کتابخانه روایات شیعه
و وصّاه به، و قال له: يا بني هذا فضل من اللّه عليك و منحة و هدية مني إليك الهمنيه في أمرك و هو ابن أخيك لأبيك و أمّك دون ساير اخوانك ثم اطلعه على مكنون سر علمه و دلائله و أخبره بما بشّر به عن الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليهم، و ما رواه فيه أفاضل الأحبار، و عبّاد الرهبان، و أقيال العرب و كهّان العجم.
و لم يكن لأبي طالب يومئذ ولد، و كان فردا وحيدا، امرأته فاطمة بنت أسد بن هاشم ابن عبد مناف بنت عمه و كانت ممنوعة من الولد تنذر لذلك النذور، و تتقرّب الى الأصنام و تستشفع بالأزلام الى الرحمن و تعتر العتائر، و تضخ وجوه الأصنام، بذكي المسك و خالص العنبر، تطلب الولد. و كانت كلّما لقيت كاهنا أو حبرا عالما من السدنة بشّرها انها تبتني ولدا لم تلده و تربيه و يأمرها إذا رزقته أن تضمّه و تكنفه و تحفظه و لا تبعده فتسألهم أن يسمّوه و يصفوه لها فيقولون ذاك نور منير بشير نذير مبارك في صغره منبئ في كبره، يوضح السبيل، و يختم الرسل، يبعث بالدين الفاضل و يزهق العمل الباطل، يظهر من أفعاله السداد و يتبيّن باتّباعه الرشاد، و ينهج اللّه له الهدى، و يبيّن به التقى.
فكانت فاطمة بنت أسد ترقب ذلك و تنتظره. فلما طال انتظارها، و ذهل اصطبارها، أنشأت تقول:
طال الترقّب للميعاد إذ عدمت
مني الحوائل ولدا من عناصيري
لما أتيت الى الكهّان بشّرني
عند السؤال عليم بالمخابير
فقال يوعدني و الدمع مبتدر
يا فاطم انتظري خير التباشير
نورا منيرا به الأنباء قد شهدت
و الكتب تنطق عن شرح المزامير
انى بذاك فقد طال الطلاع الى
وجه المبارك يزهو في الدياجير
فلما مات عبد المطلب كفل أبو طالب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأحسن كفالة، و حن عليه، و دأب في حياطته و تمسّك به و التحف عليه و عطف على جوانبه.
و كان أبو طالب محترما معظّما كشّافا للكروب غير هذر و لا مكثار و لا عاق بل بر وصول، جواد بما يملك، سمح بما يقدر، لا يثنيه عن مبادرة الخطاب وجل، و لا يدركه لدى الخصام ملل، فشغف برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شغفا شديدا. و ولهت بحبّه فاطمة بنت أسد
و ذهلت بمحبته و دلاله التي وعدت بها فكانت تقول: و إله السماء لقد قبل نذري و شكر سعيي و أجيبت دعوتي، لأنزلن محمّدا من قلبي منزلة صميم الاحشاء و لألهون برؤيته عن كلّ نظرائه، و من أولى بذلك ممّن أعطي مثله، و ليس هذا من أمر الخلق بل هو من عند الإله العظيم.
فكانت قد جعلته صلّى اللّه عليه و آله نصب عينها ان غاب لحظة لم يغب عنها مثاله و لم يفقد شخصه و تذهل حتى تحضره فتشتغل بتغذيته و غسله و تنظيفه و تلبيسه و تدهينه و تعطيره و اصلاح شأنه و تعاهد ارضاعه بالنهار فإذا كان بالليل اشتغلت بفرشه و نومه و توسيده و تمهيده و تعوّذه و تنيمه
قال: و كانت في دار أبي طالب نخلة منعوتة بكثرة الحمل موصوفة بالرّقة و عذوبة الطعم شهية المضغ يعقب طعمها رايحة طيبة عطرية كرائحة الزعفران المذاب بالعسل، كثيرة اللحا قليلة السحا، دقيقة النوى فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأتي إليها كلّ غداة مع أتراب له منهم أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ابن عمه و أبو سلمة بن عبد الأسد و مشروح بن نويبة فيلتقطون ما يتساقط تحتها من ثمرها بهبوب الرياح و وقوع الطير و نقره.
و كانت فاطمة بنت أسد لا ترى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يسابق اترابه على البسر و البلح و الرطب في أوانه، و كان الغلمة يبادرون لذلك و هو- عليه السّلام- يمشي بينهم و عليه السكينة و الوقار بتواضع و ابتسام و يتعجب من حرصهم و عجلتهم، فكان ان وجد شيئا ساقطا بعدهم أخذه و إلّا انصرف بوجه منبسط طلق و بشر حسن.
فكانت فاطمة تعجب من شدّة حيائه و طيب شأنه و رقّة قلبه و سرعة دمعته و كثرة رخمته، فربما جمعت له من تمر النخلة قبل مجيئهم فاذا أقبل صلّى اللّه عليه و آله قدّمته إليه، فيحبّ أن يأكله معهم.
قالت فاطمة: و دخل على أترابه يوما و أنا مضطجعة و لم أره معهم فقلت: اين محمد؟.
قالوا: مع عمّه أبي طالب وراءنا.
فسكنت نفسي قليلا، و لقط الغلمان ما كان تحت النخلة. و جاء بعدهم محمّد فلم ير تحتها شيئا، فصار إليها و وقف تحتها، و كانت باسقة، فأومأ بيده إليها، فانثنت بعراجينها حتى كادت تلحق بثمارها الأرض، فلقط منها ما أراد ثم رفع يده و أومأ إليها، فرجعت، و حسبني راقدة.
قالت: و كنت مضطجعة، فلما رأيت ذلك استطير في روعي، و لم أملك نفسي فأتيت أبا طالب فخلوت به، فقلت له: كان من أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله كيت و كيت.
فقال: مهلا يا فاطمة لا تذكري من هذا شيئا فانّه حلم و أضغاث.
فقلت: كلا و اللّه، بل هو حقّ يقين في يقظة لا في نوم، و رأي العين لا رؤيا، و اني لأرجو اللّه أن يحقّق ظنّي فيه و ان يكون الذي بشّرت بتربيته و وعدت الفوز عند كفالته.
فكانت فاطمة لا تفارق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ليل و لا نهار، و لا تغفل عنه و عن خدمته و تفقّد مطعمه فكان صلّى اللّه عليه و آله يسمّيها أمي، و هجرت الأصنام، و قطّعت القربان إليها من الذبائح في الأعياد تسأل الولد. و تسلّت برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و التبني له و خدمته عن كلّ شيء. فلما قطعت عادتها، وجد عليها السدنة من ذلك و منعوها من الدخول على الصنم الأعظم، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يحضر قريشا في مشاهدهم كلّها غير السجود للأصنام، و الذبائح للأنصاب، و في حال شرب الخمر و وصف الشعر، و قول الزور، فانّه كان يجتنبهم مذ كان طفلا حتى استكمل فدخل يوما على سادن من سدنة الأصنام، فقال له: لم تعتب على أمي فاطمة و تمنعها من زيارة هذه الأحجار المؤثرة فينا الاعتبار؟.
فقال له السادن: لأنها أتت بأمور متشابهة، و قطعت بر الآلهة، و هي لمن عبدها نافعة، و لمن جاء إليها شافعة، و ستعلم ابنة أسد انها لا ترزقها ولدا.
فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أ أصنام ترزقكم الولدان، و تأتيكم بالغيث عند المحل في السنوات الشداد؟.
قال له السادن: نعم! أو ما علمت نحن نحمد ذلك عند الأصنام عاجلا في الفاقة و آجلا مدّخرا.
و التفت الى السدنة فقال: هذا غلام مات أبوه و جدّه و امّه و ظئره و هو طفل فكفله من لا يعبأ به و لا يدلّه على رشده- و هو عمّه و امرأة عمّه.
فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله: فأخبرني عن هذه الأصنام من خلقها و من ابتدع الامم السالفة و رزقها؟.
قال السادن: اللّه فعل ذلك، و هو لجميع الخلق مالك.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فان أمي تجعل قربانها للّه الحي القائم القديم فهو أحقّ من الأصنام.
ثم انطلق الى فاطمة من ساعته و حدّثها بما جرى بينه و بين السادن و قال لها: قرّبي إلى اللّه قربانك.
