کتابخانه روایات شیعه
بما جرت عليه العوائد الفاسدة، و أن اردت العمل في ذلك بكتاب اللّه جل جلاله و سنة رسوله صلّى اللّه عليه و آله فهذا أمر لا يحتمله من في دارك و لا مماليكك و لا خدمك و لا حشمك و لا ملوك الاطراف، و يقال لك اذا سلكت سبيل العدل و الانصاف و الزهد: أن هذا علي بن طاووس علوي حسني ما أراد بهذه الأمور الا ان يعرف أهل الدهور أن الخلافة لو كانت اليهم كانوا على هذه القاعدة من السيرة، و ان في ذلك ردا على الخلفاء من سلفك و طعنا عليهم.
و هكذا يبدو بوضوح لا يقبل الخفاء عظم المنزلة التي يتمتع بها السيد رحمه اللّه، و أثر التربية العالية، و النشأة الطاهرة له.
و لا غرو في ذلك، فلا يخفى على أحد عمق الاثر التربوي الذي يخلفه الانحدار الأسري الطيب، اذا اقترن بالجد و الاجتهاد لا بالتواكل و الاسترزاق كدأب البعض، حيث يكون هذا الانحدار المشرف حافزا قويا للانطلاق أكثر نحو آفاق الشرف و العز.
فعائلة آل طاووس تعد من الأسر الجليلة العريقة التي حازت على الكثير من أوسمة الفخر و الشرف و العلياء، و تعد من بيوتات الحلة التي كان لها الفضل الكبير في رفد حركة النهضة العلميّة التي شهدتها هذه المدينة و خصوصا بعد انحسار الهجوم المغولي الذي أدى الى سقوط مدينة بغداد مركز الخلافة الاسلامية و حاضرة العالم الاسلامي الكبرى، و ما ترتب على ذلك من مجازر رهيبة أستباح فيها المغول كل شيء و لم يراعوا حرمة شيء، و حيث كان نصيب المراكز العلميّة و الفكريّة- التي كانت قبلة لجميع طلبة العلم في اصقاع المعمورة- الثقل الاكبر، و النصيب الاوفر، بل و يكفي أن نورد ما ذكره بعض المؤرخين عن ذلك، حيث قال: تراكمت الكتب التي ألقاها التتار في نهر دجلة حتى صارت معبرا يعبر عليه الناس و الدواب و اسودت مياه دجلة بما القي فيها من الكتب!!!
و الحق يقال ان عظم هذه المأساة الكبرى التي خلفها اكتساح المغول المتوحشين لحواظر العالم الاسلامي و خصوصا بغداد كان اكبر من أن يوصف أو أن يتصور، و ما كان الحال الذي آلت اليه الدولة الاسلامية العظيمة التي بلغت دعوتها أقاصي المعمورة، و داست سنابك خيولها المباركة الأبعاد النائية، إلّا نتيجة منطقية لحالة التفسخ و الانحراف الذي أصاب مركز الخلافة الاسلامية، و تشجيع الدولة لمظاهر التفرقة الطائفيّة، و اطلاقها لايدي المماليك في شؤون الدولة يعيثون فيها فسادا و تخريبا.
و من هنا فقد كانت المعادلة غير متوازنة بين القوتين المتصارعتين، بين المغول الاشداد المتمرسين على القتال و الكثيري العدّة و العدد، و بين الخلافة المهزوزة و المنشغلة بفتنها و لهوها و ابتعاد عموم المسلمين عنها و عدم ايمانهم بشرعيتها.
اذن لقد كانت النتيجة محسومة سلفا، بيد ان هذا الامر لم يكن ليدركه أو ليقدره المستعصم القصير النظر، و المتأثر الى حد كبير بما يمليه عليه افراد حاشيته و مستشاريه من المماليك و الجهلة، ممن لا يصيخون للحق سمعا، و لا للعقل انصاتا.
و لقد كانت الصورة واضحة بينة امام ناظري رجالات الشيعة و وجوهها، و كانوا يدركون فداحة الخطب الذي ستؤول اليه الامور بعد سقوط مركز الحكم الاسلامي في بغداد، فقدموا النصح المخلص المتوالي للخليفة و رجاله ممن يمتلكون ظلما ناصية الدولة الاسلامية، فأولوا من قبل الدولة و رجالها آذانا صماء و إعراضا متعمدا، كانت نتيجته ما كان مما حدثنا به التأريخ بشكل واسع و مفصّل.
