على مصراعيه امام عموم المسلمين لتدارس حياة الأمم السالفة و الغابرة، كمناهج أكادمية و تربوية لتلافي موارد العطب و مواضع الهلكة، كما أشار إليه قوله تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. 1
و غير ذلك من الآيات الكريمة التي يصعب حصرها و ايرادها هنا.
و بذا فقد أوقد القرآن في مخيلة المسلم المتدبر في آياته فكرة البحث و التنقيب عن حياة الأمم السالفة، و التي أشار إليها كتاب اللّه تعالى تلميحا و تذكيرا، و لا يتأتى ذلك إلّا من خلال التشمير و البحث الجاد و الرصين لاستحصال حكاية ما مضى و غاص في رمال ارض الجزيرة و ما يحيط بها من امتدادات سحيقة مترامية الاطراف.
و لما كانت الدعوة الإسلامية طرية و اعوادها غضة لم تنل منها سني الشيخوخة شيئا، فلم تكن كتابة تأريخها بمتعسرة و لا شاقة ابدا، و لا يعسر على الباحثين و المؤرخين وضع اللبنات الاساسية لتأريخ اسلامي متكامل يبقى زادا و معاشا دينيا و دنيويا للاجيال اللاحقة و الدهور المتعاقبة، حتى يرث اللّه تعالى الأرض و من عليها، هذا إذا اقترن مداد كاتبيه بالصدق و الأمانة، و تجاوز التحزب و التعصب، و الحرص على التمسك بكلمة الحق رغم مشقة المخاض، و هذا ما لم يوفق له معظم كتبة التأريخ و صانعي اسس بنائه الشامخ، فتوارثته
الاجيال هجينا مشوبا بالادران، و هو ما سيتبين من خلال ما سنتعرض إليه لاحقا.
بلى لم تكن مسألة اقامة أسس تأريخ اسلامي متخصص بممتنعة و شاقة ابدا، بل كانت المشقة العظيمة تكمن في كتابة تأريخ الحقب الماضية التي مضى عليها الزمن و ما ابقى لها حتّى اطلالا، و بالاخص في ارض الجزيرة، مهبط الوحي، و منطلق الرسالة المحمدية المباركة، حيث أن ما توافر من معلومات متناثرة عن طبيعة الأحوال التي كانت سائدة آنذاك، كانت من الندرة و التشتت بشكل لا يتيح للمؤرخ القدرة على استيعابها و بشكل جامع و شامل يطمئن إليه، و لقد كان أكثر ما ورد عنها لا يتجاوز النقوش المكتوبة بالخط المسند على حوائط المعابد و الاديرة و اعمدة الحصون و القصور في الحيرة و اليمن، ترافقها روايات و أساطير منقولة شفاها عن أسماء الملوك القدماء و حكاياتهم، مع قصص غامضة و مهولة او مشوشة عن أيّام القبائل و حروبها مشفوعة بالاشعار، و التي ضاع معظمها بضياع اشعارها، و اما ما قيل من ان وهب بن منبه، و عبيد بن شرية 3 كانا من مصنفي تأريخ تلك الحقبة الماضية، فلا مناص من القول بان حقيقة عملهما ما كان إلّا تسطير ملحمي، و سرد مشوش، لانهما ما كانا في عملهما إلّا كخابطي عشوة في أكثر ما أورداه.
تلك كانت مشقة الكتابة للعصور السابقة لبداية التوجه نحو كتابة التأريخ، و اما التأريخ الإسلامي، فكما ذكرنا سالفا كان حظه وافرا في كثرة ما كتب عنه، و ما الّف في شأنه، فهناك العشرات من المحاولات المستمرة، و التي حاولت ان تضع لبنات التأريخ الإسلامي و رصّ أسسه في ارض الواقع المعاش، حلّ بأكثرها النسيان و الضياع، أو عدم الالتفات إلى مدى جديتها او
رصانتها العلمية، فبقيت جملة محددة و مشخصة، يذهب معظم الباحثين إلى ان أشهر من كتب في هذا الجانب كانا محمّد بن إسحاق بن يسار (ت 151 ه) و محمّد بن عمر الواقدي (ت 207 ه)، و ان كان قد سبقهما في التصنيف عروة ابن الزبير 4 ، و وهب بن منبه 5 ، بيد ان ندرة او قلة ما وصل بايدي الباحثين و المؤرخين، لم تحدد للاخيرين سيرة متكاملة محددة المعالم، إلّا أن كثرة نقول ابن إسحاق و الواقدي عنهما تبين بوضوح انهما- و بالاخص عروة بن الزبير- كانا قد سبقا في هذا المضمار 6 .
كما ان التأمل في هاتين السيرتين- و اللتين تعدان بلا شك دعامتين مهمتين في تدوين ما عرف بالتأريخ الإسلامي- تبين بوضوح أيضا انهما كانا في احيان كثيرة تابعتين لعروة بن الزبير في تحديد مساريهما، و تثبيتهما للوقائع المهمة، لا سيما فيما يتعلق بالهجرة إلى الحبشة و المدينة، و غزوة بدر و غيرها، و كذا بالنسبة لوهب بن منبه، حيث روى ابن إسحاق عنه القسم الأوّل من السيرة.