کتابخانه تفاسیر
تفسير الكاشف
الجزء الأول
سورة البقرة
الجزء الثاني
سورة آل عمران
الجزء الثالث
الجزء الرابع
الجزء الخامس
الجزء السادس
الجزء السابع
تفسير الكاشف، ج7، ص: 108
- أي أخلصها للعمل الصالح- لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ) .
يبتلي اللّه عباده بأنواع المحن ليتذكر متذكر، و يزدجر مزدجر، فمن تذكر و صبر استخلصه اللّه و هداه سواء السبيل، و أنعم عليه بالغفران و أجور الصابرين، و تومئ الآية الى أن الخطاب المهذب و الأسلوب اللائق- من الايمان، قال الإمام علي (ع):
«لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، و لا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) . الخطاب في ينادونك لرسول اللّه (ص)، و الحجرات جمع حجرة، و هي الغرفة، و كان للنبي (ص) تسع زوجات لكل واحدة منهن حجرة من جريد النخل، و على بابها ستار من الشعر. و قال المفسرون: انطلق ناس من العرب الى المدينة، و وقفوا وراء حجرات النبي و نادوا يا محمد اخرج إلينا، فتربص النبي قليلا ثم خرج اليهم، و وصفهم سبحانه بأن أكثرهم لا يعقلون لما في فعلهم ذاك من البداوة و الجفاء (وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لأن في الأناة و ترك العجلة أجرا لهم و ثوابا، و تعظيما لرسول اللّه، و رعاية للآداب (وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تتسع رحمته و مغفرته للهمج الرعاع و غيرهم.
[سورة الحجرات (49): آية 6]
اللغة:
بجهالة أي بغير علم.
تفسير الكاشف، ج7، ص: 109
الإعراب:
المصدر من أن تصيبوا مفعول من أجله لتبينوا أي لئلا تصيبوا. فتصبحوا منصوب بأن مضمرة. و نادمين خبر تصبحوا.
المعنى:
اشتهر بين المفسرين ان رسول اللّه (ص) بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط الى بني المصطلق ليأخذ منهم الزكاة، فاستقبلوه بجمعهم تكريما له، و لكنه ظن بهم الشر و انهم يريدون الإيقاع به، فانصرف الى النبي (ص) و قال له: منعوني و طردوني. فغضب النبي (ص) و قال له بعض الصحابة: نغزوهم يا رسول اللّه.
فنزلت الآية في تبرئة بني المصطلق، و قيل غير ذلك في سبب نزولها ... و نحن لا نثق بشيء من أسباب النزول إلا إذا ثبت بنص القرآن أو بخبر متواتر، بالاضافة الى ان ظن الوليد بالشر لا يستوجب الفسق، و انما هو خطأ و اشتباه، و المخطئ لا يسمى فاسقا و إلا استحق اللوم و العقوبة حتى و لو تحفظ و اجتهد.
و أيا كان سبب النزول فإن الآية لا تقتصر عليه، بل تتعداه الى غيره لأن المورد لا يخصص الوارد، و لا فرق بينه و بين غيره من أفراد العام، و انما ذكر بالذات لأمر لا يمت الى تخصيص اللفظ بصلة، و عليه يجب الأخذ بظاهر الآية، و هو يدل على حرمة الأخذ بقول الفاسق دون التمحيص و التثبت من خبره خوفا من الوقوع فيما لا تحمد عقباه كالإضرار بالآخرين و الندامة حيث لا ينفع الندم، و بكلمة الإمام علي (ع) «من سلك الطريق الواضح ورد الماء، و من خالف وقع في التيه» و بهذا نجد تفسير قوله تعالى: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» .
و استدل بهذه الآية جماعة من شيوخ السنة و الشيعة على وجوب الأخذ بقول الثقة مطلقا بلا شرط البحث عن صدقه فيما أخبر، و شرح بعضهم وجه الاستدلال بكلام غامض و معقد، و يتضح بأن الآية تضمنت مبدأ عاما يقاس به الخبر الذي لا يصح الاعتماد عليه و العمل به إلا بعد التثبت و هو خبر الفاسق، و أيضا يقاس به الخبر
تفسير الكاشف، ج7، ص: 110
الذي يعتمد عليه مطلقا و من غير تثبت و هو خبر الثقة، لأن اللّه سبحانه أناط الاعتماد على خبر الفاسق بالتبين و التثبت، و لم يتعرض لخبر الثقة، و معنى هذا ان العمل بخبر الثقة لا يجب فيه التثبت، و لو وجب لبيّن و اشترط التثبت فيه تماما كما اشترطه في خبر الفاسق، و حيث لا بيان فلا شرط.
و في رأينا ان قوله تعالى: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» لا يدل إلا على وجوب التثبت من خبر الفاسق، و ان هذا الشرط لا بد منه قبل العمل بخبر الفاسق، و لا دلالة للآية على هذا الشرط بالنسبة الى خبر الثقة، لا نفيا و لا اثباتا ... و نحن مع القائلين بأن السند الأول للأخذ بخبر الثقة هو طريقة العقلاء قديما و حديثا، و سكوت الشارع عنها، و هي بمرأى منه و مسمع ... أجل، ان قوله تعالى: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» يومئ الى ان أي خبر نأمن معه من الوقوع في الشبهات و المحرمات يجوز العمل به أيا كان المخبر ... و بالبداهة لا نكون آمنين من ذلك إلا بالاعتماد على قول الثقة، أو بعد التثبت من خبر الفاسق.
[سورة الحجرات (49): الآيات 7 الى 8]
اللغة:
عنتم أصابكم تعب و مشقة. و المراد بالفسوق هنا القول المحرم كالكذب و الغيبة أما العصيان فيشمل معصية اللّه بالقول و الفعل.
تفسير الكاشف، ج7، ص: 111
الإعراب:
فيكم خبر ان و رسول اللّه اسمها، و الغرض من هذا الاخبار أن يعظموا الرسول، و لا يخبروه إلا بالصدق و الواقع. فضلا منصوب على المصدر أو مفعول من أجله لفعل محذوف أي فعل اللّه ذلك تفضلا و انعاما.
المعنى:
(وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) و أشرف الأولين و الآخرين، فعليكم أن تعظموه و لا تخبروه إلا بالحق و الصدق (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) .
هذا أمر من اللّه تعالى موجه الى المؤمنين بأن يسمعوا للرسول و يطيعوا و لا يشيروا عليه بما يعلم من اللّه ما لا يعلمون، و لو استجاب الى الكثير مما يدعونه اليه لتعبوا و وقعوا في الجهد و الإثم.
(وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) . أمر اللّه عباده أن يؤمنوا به و يطيعوه، و بيّن لهم محاسن الايمان و الطاعة، و رغّبهم في ذلك بكل أسلوب، و وعد من آمن و عمل صالحا بالثواب الجزيل و الأجر العظيم، و نهاهم عن الكفر و المعصية و بيّن مساوئهما، و هدد من كفر و عصى بأشد العذاب، و وصف هذا العذاب بما لا يمكن أن يحده عقل أو يتصوره انسان إلا بعد البيان، و أي انسان يتصور عذابا ما هو بالموت و لا بالحياة! و أرسل سبحانه رسله الى الناس ليبلغوا أمره و نهيه و وعده و وعيده، فمنهم من استجاب حقا و صدقا، و منهم من أعرض و عاند، و منهم من استجاب خوفا على مصالحه و طمعا بالغنيمة، و الذين استجابوا للّه و الرسول حقا و صدقا في كل ما دعا اليه هم الراشدون المعنيون بقوله تعالى: «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» الخ. أي حببه سبحانه اليهم و زينه في قلوبهم بما بينه من محاسن الايمان و الترغيب فيه بالثواب الجزيل، و كرّههم في الكفر بما بيّنه من مساوئه، و التهديد عليه بالعذاب الأليم.
تفسير الكاشف، ج7، ص: 112
و تسأل: ان اللّه سبحانه بيّن ذلك للمؤمنين و الكافرين، فلما ذا خص المؤمنين بالذكر دون غيرهم؟.
الجواب: أجل، و لكن ما كل من سمع بيان اللّه آمن و انتفع به، و لا كل من نصحه اللّه قبل نصيحته، بل قبل الطيبون و أعرض المجرمون، فذكر سبحانه و أثنى على من استمع القول فاتبع أحسنه، و أهمل من أعرض و تولى (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) . ليس من شك ان الذي يختار الهدى على الضلال له الفضل و الأجر، و لكن الفضل الأكبر لمن مهّد طريق الهدى و أرشد اليه و زود السالك بالقدرة على سلوكه، و قديما قيل: و ما المسبّب لو لم ينجح السبب.
[سورة الحجرات (49): الآيات 9 الى 10]
اللغة:
تفيء ترجع. و أقسطوا اعدلوا.