و لما ادرك علماء الشيعة اصرار الخليفة العباسي على موقفه الجاهل و غير المتبصر، و ما عاينوه من الاهوال الكبيرة التي احاطت بالعاصمة الاسلامية
و الخراب الذي اخذ يضرب بأطنابه في اطراف الدولة ادركوا بان الامر- اذا تم التأمل فيه- كان يستدعي المبادرة الى انقاذ ما يمكن انقاذه من الدمار و الخراب الحتمي، و رفع السيف عن رقاب المسلمين، و دفع الانتهاك عن اعراضهم، و كان لابد لمدينة الحلة ان تبادر فورا الى اتخاذ ذلك الموقف السليم، لما كانت تعج به آنذاك من كبار رجالات الشيعة و علمائهم امثال: المحقق الحلّي، و السيد ابن طاووس، و الامام سديد الدين يوسف بن علي والد العلامة الحلّي و غيرهم، و حيث اتفقوا على الكتابة الى هولاكو كتابا يطلبون فيه الأمان لمدينة الحلة و ما يحيطها، في محاولة اخيرة منهم لا يقاف نزيف الدم الكبير الذي صبغ ارض الدولة الاسلامية نتيجة جهل الخلافة في بغداد، و العمل على صرف توجه المغول لاجتياح باقي مدن العراق، التي هي بلا شك عاجزة امامهم عن فعل اي شيء.
و بالفعل فقد تشكلت عدة وفود لمقابلة هولاكو و التباحث معه حول السلام و حول ايقاف المجازر المهولة التي حلت بالمسلمين، كان آخرها- و هو اعظمها- برئاسة السيد ابن طاووس رحمه اللّه، و حيث افلح هذا التدبير في ايقاف الهجوم المغولي، و انقاذ ما امكن انقاذه من الانفس و الاعراض و الاموال.
و لما استقرت الأمور بعد انحسار المد المغولي الهائج تفرغ السيد ابن طاووس رحمه اللّه الى البحث و التأليف و التدريس، حتى ولي في عام 661 ه نقابة الطالبيين التي استمر بها حتى وفاته في صباح اليوم الخامس من شهر ذي القعدة عام 664 ه، و حيث حمل جثمانه الطاهر الى مشهد جده أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام في النجف الاشرف على أصح الاقوال 1 ،
و حيث يؤكده ما رواه هو عن ذلك في كتابه الموسوم بفلاح السائل، حيث يقول:
و قد كنت مضيت بنفسي و أشرت الى من حفر لي قبرا كما اخترته في جوار جدي و مولاي علي بن ابي طالب عليه السّلام متضيفا و مستجيرا و وافدا و سائلا و آملا، متوسلا بكل ما يتوسل به احد من الخلائق اليه، و جعلته تحت قدمي والديّ رضوان اللّه عليهما، لاني وجدت اللّه جل جلاله يأمرني بخفض الجناح لهما و يوصيني بالاحسان اليهما، فأردت أن يكون رأسي مهما بقيت في القبور تحت قدميهما.
كما ان صاحب الحوادث الجامعة- المعاصر لتلك الفترة- يذكر في حوادث سنة 664 ه ما نصه:
و فيه توفي السيد النقيب الطاهر رضي الدين علي بن طاووس و حمل الى مشهد جده علي بن ابي طالب عليه السّلام ...
ما قيل عنه رحمه اللّه تعالى:
1- قال العلامة الحلّي عنه: السيد السند رضي الدين علي بن موسى بن طاووس كان من اعبد من رأيناه من أهل زمانه.
و قال في اجازته لبني زهرة: و من ذلك جميع ما صنفه السيدان الكبيران السعيدان رضي الدين علي و جمال الدين احمد ابنا موسى بن طاووس الحسنيان
قدس اللّه روحهما و روياه و اجيز لهما روايته عني عنهما، و هذان السيدان زاهدان عابدان ورعان، و كان رضي الدين علي صاحب كرامات حكي لي بعضها و روى لي والدي البعض الآخر 2 .
2- و قال عنه ايضا: السيد رضي الدين كان ازهد اهل زمانه 3 .
3- و اما ابن عنبة فقد قال عنه في عمدة الطالب: و رضي الدين ابو القاسم علي السيد الزاهد، صاحب الكرامات، نقيب النقباء بالعراق 4 .
4- و عن خط للشهيد روى المجلسي في البحار عنه ما نصه: صاحب الكرامات ... لم يزل على قدم الخير و الآداب و العبادات و التنزّه عن الدنيات الى ان توفي 5 .