فاصطفت القربان و قالت: هذا للّه خالصا .. جعلته ذخرا .. قبلته من محمّد حبيبي.
فما أصبحت من ليلتها حتى اكتست حسنا الى حسنها و جمالا إلى جمالها.
فحملت فولدت عقيلا ثم حملت فولدت طالبا ثم حملت فولدت جعفرا، و كان وجهها في كلّ يوم يزداد نورا و ضياء لما حملت بأزكاهم و أطهرهم و أبرّهم و أرضاهم عليّ، فولدته و نالها في ولادته بعض الصعوبة ثم جاءت به الى بيت أبيه حتى حنكه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وضعه في حجره و قمطه في حضنه قبل كلّ أحد من الناس.
ثم رزقت بعد علي أم هاني و اسمها فاختة و هي المباركة الطيبة اخت الطاهرين من ولد أبيها أبي طالب.
مولد علي عليه السّلام
و كانت فاطمة حملت بعلي عليه السّلام في عشر ذي الحجة و ولدته في النصف من شهر رمضان، و حملت به أيام الموسم. و بعد حملها بخمسة أيام كانت جالسة و قد كسيت نورا و جمالا، و وجهها يزهر، و جبهتها تتلألأ بين الأكارم من الفواطم من قريش، منهنّ فاطمة بنت عمرو بن عائذ جدّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأبيه، و فاطمة بنت زائرة بن الأصم أم خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت عبد اللّه بن ورام، و فاطمة بنت الحرث بن عكرمة، و ممّن لم
يحضرن و يلحقن من الفواطم اللواتي يقربن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من علي عليه السّلام بالنسب و اللحمة: فاطمة بنت النضر أم ولد قصي. فانهنّ لجلوس يتفاخرن بالذراري و الأولاد إذ أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان وجهه المرآة مصقولة و المهاة مجلوة ينثني كغصن مياد و قد تبعه بعض الكهان ينظر إليه نظرا شافيا.
فجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى فاطمة أم علي بين العجائز من الفواطم و جلس الكاهن بازائه لا يمر به كاهن مثله و لا حبر و لا قايف و لا عايف إلّا همس إليه و غمزه و استوقفه، ينظرون إليه فبعض يشير إليه بسبّابته و بعض يعضّ على شفته.
فغاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقيامه و دخل الى منزل عند عمّه.
فقال الكاهن للعجائز: من هذا الفتى الذي قد زها بحسنه على كلّ الفتيان و الرجال و النساء؟.
قالوا: هذا المحبّب في قومه محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطلب ذو الفضل و العرف و السؤدد فقال الكاهن: يا معشر قريش ايذنوا بالحرب، بعد الهرب، من سيف النبيّ المنتجب، الويل منه للعرب و للأصنام و النصب.
ثم نادى: يا أهل الموسم الحافل، و الجمع الشامل، قرب ظهور الدين الكامل، و مبعث النبيّ الفاضل، ثم أنشأ يقول:
اني رأيت نبيّا ما كنت أعرفه
حقا تيقنه قلبي باثبات
في الكتب أنزله لما تخيره
و كنت أعرف ما في شرح توراة
من فضل أحمد من كالبدر طلعته
يزهو جمالا على كلّ البريات
من أمّة عصمت من كلّ خائنة
و صار مجتنبا رجس الخسارات
ما زلت أرمقه من حسن بهجته
كالشمس من برجها تبدي الطليعات
فان بقيت الى يوم السباق و قد
نادى قريشا لتبليغ الرسالات
كنت المجيب له لبيك من كتب
أنت المفضّل من خير البريات
يا خير من حملت حواء أو وضعت
من أوّل الدهر في رجع الكريرات
قد كنت أرقب هذا قبل فجوته
حتى تلمسته قبضا براحات
فاليوم أدركت غنما كنت أرقبه
من عند ربّي جبار السموات
فيا لها فرحة يعتادها نجح
لما حبيت بتحبير التحيات
فكيف ينزل من نال الرياح و من
أهدى له موهب من خير خيرات
ذاك النبيّ الذي لا شك منتجب
جبريل يقصده بالوحي تارات
في كلّ يوم بوحي اللّه يمنحه
ينبيه عن كلّ معلوم الدلالات
قال: فقالت فاطمة بنت أسد: فرأيت حبرا منهم يسمع شعر الكاهن و دموعه تسحّ على خدّيه فتبعته فقلت له: أقسمت عليك بدينك و سفرك و كتابك لتخبرني بالأمر على حقيقته، فان الحكيم لا يكتم من استنصحه نصيحة يقوي بها بصيرته.
فنظر الحبر الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نظرا مستقصيا ثم قال: و اللّه هذا غلام همام، آباؤه كرام، يكفله الأعمام، دينه الاسلام، شريعته الصلاة و الصيام، تظلّه الغمام، يجلي بوجهه الظلام، من كفله رشد، و من أرضعه سعد، و هو للأنام سند، يبقى ذكره ما بقي الأبد.
ثم ذكر كفالة أبي طالب إيّاه و عدّد سيرته و خاتمة أمره و عقباه.
ثم قال: و تكفله منكم امرأة تطلب بذلك زيادة العدد فسيكون هذا المبارك المحمود لها في طيب الغرس أفضل ولد.
قالت: فقلت له: لقد أصبت فيما وصفت الى حيث انتهيت، و قلت الحق عند ما شرحت، انا المرأة التي أكفله، زوجة عمّه الذي يرجوه و يؤمله.
فقال لها: ان كنت صادقة فستلدين غلاما، رابع أربعة من أولادك شجاعا قمقاما عالما إماما مطواعا همّاما، بدينه قوّاما، لربّه مصلّيا صوّاما، غير خرق و لا نزق و لا أحيف و لا جنف، اسمه على ثلاثة أحرف، يلي هذا النبي في جميع أموره، و يواسيه في قليله و كثيره، يكون سيفه على أعدائه، و بابه الذي يؤتى منه الى أوليائه، يقصع في جهاده الكفّار قصعا، و يدع أهل النكث و الغدر و النفاق دعا، يفرّج عن وجه نبيّه الكربات، و تجلي به دياجر حندس الغمرات، أقربهم منه رحما، و أمسهم لحما، و أسخاهم كفّا، و أنداهم يدا، يصاهره على أفضل كريمة، و يقيه بنفسه في أوقات شدّته، تعجب من صبره ملائكة الحجاب إذا قهر أهل الشرك بالطعن و الضراب، يهاب صوته أطفال المهاد، و ترعد
من خيفته الفرائص يوم الجلاد، مناقبه معروفة، و فضائله مشهورة، هزبر دفاع، شديد مناع، مقدام كرّار، مصدّق غير فرّار، أحمش الساقين، غليظ الساعدين، عريض المنكبين، رحب الذراعين، شرّفه اللّه بأمينه، و اختصه لدينه، و استودعه سرّه، و استحفظه علمه، عماد دينه، و مظهر شريعته، يصول على الملحدين، و يغيظ اللّه به المنافقين، ينال شرف الخيرات، و يبلغ معالي الدرجات، يجاهد بغير شكّ، و يؤمن من غير شرك، له بهذا الرسول وصلة منيعة، و منزلة رفيعة، يزوّجه ابنته، و يكون من صلبه ذرّيته، يقوم بسنّته، و يتولّى دفنه في حفرته، قائد جيشه، و الساقي من حوضه، و المهاجر معه عن وطنه الباذل دونه دمه، سيصح لك ما ذكرت من دلالته إذا رزقتيه، و ترين ما قلته فيه عيانا كما صح لي دلائل محمّد المحمود باللّه، ان ما وصفته من امرهما موجود مذكور في الأسفار و الزبور، و صحف إبراهيم و موسى، ثم أنشأ يقول:
لا تعجبي من مقالي سوف تختبري
عمّا قليل ترين القول قد وضحا
أما النبي الذي قد كنت أذكره
فاللّه يعلم ما قولي له مزحا
يأوي الرشاد إليه مثل ما سكنت
أمّ الى ولد إذ صادفت نجحا
ثم المؤازر و الموصى إليه اذا
تتابع الصيد من أطرافه كلحا
فأحمد المصطفى يعطيه رايته
يحبوه بابنته يا خير ما منحا
بذاك أخبرنا في الكتب اولنا
و الجن تسترق الأسماع متّضحا