الإعراب:
طائفتان فاعل لفعل مقدر أي و ان اقتتل طائفتان. و جمع سبحانه «اقتتلوا»
تفسير الكاشف، ج7، ص: 113
بالنظر الى المعنى لأن الطائفة جماعة من الناس، و ثنّى «بينهما» بالنظر الى لفظ طائفتين.
المعنى:
(وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) . للإسلام تعاليم و إرشادات لبناء المجتمع و إصلاحه، منها وجوب حماية الإنسان في دمه و ماله و عرضه، و حريته في القول و الفعل، لا سلطان عليه لأحد و لا لشيء إلا الحق، فإذا خرج عنه و انتهك حرمته بالاعتداء على الآخرين فقد رفع هو الحصانة عن نفسه، قال تعالى: «وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ» - 70 الإسراء أنظر ج 5 ص 66 فقرة «بماذا كرم اللّه بني آدم». و قال مخاطبا نبيه الكريم: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» 22 الغاشية. و قال: «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» - 42 الشورى.
و منها التعاطف و التكافل بما يعود على الجميع بالخير و الصلاح، فإذا ما حدث خصام و قتال بين فئتين من المؤمنين فعلى المؤمنين الآخرين أن يتلافوا ذلك، و يصلحوا على أساس الحق و العدل حرصا على وحدة الجماعة و جمع الشمل، و في الحديث الشريف: «الا أخبركم بأفضل من درجة الصيام و الصلاة و الصدقة؟ قالوا:
بلى يا رسول اللّه. قال: إصلاح ذات البين.
إذا أبت إحدى الفئتين الرضوخ للحق بالحسنى، و أصرت على العدوان فعلى المؤمنين الآخرين ان يحموا الفئة الأخرى من الظلم بالحكمة و الموعظة الحسنة، فإن لم ترتدع الفئة الباغية إلا بالقتال قاتلوها في حدود التأديب و الدفاع المشروع الذي يحقق الأمن للجميع (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) . فإن تابت الفئة الباغية، و انتهت عن بغيها فإن اللّه غفور رحيم، و ما لأحد عليها من سبيل، و على المؤمنين أن يبذلوا الجهد لازالة ما حدث في نفوس الطرفين.
و قال الجصاص الحنفي في كتاب أحكام القرآن، و هو يتكلم حول هذه الآية:
تفسير الكاشف، ج7، ص: 114
«قاتل علي بن أبي طالب الفئة الباغية بالسيف، و معه كبراء الصحابة و أهل بدر من قد علم مكانهم، و كان محقا في قتاله لهم لم يخالف فيه أحدا إلا الفئة الباغية التي قاتلته و اتباعها .. و قال أبو بكر المالكي المعروف بابن العربي المعافري في أحكام القرآن: «تقرر عند علماء الإسلام، و ثبت بدليل الدين ان علي بن أبي طالب كان إماما، و ان كل من خرج عليه باغ، و ان قتاله واجب حتى يفيء الى الحق».
الاخوة الدينية و الاخوة الانسانية:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) . هذا تأكيد للأمر بإصلاح ذات البين مع الاشارة الى أن هذا الإصلاح تفرضه رابطة الاخوة. و في الحديث: المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يعيبه.
و تسأل: لما ذا قال سبحانه: إنما المؤمنون اخوة، و لم يقل: انما الناس اخوة، و قال الرسول الأعظم (ص): المسلم أخو المسلم، و لم يقل: الإنسان أخو الإنسان؟ مع العلم بأن الرب واحد و الأصل واحد و الخلقة واحدة و المساواة بين بني الإنسان واجبة، فالحب ينبغي أن يكون عاما لا خاصا تماما كرحمة اللّه التي وسعت كل شيء؟. و أي فرق بين أن نقسّم بني آدم على أساس ديني أو اقتصادي كما فعلت الماركسية أو على أساس الجنس و العرق كما دانت النازية أو على أساس النار و الدولار كما هي السياسة الأمريكية؟. ثم ما هو السبب لما عانته و تعانيه الانسانية من الويلات و المشكلات التي تقودها الآن الى المصير المدمر المهلك بعد أن ملك الإنسان أبشع قوى التدمير و الإهلاك؟. هل يكمن هذا السبب في طبيعة الإنسان بما هو انسان أو ان السبب الأول و الأخير يكمن في الانقسامات بشتى أنواعها؟. و بالتالي هل على بني الإنسان أن يتعاطفوا و يتراحموا على أساس ديني أو أساس انساني؟.