5- و وصفه العلّامة المجلسي في البحار بقوله: السيّد النقيب الثقة الزاهد جمال العارفين 6 .
6- و أثنى عليه الشيخ الحر العاملي في أمل الآمل بقوله: حاله في العلم و الفضل و العبادة و الفقه و الجلالة و الورع أشهر من أن يذكر، و كان ايضا شاعرا أديبا منشئا بليغا 7 .
7- و قال عنه صاحب نقد الرجال السيّد التفريشي: من أجلّاء هذه الطائفة و ثقاتها، جليل القدر، عظيم المنزلة، كثير الحفظ، نقي الكلام، حاله في العبادة و الزهد أشهر من ان يذكر. 8 ..
8- و أمّا الشيخ أسد اللّه الدزفولي فقد قال عنه في مقابس الأنوار: السيّد السند، المعظّم المعتمد. العالم العابد الزاهد، الطيّب الطاهر، مالك أزمّة المناقب و المفاخر، صاحب الدعوات و المقامات و المكاشفات و الكرامات، مظهر الفيض السنيّ، و اللطف الجليّ، أبي القاسم رضي الدين علي، بوأه اللّه تحت ظله العرشي، و أنزل عليه بركاته كلّ غداة و عشي. 9 ..
9- و قال متحدثا عنه الشيخ النوري في خاتمة المستدرك: السيّد الأجل الأكمل الاسعد الاورع الازهد، صاحب الكرامات الباهرة رضي الدين أبو القاسم و ابو الحسن علي بن سعد الدين موسى بن جعفر آل طاووس، الذي ما اتفقت كلمة الاصحاب على اختلاف مشاربهم و طريقتهم على صدور الكرامات عن أحد ممن تقدمه أو تأخر عنه غيره 10 .
و قال ايضا: و كان رحمه اللّه من عظماء المعظّمين لشعائر اللّه تعالى، لا يذكر في أحد من تصانيفه الاسم المبارك إلّا و يعقبه بقوله جل جلاله 11 .
10- و في روضات الجنّات يقول عنه الخوانساري: من جملة العبدة الزهدة المستجابي الدعوة بنص الموافقين لنا و المخالفين، و منها كونه في فصاحة المنطق و بلاغة الكلام بحيث تشتبه كثيرا عبارات دعواته الملهمة، و زياراته الملقمة بعبارات اهل بيت العصمة عليهم السّلام 12 .
11- و امّا المحدث القمّي فقد ذكره في كتابه الكنى و الالقاب بقوله:
السيد الأجل الأورع الأزهد، قدوة العارفين. 13 ..
12- و في ريحانة الادب قال محمد علي مدرس في حديثه عنه: من أعاظم علماء الشيعة الامامية و فحولها، عالم جليل القدر، عظيم المنزلة، اديب شاعر، منشىء، بليغ، عابد، زاهد، متقي، جامع الفضائل و الكمالات العالية، المتخلّي من الصفات الرذيلة، المتحلّي بالاخلاق الفاضلة، المتجلّي باتيان الوظائف الشرعية، أورع أهل زمانه و أتقاها و ازهدها و اعبدها، الموصوف في كلمات اجلّة العلماء ب (قدوة العارفين و مصباح المتهجدين) .. 14 ..
مؤلّفاته:
لقد كانت حياة السيّد ابن طاووس رحمه اللّه غنية معطاءة خصبة، أعطت الأمة الشيء الكثير و لم تبخل عليها بشيء، و تلك هي حال الرجال الذين اوقفوا أنفسهم و علمهم على خدمة هذا الدين الحنيف، و بقوا حتى اللحظات الاخيرة من حياتهم مركزا للعطاء و الخير، و هو ما نراه متكررا كثيرا لدى علماء الطائفة و مفكريها رفع اللّه شأنهم.
و الحق يقال أنّ السيّد ابن طاووس رحمه اللّه و رغم كل ما احاط به من أعباء كثيرة و شاقة، فقد كان مؤلّفا مكثارا، و كاتبا قديرا، خلّف من بعده الكثير من المؤلّفات القيّمة التي بلغ ما وصلنا منها العشرات في حين لم ترد اسماء الكثير من تلك المصنّفات لضياعها، و التي لو وصلتنا لكانت بلا شك خير زاد يتقوّت به طلاب العلم، و عموم المسلمين. و حقيقة وجود هذه المجاميع من الكتب المجهولة يؤكدها السيّد رحمه اللّه في أحد مؤلفاته و هو كتاب الاجازات المعروف، حيث يقول: