کتابخانه روایات شیعه
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
الجزء الأول
[مقدمة المحقق]
مقدّمة [الطبعة الأولى] 1
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
1- نهج البلاغة
اجتمع للإمام عليّ بن أبي طالب من صفات الكمال، و محمود الشمائل و الخلال، و سناء الحسب و باذخ الشرف؛ مع الفطرة النقية، و النفس المرضية، ما لم يتهيأ لغيره من أفذاذ الرجال.
تحدّر من أكرم المناسب، و انتمى إلى أطيب الأعراق؛ فأبوه أبو طالب عظيم المشيخة من قريش. و جدّه عبد المطلب أمير مكّة و سيّد البطحاء؛ ثم هو قبل ذلك من هامات بنى هاشم و أعيانهم؛ و بنو هاشم كانوا كما وصفهم الجاحظ: «ملح الأرض، و زينة الدنيا، و حلى العالم، و السّنام الأضخم، و الكاهل الأعظم؛ و لباب كلّ جوهر كريم، و سرّ كلّ عنصر شريف، و الطينة البيضاء، و المغرس المبارك، و النّصاب الوثيق، و معدن الفهم، و ينبوع العلم ...» 2 .
و اختصّ بقرابته القريبة من الرّسول عليه السلام؛ فكان ابن عمّه، و زوج ابنته، و أحبّ عترته إليه، كما كان كاتب وحيه، و أقرب الناس إلى فصاحته و بلاغته، و أحفظهم لقوله و جوامع كلمه؛ أسلم على يديه صبيّا قبل أن يمسّ قلبه عقيدة سابقة، أو يخالط عقله شوب من شرك موروث؛ و لازمه فتيا يافعا؛ فى غدوّه و رواحه، و سلمه و حربه؛ حتى تخلّق بأخلاقه، و اتّسم بصفاته، وفقه عنه الدين، و ثقف ما نزل به الرّوح الأمين؛ فكان من أفقه أصحابه و أقضاهم، و أحفظهم و أوعاهم؛ و أدقهم في الفتيا؛ و أقربهم إلى الصّواب؛ و حتّى قال فيه عمر: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن. و كانت حياته كلّها مفعمة بالأحداث، مليئة بجلائل الأمور؛ فعلى عهد الرسول عليه السلام ناضل المشركين و اليهود؛ فكان فارس الحلبة و مسعر الميدان، صليب النّبع جميع الفؤاد؛ و في أيّام خلافته كانت له أحداث أخرى؛ لقى فيها ما لقى من تفرّق الكلمة و اختلاف الجماعة، و انفصام العروة؛ ما طوى أضالعه على الهمّ و الأسى، و لاع قلبه بالحزن و الشّجن؛ و في كل ما لقى من أحداث و أمور، و ما صادف من محن و خطوب، بلا الناس و خبرهم، و تفطّن لمطاوى نفوسهم، و استشفّ ما وراء مظاهرهم؛ فكان العالم المجرّب الحكيم، و الناقد الصيرفىّ الخبير.
و كان لطيف الحسّ، نقىّ الجوهر، و ضاء النّفس؛ سليم الذّوق، مستقيم الرأى،
حسن الطريقة، سريع البديهة، حاضر الخاطر؛ حوّلا قلبا؛ عارفا بمهمّات الأمور إصدارا و إيرادا؛ بل كان كما وصفه الحسن البصرىّ: سهما صائبا من مرامى اللّه على عدوّه، و ربانىّ هذه الأمة و ذا فضلها و سابقتها، و ذا قرابتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم؛ لم يكن بالنئومة عن أمر اللّه، و لا بالملومة في دين اللّه، و لا بالسروقة لمال للّه؛ أعطى القرآن عزائمه، ففاز منه برياض مونقة، و أعلام مشرقة، ذاك عليّ بن أبي طالب.
*** كلّ هذه المزايا مجتمعة، و تلك الصفات متآزرة متناصرة؛ و ما صاحبها من نفح إلهىّ، و إلهام قدسىّ، مكّنت للإمام عليّ من وجوه البيان، و ملّكته أعنّة الكلام، و ألهمته أسمى المعاني و أكرمها، و هيّأت له أشرف المواقف و أعزّها، فجرت على لسانه الخطب الرائعة، و الرسائل الجامعة، و الوصايا النافعة، و الكلمة يرسلها عفو الخاطر فتغدو حكمة، و الحديث يلقيه بلا تعمّل و لا إعنات فيصبح مثلا؛ فى أداء محكم، و معنى واضح، و لفظ عذب سائغ؛ و إذا هذا الكلام يملأ السهل و الجبل، و يتنقل في البدو و الحضر؛ يرويه على كثرته الرواة، و يحفظه العلماء و الدارسون؛ قال المسعوديّ: و الذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة و نيّف و ثمانون خطبة؛ يوردها على البديهة؛ تداول عنه الناس ذلك قولا و عملا 3 .
ثمّ ظلّ هكذا محفوظا في الصدور مرويّا على الألسنة، حتى كان عصر التدوين و التأليف؛ فانتثرت خطبه و رسائله في كتب التاريخ و السّير و المغازى و المحاضرات و الأدب
على الخصوص، كما انتخبت كلماته و مأثور حكمه فيما و ضعوه من أبواب المواعظ و الدعاء؛ و في كتابى الغريب لأبى عبيد القاسم بن سلام و ابن قتيبة منه الشيء الكثير
و إذ كان لكلام الإمام عليّ طابع خاصّ يميزه عن غيره من الخطباء، و نهج واضح يخالف غيره من البلغاء و المترسلين؛ فقد حاول كثير من العلماء و الأدباء على مرّ العصور أن يفردوا لكلامه كتبا خاصّة و دواوين مستقلّة؛ بقى بعضها و ذهب الكثير منها على الأيّام؛ منهم نصر بن مزاحم صاحب صفّين، و أبو المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبىّ، و أبو مخنف لوط بن يحيى الأزديّ، و محمّد بن عمر الواقدىّ، و أبو الحسن عليّ بن محمّد، المدائنى، و أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، و أبو الحسن عليّ بن الحسين المسعوديّ، و أبو عبد اللّه محمّد بن سلامة القضاعىّ، و عبد الواحد بن محمّد بن عبد الواحد التميمىّ، و رشيد الدين محمّد بن محمّد المعروف بالوطواط، و عزّ الدين عبد الحميد بن أبي الحديد؛ و غيرهم كثيرون.
إلّا أنّ أعظم هذه المحاولات خطرا، و أعلاها شأنا، و أحسنها أبوابا؛ و أبعدها صيتا و شأوا؛ هو مجموع ما اختاره الشريف الرضىّ أبو الحسن محمّد بن الحسين الموسوىّ؛ في كتابه «نهج البلاغة».