کتابخانه تفاسیر
من هدى القرآن
الجزء الأول
سورة البقرة
سورة آل عمران
الجزء الثاني
سورة النساء
سورة المائدة
الجزء الثالث
سورة الانعام
سورة الأعراف
الجزء الرابع
سورة الأنفال
سورة التوبة
سورة يونس
الجزء الخامس
سوره هود
سورة يوسف
سورة الرعد
سورة إبراهيم
الجزء السادس
سورة النحل
سورة الإسراء
سورة الكهف
المجلد السابع
سوره مريم
سورة طه
سورة الأنبياء
الجزء الثامن
سورة الحج
سورة المؤمنون
سورة النور
الجزء التاسع
سورة شعراء
الجزء العاشر
الجزء الحادي عشر
الجزء الثاني عشر
الجزء الثالث عشر
الجزء الرابع عشر
الجزء الخامس عشر
الجزء السادس عشر
من هدى القرآن، ج10، ص: 441
صورتان لحضارتين
هدى من الآيات:
يبدو أنّ سورة سبأ تتمحور حول علاقة الإنسان بالحضارة، حيث تعرض آياتها نموذجين منها، يتمثل الأوّل في قصة آل داود الذين اتخذوا الملك وسيلة لعمارة الأرض، و إصلاح الناس، و شكر اللّه، و يتمثل الثاني في قصة سبأ و قرى أخرى، حيث لم تنفعهم الحضارة الزراعية التي أنعم اللّه بها عليهم، انما ازدادوا كفرا بدل الشكر، و توغلا في الجاهلية.
و من اختلاف هاتين القصتين نعرف: أنّ السلطة- كما القوة- ليست شيئا مكروها أو ممدوحا بذاتها عند الإسلام، أو في نظر العقل، انما موقف الإنسان منها هو الذي يضفي عليها صفة الخير أو الشر، فاذا اتخذها طريقا للخير كانت خيرا و الا فشر.
/ 354 كما نستفيد من واقع القصتين أن هناك أجلين لحياة الإنسان و لما يعطيه ربه من
من هدى القرآن، ج10، ص: 442
النعم:
الاول: هو الأجل المسمى المحدد عند اللّه، و هو العمر الطبيعي للإنسان.
الثاني: الأجل المعلق و الذي يستنزله الإنسان بعمله، فيطول إذا كان العمل خيرا كالصدقة و الإحسان، و يقصر إذا كان شرّا كقطيعة الرحم.
فبالنسبة للحضارات لا تبقى للأبد لأن هناك سنة الهية عليا تقضي بفناء الإنسان، و بوار ملكه بعد ان ينقضي أجله المسمى، قال ربنا سبحانه: وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ و قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ .
و هكذا نجد ان الحضارات تسير ضمن دورة معينة، فعادة ما يعقب نموها و ازدهارها التدهور و الانحطاط، و الذي يمكننا ان نسميه بالأجل الطبيعي للحضارة.
و لكن الناس كثيرا ما يستعجلون هذه السنة بعصيانهم و كفرهم، الأمر الذي يسبب موت كثير من الحضارات في ريعان شبابها، فقد كان من المتوقع لألمانيا قبل الحرب العالمية ان تصير سيدة أوروبا صناعيا و حضاريا، و لكنها ماتت في أيام شبابها بسبب طيش هتلر، و مبادئ الحزب النازي، و بسبب الثقافة العنصرية التي انتشرت عند الشعب الألماني فاستجاب لتلك القيادة الرعناء. فعمر الحضارات اذن طويل لو لا أخطاء أصحابها.
ان قصة سليمان و والده (ع) صورة للحضارة التي امتدت فترة من الزمن، ثم انتهت بصورة طبيعية، بينما قصة سبأ الذي انتهت حضارتهم بسيل العرم صورة مناقضة تجسد النهاية غير الطبيعية. فداود و سليمان (ع) ضربا مثالا للحضارة البشرية النموذجية، و لما تم المثل انتهت حضارتهم، فهي بدأت من نشأتها حتى صارت شبابا ثم هرمت و ماتت، لكن حضارة سبأ ماتت في شبابها.
من هدى القرآن، ج10، ص: 443
/ 355
بينات من الآيات:
(14) أبقى اللّه نبيه سليمان (ع) منتصبا عل عصاته بعد الموت، و ذلك بهدف فضيحة الجن الذين كانوا يدّعون بأنهم يعلمون الغيب، و لإبطال الاعتقاد السائد لدى قسم من الناس بأنهم كذلك، و الذي تحول الى نمط من الثقافة الجاهلية بل عبادة، و لعل لهذه الحادثة أثرها الكبير في القضاء على الجانب الأكبر من عبادة الجن الشائعة في التاريخ.
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ و لعل القضاء هنا هو اجراء القدر الأول.
ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ و هي الأرضة.
تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ اي العصا التي يتوكأ عليها، و الاعتماد على العصا ليس دليلا على العاهة أو المرض، لان موسى (ع) المعروف ببطشه و قوته كان يتوكأ عليها أيضا: قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى «1» و حينما أكلت الأرضة العصا التي يعتمد عليها سليمان خر إلى الأرض.
(1) طه/ (18).
من هدى القرآن، ج10، ص: 444
و لهذه الآية تفسيران:
الأول: أن معناها بعد ان خر جسد سليمان (ع) الى الأرض عرفت الجن بموته/ 356 الذي مضى عليه عام واحد، فتمنوا علم الغيب، إذ لو أوتوا ذلك لما بقوا يعملون هذه المدة، و يشير هذا الأمر الى ان الجن كانوا مسخرين بالقوة، و ما كانوا يقدرون على التمرد ضد سليمان في حياته.
الثاني: انه لما خر جسد سليمان إلى الأرض، و كان الجن قد عملوا له سنة كاملة، دون علم بموته، افتضح أمرهم عند الناس، و انكشف للجميع أنهم لا يعلمون الغيب، إذ لو كانوا كذلك لما بقوا يعملون شيئا لا يريدونه، و لعلنا نستفيد من آخر الآية: ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ ان خضوع الإنسان الى حاكم لا يرتضيه سواء كان الحاكم صالحا كسليمان، أو طالحا كفرعون، أو حتى قيام الإنسان بعمل لا يقتنع به، من أشد الأمور ايلاما و عذابا له، أو ربما كان هؤلاء الجن من العصاة فأراد سليمان عذابهم بالأعمال الشاقة.
قال الامام الباقر عليه السلام: «ان سليمان بن داود- عليهما السلام- قال ذات يوم لأصحابه: ان اللّه تعالى وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، سخر لي الريح، و الانس، و الجن، و الطير، و الوحوش، و علمني منطق الطير، و أتاني من كلّ شيء، و مع جميع ما أوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم الى الليل، و قد أحببت أن أدخل قصري في غد، فأصعد أعلاه و أنظر الى ممالكي، و لا تأذنوا لأحد على ما ينغّص عليّ يومي، قالوا: نعم، فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده، و صعد إلى أعلى موضع من قصره، و وقف متكئا على عصاه ينظر الى ممالكه سرورا بما أعطي، إذ نظر الى شابّ حسن الوجه و اللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره، فلما بصر به
من هدى القرآن، ج10، ص: 445
سليمان (ع) قال له: من أدخلك الى هذا القصر، و قد أردت أن أخلو فيه اليوم فبإذن من دخلت؟! قال الشاب: ادخلني هذا القصر ربه، و بإذنه دخلت، قال: ربه أحق به مني فمن أنت؟ قال: انا ملك الموت، قال: و فيما جئت؟
قال: جئت لا قبض روحك، قال:/ 357 امض لما أمرت به، فهذا يوم سروري، و أبى اللّه عز و جل ان يكون لي سرور دون لقائه، فقبض ملك الموت روحه و هو متكئ على عصاه، فبقي سليمان متكئا على عصاه و هو ميت ما شاء اللّه، و الناس ينظرون اليه و هم يقدرون انه حي، فافتتنوا فيه، و اختلفوا، فمنهم من قال: ان سليمان قد بقي متكئا على عصاه هذه الأيام الكثيرة و لم يتعب و لم ينم، و لم يأكل، و لم يشرب، انّه لربّنا الذي يجب علينا ان نعبده، و قال قوم: ان سليمان ساحر، و انه يرينا انه وقف متكئ على عصاه، يسحر أعيننا و ليس كذلك، فقال المؤمنون: ان سليمان هو عبد الله و نبيه، يدبر اللّه أمره بما يشاء، فلما اختلفوا بعث اللّه عز و جل دابة الأرض، فدبت في عصاه، فلما أكلت جوفها انكسرت العصا، و خر سليمان من قصره على وجهه، فشكرت الجن للأرضة صنيعها، فلأجل ذلك لا توجد الارضة في مكان الا و عندها ماء و طين، و ذلك قول اللّه عز و جل: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ » «2»
(15) ثم يضرب القرآن مثلا آخر و ذلك من تاريخ اليمن، كشاهد على الحضارة التي تموت فجأة و قبل أجلها الطبيعي، و سبأ التي تذكّرنا بها القرآن قبيلة عاشت على الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة العربية، و كانت تتقلب في نعماء اللّه حتى بطرت معيشتها، فتكبرت عن الشكر له، و لم ترع العوامل المسببة للخير، فدمر اللّه سدّها الذي تقوم عليه حضارتها الزراعية، فانهارت و بادت، و تبددت القبيلة حتى انقرض كيانها، فضرب بها المثل العربي: (تفرقوا أيادي سبأ).
(2) نور الثقلين/ ج (4)/ ص (324).
من هدى القرآن، ج10، ص: 446
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ و كان ينبغي لهؤلاء ان لا يقفوا عند الآية، انما يستدلوا بها على الحقيقة التي تهدي إليها، و هي كما تبين آخر الآية معرفة رب النعم و هو اللّه، و من ثم شكره لتزداد النعمة و تدوم،/ 358 و الملاحظ ان اللّه استخدم للتعبير عما فيه سبأ من النعيم كلمة «مساكن» و لم يقل بيوت، و لعل المسكن هو البيت الذي يأوي اليه الإنسان مطمئنا مرتاحا ساكنا، بينما البيت هو محل المبيت، و ربما أتاه الإنسان قلقا حزينا.
و قوله عز و جل: جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ يكشف عن الطبيعة الجغرافية، ذلك لأنه يفهم من هذا التعبير وجود نهر يقسم البلاد الى شطرين، و لعل هذا النهر يتصل بالسد حيث تفرغ المياه فيه ليحملها الى الجنان التي على جانبيه.
و كان من المفروض ان تستفيد سبأ مما تنتجه الأرض، عارفين بأنه من عند اللّه، ثم يشكرونه.
كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ و قد أمر اللّه آل داود بذلك، فلما استجابوا و شكروا استمرت حضارتهم، حتى وافاها أجلها الطبيعي بموت سليمان، أما هؤلاء فلم يشكروه، مما أدى الى اندحار حضارتهم.
و المجتمع حينما تكون مسيرته العامة الشكر للّه مباشرة، أو الشكر للعباد قربة له، فانه يصبح مجتمعا فاضلا خيّرا، أو كما يعبر القرآن: