کتابخانه تفاسیر
تفسير الكاشف
الجزء الأول
سورة البقرة
الجزء الثاني
سورة آل عمران
الجزء الثالث
الجزء الرابع
الجزء الخامس
الجزء السادس
الجزء السابع
تفسير الكاشف، ج1، ص: 101
[سورة البقرة (2): الآيات 51 الى 53]
وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى الآية 51- 53:
اللغة:
مصدر واعدنا المواعدة، أي المفاعلة بين اثنين، كما لو تواعدا اللقاء في مكان معين، و وجه المفاعلة- هنا- ان اللّه سبحانه وعد موسى الوحي، و موسى (ع) وعد اللّه المجيء .. أما الوعد فهو مصدر وعد، و يكون من طرف واحد، و يصح استعمال واعدنا بمعنى وعدنا.
و لفظة موسى تطلق على آلة الفولاذ التي يحلق بها الشعر، و تذكّر و تؤنث، و الجمع مواس و مواسيات، و هي بهذا المعنى عربية لا أعجمية .. أما لفظة موسى التي يراد بها ابن عمران (ع) فهي أعجمية لا عربية، مركبة من كلمتين في اللغة القبطية، و هما (مو) اسم للماء و (سى) اسم للشجر .. و في اللغة العبرية (شى) .. و يكون معنى موسى ماء الشجر .. أما وجه تسمية موسى بماء الشجر فهو- على ما جاء في مجمع البيان- ان جواري آسية امرأة فرعون خرجن للاغتسال بماء الشجر فوجدن التابوت الذي فيه موسى عند ماء الشجر، فصحبنه معهن .. و الفرقان ما يفصل بين شيئين، و المراد به هنا الذي يفصل بين الحق و الباطل.
الاعراب:
الذي يتبادر الى الفهم للوهلة الأولى ان (أربعين) ظرف مفعول فيه .. و ليس كذلك .. لأن الاعراب يتبع صحة المعنى، و لو كان (أربعين) مفعولا به
تفسير الكاشف، ج1، ص: 102
للزم تعدد الوعد من اللّه لموسى بتعدد الليالي، لأن الوعد هو العامل بالليالي ..
و معلوم ان اللّه سبحانه لم يصدر منه لموسى الا وعد واحد موقت بانقضاء أربعين ليلة، و عليه تكون كلمة انقضاء المحذوفة مفعولا به ثانيا لواعدنا، و بعد حذفها أقيمت (أربعين) مقامها، و أعربت اعرابها، تماما كما تقول: اليوم ثلاثة من الشهر، أي تمام الثلاثة، لأن الواحد غير الثلاثة. و ليلة تمييز.
المعنى:
بعد ان أهلك اللّه فرعون و من معه تنفس الاسرائيليون الصعداء، و عادوا الى مصر آمنين، كما في المجمع، و لم تكن التوراة قد نزلت بعد على موسى، فسألوه ان يأتيهم بكتاب من ربهم، فوعده اللّه أن ينزل عليه التوراة، و ضرب له ميقاتا، فقال لهم موسى: ان ربي وعدني بكتاب، فيه بيان ما يجب عليكم أن تفعلوه، و تذروه، و ضرب لهم ميقاتا أربعين ليلة، و هذه الليالي- على ما قيل- هي ذو القعدة، و عشر ذي الحجة.
و ذهب موسى الى ربه ليأتي قومه بالكتاب، و استخلف عليهم أخاه هارون، و قبل أن يمضي الميقات الموعود على غيابه عبدوا العجل من دون اللّه، و ظلموا بذلك أنفسهم، و هذا هو المعنى الظاهر من قوله سبحانه: «وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ» .
و بعد ان رجع موسى الى قومه تابوا من شركهم، و رجعوا الى ربهم، فقبل اللّه توبتهم .. و هذه نعمة ثالثة من اللّه عليهم، و اليها أشارت الآية: «ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» .
أما النعمة الرابعة فهو كتاب اللّه: «وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» . و هذا الكتاب هو التوراة الجامعة لبيان الحق و الباطل، و الحلال و الحرام، أما عطف الفرقان على الكتاب فهو من باب عطف الصفة على الموصوف، كقوله سبحانه في الآية 48 من الأنبياء: «وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ» .
و اختصارا ان اللّه جل و عز ذكّر الاسرائيليين في الآيات المتقدمة بأربع نعم:
تفسير الكاشف، ج1، ص: 103
انجائهم من ذبح الأبناء و استحياء النساء، ثم هلاك فرعون، ثم العفو عنهم، ثم إيتاء موسى التوراة. و من أحسن ما قرأته في هذا الباب- و أنا أتتبع ال 17 تفسيرا التي لدي- هو قول أبي حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط:
«انظر الى حسن هذه الفصول التي انتظمت انتظام الدر في أسلاكها، و الزهر في أفلاكها، كل فصل منها- أي من النعم- قد ختم بمناسبة، و ارتقى في ذروة فصاحته أعلى مناصبه، واردا من اللّه على لسان محمد أمينه دون أن يتلو من قبل كتابا، و لا خطه بيمينه».
يشير أبو حيان بهذا الى ان تلك الصور المتلاحقة المنتظمة هي من معجزات محمد، لأنه أخبر بها من غير تعلّم .. رحم اللّه السلف و غفر لهم، و أجزل عليهم النعم و العطية، فإنهم ما رأوا ظاهرة يستشم منها تأييد هذا الدين و نبيه الأكرم الا مدوا اليها الأعناق بلهفة و اشتياق، و بادروا اليها شرحا و تفصيلا، و استخراجا و تدليلا، فأين أين نحن علماء هذا الزمان الذين نتكالب على الدنيا، و لا نرى هما الا همّ أنفسنا، و لا مشكلة الا مشكلة أولادنا .. أين نحن من أولئك الأعاظم الذين ضحوا بكل شيء من أجل إعزاز الإسلام و نبي الإسلام؟.
عفا اللّه عنهم و رفعهم و كل من خدم الدين الى أعلى الدرجات.
[سورة البقرة (2): الآيات 54 الى 57]
وَ إِذْ قالَ مُوسى الآية 54- 57:
تفسير الكاشف، ج1، ص: 104
اللغة:
البارئ هو الخالق، و المنّ مادة لزجة تشبه العسل، و السلوى السّمان طائر معروف، و الغمام اسم جنس مفرده غمامة، فالتاء للإفراد، لا للتأنيث، تماما كحمام و حمامة.
الاعراب:
يا قومي منادى مضاف الى ياء المتكلم، ثم حذفت الياء، و اجتزئ عنها بالكسرة، و جهرة قائم مقام المفعول المطلق، و كلوا فعل أمر، و الجملة محل نصب مفعول لفعل محذوف، تقديره قلنا كلوا.
المعنى:
(وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) .. كل معنى يسبق الى الفهم بمجرد سماع اللفظ لا يحتاج الى تفسير، بل تفسيره و شرحه ضرب من الفضول .. و هذه الآية من هذا الباب.
(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) .. القتل ظاهر في إزهاق الروح، و لا سبب موجب لصرفه و تأويله بمخالفة الهوى، و تذليل النفس بالاعتراف بالذنب و الخطيئة، أو التشديد و المبالغة في طاعة اللّه- كما قيل- و المراد بالأنفس هنا بعضها، أي ليقتل بعضكم بعضا، فيتولى البريء منكم الذي لم يرتد عن دينه بعبادة العجل قتل من ارتد عن دينه، تماما كقوله تعالى: «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» .
أي فليسلّم بعضكم على بعض، و كقوله: «وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» . أي لا يغتب بعضكم بعضا.
تفسير الكاشف، ج1، ص: 105
و قال الطبرسي في مجمعه- من الامامية- و الرازي في تفسيره الكبير- من السنة قالا: ان اللّه سبحانه جعل توبتهم بنفس القتل، بحيث لا تتم التوبة، و لا تحصل إلا بقتل النفس، لا انهم يتوبون أولا، ثم يقتلون أنفسهم بعد التوبة.
و لهذا الحكم نظائره في الشريعة الاسلامية، حيث اعتبرت القتل حدا و عقوبة على جريمة الارتداد ..
و تمضي الآيات في تعداد مساوئ الاسرائيليين: (وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) . حين جاءهم موسى بالتوراة قال له جماعة منهم: لا نصدقك في ان هذا الكتاب من عند اللّه، حتى نرى اللّه عيانا لا حجاب بيننا و بينه، و يخبرنا وجها لوجه انه أرسلك بهذا الكتاب.
و لست أدري ان كان الذين ينكرون وجود اللّه في هذا العصر، لا لشيء إلا لأنهم لم يشاهدوه جهرة، لست أدري: هل استند هؤلاء في انكارهم الى كفر أولئك الاسرائيليين و عنادهم؟.
قال اليهود لموسى: لن نؤمن حتى نرى اللّه جهرة .. و قال من قال في هذا العصر: لا وجود إلا لما نراه بالعين، و نلمسه باليد، و نشمه بالأنف، و نأكله بالفم .. و هكذا يكرر التاريخ صورة المكابرة و معاندة الحق في كل جيل.
(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) . أي ان عذابا من السماء أحاط بالذين قالوا لموسى: لن نؤمن حتى نرى اللّه، و أهلكهم على مرأى من أصحابهم الذين لم يعاندوا، و يسألوا مثل ذلك.
(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) . قال بعض المفسرين، و منهم الشيخ محمد عبده، كما في تفسير المنار، قالوا: ان اللّه سبحانه لم يرجعهم الى هذه الحياة ثانية بعد أن أخذتهم الصاعقة، و ان المراد ببعثهم كثرة النسل منهم.
و قال آخرون: كلا، ان الآية على ظاهر دلالتها، و ان الذين أعيدوا هم الذين أخذتهم الصاعقة بالذات .. و هذا هو الحق، حيث يجب الوقوف عند الظاهر إلا مع السبب الموجب للتأويل، و لا سبب ما دامت الاعادة ممكنة في نظر العقل، و قد وقع نظير ذلك لعزير، كما دلت الآية 259 من سورة البقرة:
«فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» . و بديهة ان الذي وقع لا يكون مستحيلا.
تفسير الكاشف، ج1، ص: 106
و تجدر الاشارة إلى أن المراد من قوله تعالى: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ، و قوله بعثناكم، المراد من كان في عصر موسى (ع) الذين قالوا له: «حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» فلا يشمل الخطاب موسى، و لا من لم يقل له ذلك .. و بالأولى أن لا يشمل حقيقة اليهود الذين كانوا في عهد محمد (ص) و انما وجه الخطاب اليهم تجوزا و توسعا في الاستعمال بالنظر الى أنهم من نسل الذين قالوا: حتى نرى اللّه جهرة.
(وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى) . جرى ذلك حين خرج الاسرائيليون من مصر، و تاهوا في صحراء سيناء، حيث لا بنيان و لا عمران، فشكوا الى موسى حر الشمس، فأنعم اللّه عليهم بالغمام يظللهم، و يقيهم حر الهاجرة، و أنعم عليهم أيضا بالمنّ و السلوى، يأكلون منهما بالاضافة الى ما تيسر لهم من الأطعمة، و يأتي في تفسير الآية 60 ان الماء تفجّر لهم من الحجر الذي ضربه موسى بعصاه.
و غريب أمر بعض المفسرين، حيث يفسر من تلقائه ما سكت اللّه عن بيانه و تفسيره، و يحصي عدد الذين قتلوا أنفسهم للتوبة من عبادة العجل، يحصيهم بسبعين ألف نسمة، كما أحصى عدد الذين أخذتهم الصاعقة بسبعين رجلا، أما المنّ فلكل فرد صاع، و أما السلوى فكانت تنزل من السماء حارّة يتصاعد منها البخار، و ما إلى ذلك مما لا نص قطعي و لا ظني يدل عليه، و يبعّد و لا يقرب .. و قد ثبت عن الرسول الأعظم (ص): ان اللّه سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا، فلا تتكلفوها رحمة من اللّه لكم.
و في نهج البلاغة:
ان اللّه افترض عليكم الفرائض فلا تضيعوها، و حدّ لكم حدودا فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، و سكت عن أشياء، و لم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها.
(وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) . و نفي المظلومية عن اللّه سبحانه، تماما كنفي الولد و الشريك عنه من باب السالبة بانتفاء الموضوع على حد تعبير أهل المنطق، لأن الثبوت محال عقلا .. فهو أشبه بقولك عن الأعزب: انه لا ولد له، و عمن يجهل اللغة العربية لم يؤلف فيها قاموسا .. أما ظلم اليهود لأنفسهم فلسفههم، و جحودهم بأنعم اللّه الذي لا تنفعه طاعة من أطاع، و لا
تفسير الكاشف، ج1، ص: 107
تضره معصية من عصى، و انما منفعة الطاعة تعود الى الطائع، و مضرة المعصية الى العاصي .. قال أمير المؤمنين علي (ع): يا ابن آدم إذا رأيت ربك يتابع نعمه عليك، و أنت تعصيه فاحذره.
و اختصارا ان هذه الآيات تضمنت الاشارة الى عبادة الاسرائيليين للعجل، و توبتهم بقتل أنفسهم، و طلبهم رؤية اللّه، و هلاكهم و بعثهم، و تظليل الغمام لهم، و إطعامهم المنّ و السلوى .. و سنعرض قصة موسى مع الاسرائيليين في سورة المائدة ان شاء اللّه، حيث حكى اللّه قولهم لكليمه و نجيّه: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» و انها لكلمة تعبر عن خبث اليهود و لؤمهم أدق تعبير، و أول من اكتشف هذا اللؤم و الخبث آل فرعون الذين ذبحوا الأبناء، و استحيوا النساء.
رؤية اللّه:
و حيث جاء في الآية الكريمة: «حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» نشير الى النزاع القائم بين أهل المذاهب الاسلامية و فرقها من ان العقل: هل يجيز رؤية اللّه بالبصر أو يمنعها؟.
قال الأشاعرة- السنة-: ان رؤية اللّه بالبصر جائزة عقلا، لأنه موجود، و كل موجود يمكن رؤيته.
و قال الامامية و المعتزلة: لا تجوز الرؤية البصرية على اللّه بحال، لا دينا و لا دنيا، لأنه ليس بجسم، و لا حالا في جسم، و لا في جهة.
و بعد أن منعوا الرؤية عقلا حملوا الآيات الدالة بظاهرها على جواز الرؤية، حملوها على الرؤية بالعقل و البصيرة، لا بالعين و البصر، و بحقائق الإيمان، لا بجوارح الأبدان على حد تعبير الفيلسوف الشهير الكبير محمد بن ابراهيم الشيرازي المعروف بالملا صدرا، و بصدر المتألهين.