کتابخانه روایات شیعه
الذي أجرى حمده على لسانه. ثم يزداد قوة ذلك المحرك، بحسب اجراء تلك الصفات العظام، حتى إذا آل الأمر الى خاتمتها، أوجب إقباله عليه، و خطابه بحصر العبادة و الاستعانة فيه.
و منها: الاعلام بأن «الحمد» «و الثناء»، ينبغي أن يكون على وجه، يوجب ترقّي الحامد، من حضيض، بعد الحجاب و المغايبة، الى ذروة قرب المشاهدة و المخاطبة.
و منها: الاشارة الى أن العبادة المستطابة و الاستعانة المستجابة، في مقام العبودية، انما يليق بهما، ان تعبد ربك كأنك تراه و تخاطبه.
و منها: الاشارة الى أنه ينبغي أن يكون تالي كلامه سبحانه، بحيث يتجلى له المتكلم فيه، و يصير مشهودا له. فيخاطبه بتخصيص العبادة و الاستعانة به.
كما روي عن الصادق- عليه السلام- 337 ، أنه قال : لقد تجلى اللّه تعالى لعباده 338 في كلامه. و لكن لا يبصرون.
و عنه 339 - أيضا -: انه خرّ مغشيا عليه- و هو في الصلاة- فسئل عن ذلك.
فقال: ما زلت أردد الاية، حتى سمعتها من المتكلم بها.
و الضمير المستكن في الفعلين، للقارئ و من معه، من الحفظة أو حاضري الجماعة، أو له و لسائر الموحدين، أو له، فقط، لاستجماعه القوى و الحواس.
فكان 340 لكل منها عبادة و استعانة. (أو لأن العبادة، وسيلة) 341 .
قيل: أو لوصوله الى مقام الجمع. فيرى العبادات و الاستعانات، كلها،
صادرة عنه.
و تقديم العبادة على الاستعانة، لرعاية الفاصلة. أو لأن العبادة، وسيلة الى الاستعانة، ان كان المراد بها الاستعانة على ما عدا العبادة، من المهمات. و لا شك أن تقديم الوسيلة، أدخل في استيجاب الاجابة، و ان كان المراد بها، الاستعانة على العبادة، أو الاستعانة، مطلقا، بحيث يدخل فيه العبادة، أيضا.
فوجه تقديمها ظاهر، أيضا. لأنها مقصودة بالنسبة الى الاستعانة. و ان كان طلب المعونة على الشيء، مقدّما عليه.
و قيل: لا يبعد أن يجعل العبادة، اشارة الى الفناء في اللّه. لأن غاية الخضوع، هي الرجوع الى العدم الأصلي. و الاستعانة، اشارة الى طلب البقاء، بعد الفناء، لتيسر السير في اللّه. و حينئذ وجه التقديم، ظاهر، كما لا يخفى. و فيه ما لا يخفى.
و انما أطلق الاستعانة، و لم يقيدها بكل مستعان فيه و لا ببعض، ليحتمل الكل، و يحمله القارئ على ما يناسب حاله.
«و قرئ «نستعين»، بكسر النون، و هي لغة تميم. فإنهم يكسرون حروف المضارعة، سوى الياء، إذا لم ينضم ما بعدها» 342 .
«و قيل: الواو للحال. و المعنى نعبدك: مستعينين بك» 343 .
فأقول: لما نسب المتكلم العبادة الى نفسه، أو هم ذلك تبجّحا و اعتدادا منه، بما صدر عنه. فعقّبه بقوله: «و إياك نستعين»، ليدل على أن العبادة: أيضا- مما لا يتم و لا يستتب، الا بمعونة اللّه.
(و في من لا يحضره الفقيه 344 : و فيما ذكره الفضل من العلل عن الرضا-
عليه السلام : إياك نعبد، رغبة و تقرب الى اللّه تعالى ذكره، و اخلاص له بالعمل، دون غيره. و «إياك نستعين»، استزادة من توفيقه و عبادته و استدامة، لما أنعم اللّه عليه و نصره.
و في مجمع البيان 345 : قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه و آله : ان اللّه- تبارك و تعالى- منّ عليّ بفاتحة الكتاب- الى قوله- إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، اخلاص للعبادة.
وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، أفضل ما طلب به العباد، حوائجهم.
و في تفسير العياشي 346 : عن الحسن بن محمد الجمّال، عن بعض أصحابنا، قال : بعث عبد الملك بن مروان الى عامل المدينة، أن وجه الي محمد بن علي بن الحسين و لا تهيجه و لا تروعه. و اقض له حوائجه. و قد كان ورد على عبد الملك، رجل من القدرية. فحضر جميع من كان بالشام. فأعياهم جميعا.
فقال: ما له 347 الا محمد بن علي.
فكتب الى صاحب المدينة، أن يحمل محمد بن علي اليه. فأتاه صاحب المدينة، بكتابه.
فقال له أبو جعفر- عليه السلام-: اني شيخ كبير لا أقوى على الخروج. و هذا جعفر، ابني، يقوم مقامي. فوجهه اليه.
فلما قدم على الأموي ازدراه 348 لصغره. و كره أن يجمع بينه و بين القدري، مخافة أن يغلبه. و تسامع الناس، بالشام، بقدوم جعفر، لمخاصمة القدري. فلما كان من الغد، اجتمع الناس، لخصومتهما.
فقال الأموي لأبي عبد اللّه- عليه السلام: انه قد أعيانا، أمر هذا القدري. و انما كتبت اليك لأجمع بينك و بينه. فانه لم يدع عندنا أحدا، الا خصمه.
فقال: ان اللّه يكفيناه.
[قال:] 349 فلما اجتمعوا قال القدري لأبي عبد اللّه- عليه السلام: سل عما شئت! فقال له: اقرأ سورة الحمد! قال: فقرأها. فقال الأموي- أنا معه: ما في سورة الحمد علينا. إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. [قال:] 350 فجعل القدري يقرأ سورة الحمد، حتى بلغ قول اللّه- تبارك و تعالى- إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .
فقال له جعفر- عليه السلام: قف! بمن تستعين؟ و ما حاجتك الى المعونة؟
ان الأمر اليك. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 351 .
و في كتاب الاحتجاج، للطبرسي 352 - رحمه اللّه- حديث عن النبي- صلى اللّه عليه و آله- و فيه: يقول لأصحابه : قولوا! إياك نعبد، أي: [نعبد] 353 وحدك 354 . و لا نقول كما قالت الدهرية: ان الأشياء لا بدء لها، و هي دائمة. و لا كما قالت الثنوية «الذين قالوا» 355 : ان النور و الظلمة، هما المدبران. و لا كما قال مشركو العرب: ان أوثاننا، آلهة.
فلا نشرك بك شيئا. و لا ندعو من دونك إلها كما يقول هؤلاء الكفار، «و لا
كما تقول النصارى و اليهود» 356 ، ان لك ولدا. تعاليت عن ذلك «علوا كبيرا» 357 .
و في شرح الآيات الباهرة: قال الامام 358 - عليه السلام : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال: قال اللّه تعالى: قولوا أيها الخلق المنعم عليهم: إِيَّاكَ نَعْبُدُ أيها المنعم علينا. و نطيعك مخلصين، مع التذلل و الخضوع، بلا رياء و لا سمعة. و إياك نستعين، منك نسأل المعونة على طاعتك، لنؤديها كما أمرت. و نتّقي من دنيانا، ما «عنه نهيت» 359 . و نعتصم من الشيطان [الرجيم] 360 و من سائر مردة [الجن و] 361 الانس، المضلين و [من] 362 المؤذين الظالمين، بعصمتك) 363 .
(و في الحديث 364 : إذا قال العبد: إياك نعبد، قال اللّه: صدق عبدي، اياي يعبد. أشهدكم، لأثيبه على عبادته، ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي.
فإذا قال: و إياك نستعين، قال اللّه: بي استعان. و الي التجأ. أشهدكم «لأعيننّه في شدائده 365 و لآخذن بيده، يوم نوائبه) 366 .
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ : بيان للمعونة المطلوبة، أو افراد، لما هو المقصود الأعظم.
و «الهداية»: دلالة، بلطف. و لذلك يستعمل في الخير. فقوله تعالى:
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ 367 ، على التهكّم. و منه «الهداية»، و هوادي الوحش لمقدماتها. و الفعل منه هدى. و أصله أن يعدى باللام و «الى». فعومل معه، معاملة «أختار»، في قوله تعالى: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ 368 369 .
و من هنا يظهر أن لا فرق بين المتعدي بنفسه و المتعدي بالحرف.
لكن، نقل عن صاحب الكشاف: أن هداه لكذا و الى كذا، انما يقال: إذا لم يكن في ذلك فيصل بالهداية اليه. و هداه كذا، لمن يكون فيه. (فيزداد أو يثبت و لمن لا يكون فيصل. و قد يقال لا نزاع في الاستعمالات الثلاث، الا أن منهم، من فرق بأن معنى المتعدي بنفسه، هو الإيصال الى المطلوب، و لا يكون الا فعل اللّه. فلا يسند الا اليه. كقوله: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا 370 . و معنى المتعدي بحرف الجر، هو الدلالة على ما يوصل اليه. فيسند تارة الى القرآن و أخرى الى النبي- صلى اللّه عليه و آله-.
«قيل» 371 و هداية اللّه تعالى، تتنوع أنواعا. لا يحصيها عدّ. لكنها تنحصر في أجناس مترتبة:
الأول- افاضة القوى التي يتمكن بها من العبد، الاهتداء الى مصالحه، كالقوى العقلية و الحواس الباطنة و المشاعر الظاهرة.
و الثاني- نصب الدلائل الفارقة، بين الحق و الباطل، و الصلاح و الفساد.
و الثالث- الهداية بإرسال الرسل و انزال الكتب.
الرابع- أن يكشف على قلوبهم السرائر. و يريهم الأشياء، كما هي، بالوحي
و المنامات الصادقة. و هذا القسم يختص بنيله الأنبياء و الأولياء.
و طلب الهداية و غيرها، من المطالب قد يكون بلسان القول. و قد يكون بلسان الاستعداد. فما يكون بلسان الاستعداد، لا يتخلف عنه المطلوب. و ما يكون بلسان القول و وافقه الاستعداد، استجيب. و الا فلا.
فان قلت: فعلى هذا، لا حاجة الى لسان القول.
قلت: يمكن أن يحصل في بعض استعداد المطلوب، من الطلب بلسان القول.
فالاحتياط أن لا يترك الطالب الطلب، بلسان القول. فبالنسبة الى بعض المراتب، يطلب بلسان الاستعداد، و في بعضها بلسان القول- انتهى كلامه.
و طلب الهداية، بعد الاهتداء، فان من خصص «الحمد»، باللّه سبحانه.
و أجرى عليه تلك الصفات العظام. و حصر العبادة و الاستعانة فيه، كان مهتديا، محمول على طلب زيادة الهداية أو الثبات عليها.
و قيل: إذا كان السالك، في مقام السير الى اللّه، و لم يصل الى مطلوبه، فلا شك أن بينه و بين مطلوبه، مسافة، ينبغي أن يقطعها، حتى يصل اليه، فلا بد له من طلب الهداية، ليقطع تلك المسافة. و إذا كان في السير في اللّه، فليس لمطلوبه نهاية. و لا ينتهي سيره أبد الآبدين، فلا بد له- أيضا- من طلب الهداية.
و لا يخفى عليك، أن هذا و ما سبق من التأويل و ما سيأتي منه مبني على ما ذهب اليه الصوفية، من الأصول الفاسدة. و الغرض من نقله، الاطلاع على فساده.
فبالجملة، لا بد من طلبها، و ان كانت حاصلة في بعض المراتب. و هذه الصيغة، موضوعة لطلب الفعل، مطلقا. لكنه من الأعلى أمر، و من الأدنى دعاء، و من المساوي التماس. و اعتبر بعضهم في الامر الاستعلاء، و في الدعاء التضرع، و في الالتماس عدمهما.