کتابخانه تفاسیر
تفسير الكاشف
الجزء الأول
سورة البقرة
الجزء الثاني
سورة آل عمران
الجزء الثالث
الجزء الرابع
الجزء الخامس
الجزء السادس
الجزء السابع
تفسير الكاشف، ج2، ص: 48
من (ما فِي بَطْنِي) و أنثى حال، و نباتا مفعول مطلق بمعنى إنباتا كي يطابق الفعل، و هو أنبتها.
المعنى:
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) . قال محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي في تفسيره الكبير المسمى بالبحر المحيط، قال: «قرأ عبد اللّه و آل محمد على العالمين». و سواء أصحت هذه القراءة، أم لم تصح فإن آية التطهير: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً - 33 الأحزاب». ان هذه الآية كافية وافية في الدلالة على اصطفاء اللّه لآل محمد، و منزلتهم و عظمتهم .. ان محمدا (ص) أفضل الأنبياء جميعا، فآله أيضا أفضل الآل جميعا، بل ان علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل، أو أفضل من أنبياء بني إسرائيل، و لا أذكر لفظ الحديث، فبالأولى إذا كان العلماء من آله الأطهار بشهادة اللّه تعالى.
و مهما يكن، فقد ابتدأ اللّه سبحانه بذكر آدم، لأنه أبو البشر الأول، و ثنى بنوح، و هو أبو البشر الثاني، لأن جميع سكان الأرض من نسله وحده، من أولاده الثلاثة: سام، و حام، و يافث، حيث قضى الطوفان على جميع الناس إلا نوحا .. و اصطفى اللّه كلا من آدم و نوح بشخصه، و لذا لم يقترن اسمهما بآل، أما ابراهيم و عمران فقد اصطفاهما مع الآل .. و كما ان آدم و نوحا هما أبوا البشر فان ابراهيم أبو الأنبياء جميعا بعد نوح، حيث لا نبي منذ ابراهيم إلا من نسله.
و الظاهر ان المراد بعمران في قوله: (آل عمران) هو أبو مريم جد عيسى لا أبو موسى الكليم، لتكراره في الآية الثانية: (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) فهو نظير تكرار الاسم في جملتين وردتا في سياق واحد، نحو أكرم زيدا ان زيدا رجل صالح، و على هذا يكون المراد بآل عمران السيد المسيح و أمه مريم، و قيل:
انه كان لعمران أبي موسى الكليم بنت اسمها مريم أكبر من موسى سنا، و ان بين
تفسير الكاشف، ج2، ص: 49
عمران هذا، و عمران جد المسيح ألف و ثمانمائة سنة. و المراد بقوله تعالى: (عَلَى الْعالَمِينَ) ان اللّه قد اختار كل واحد ممن ذكرهم، لأنه كان الصفوة الممتازة في أهل زمانه، لا في كل زمان.
(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) . ليس من شك أن نوحا فرع عن آدم، و ابراهيم و آله فرع عن نوح، و آل عمران فرع عن ابراهيم، و بيان هذا أشبه بتوضيح الواضح و كلام اللّه يجب أن يحمل على أحسن المحامل .. اذن، ما هو القصد من هذا الاخبار؟
الجواب: ليس القصد الاخبار عن ان المتأخر فرع عن المتقدم، و انما القصد- كما هو ظاهر السياق- مدحهم و الثناء عليهم، و انهم كانوا أشباها و نظائر في القداسة و الفضيلة .. و بعد هذا التمهيد ينتقل الى قصة امرأة عمران أم مريم و جدة عيسى (ع).
و خلاصتها ان قوفاذ بن قبيل الاسرائيلي كان له بنتان: اسم إحداهما حنة، و تزوجها عمران، و هو اسرائيلي أيضا، و أولدها مريم، و اسم الثانية ايشاع، و تزوجها زكريا؛ و ولدت منه يحيى، فيحيى بن زكريا، و مريم ام عيسى هما ابنا خالة، و ليس عيسى و يحيى ابني خالة، كما هو معروف .. هكذا في مجمع البيان.
و مات عمران، و حنة حامل، فنذرت حملها لخدمة بيت المقدس، و تضرعت خالصة للّه أن يتقبل نذرها، و كان هذا جائزا في دينهم، و لا يجوز في دين الإسلام، و كانت تنتظر ذكرا، لأن النذر للمعابد لم يكن معروفا الا للصبيان، و لما وضعت أنثى توجهت للّه، و قالت: اني وضعتها أنثى .. و اني سميتها مريم، و مريم في اللغة العبرية بمعنى خادم الرب.
و تقبّل اللّه نذرها، و ان كان أنثى، و اختلف بنو إسرائيل كل يريد أن يكفل مريم، و يدير شئونها، و لما اشتدت الخصومة فيما بينهم اتفقوا على الاقتراع، فكانت من نصيب زكريا زوج خالتها، و كان آنذاك رئيس الهيكل اليهودي، فاهتم بها و تفقّد شئونها، و كان كلما دخل عليها وجد عندها طعاما، و عهده بها أن لا يدخل عليها أحد، فسألها متعجبا: أنّى لك هذا! .. قالت هو من
تفسير الكاشف، ج2، ص: 50
عند اللّه- أي لا بواسطة أحد من الناس- ان اللّه يرزق من يشاء بغير حساب.
و ليس من شك ان هذه كرامة لمريم (ع)، أما من نفى هذه الكرامة، و قال: ان الطعام الذي رآه عندها زكريا كان من حسنات المؤمنين فهو خلاف ظاهر الآية .. و ليست هذه الكرامة بأعظم من ولادة عيسى بلا أب، فإن كانت تلك محلا للشك و الريب فهذه أولى.
و معنى قوله تعالى: (وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) انها نشأت على الخلق الكريم، و طاعة اللّه و عبادته، فعن ابن عباس انها لما بلغت التاسعة من عمرها صامت النهار، و قامت الليل، حتى أربت على الأحبار .. و قيل: لم تجر عليها خطيئة.
فاطمة و مريم:
و حدث مثل هذه الكرامة لسيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه (ص)، فقد جاء في تفسير روح البيان للشيخ إسماعيل حقي عند تفسير قوله تعالى حكاية عن مريم: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ، جاء في هذا التفسير ما نصه بالحرف:
«جاع النبي (ص) في زمن قحط، فأهدت له فاطمة رغيفين و لحما .. فأتاها، و إذا بطبق عندها مملوء خبزا و لحما، فقال لها: انّى لك هذا؟ قالت هو من عند اللّه ان اللّه يرزق من يشاء بغير حساب، فقال: الحمد للّه الذي جعلك شبيهة بسيدة بني إسرائيل، ثم جمع رسول اللّه عليا و الحسنين، و جمع أهل بيته عليه، فأكلوا و شبعوا، و بقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة على جيرانها».
و في كتاب ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري ان عليا (ع) استقرض دينارا ليشتري به طعاما لأهله، فالتقى بالمقداد بن الأسود في حال إزعاج، و لما سأله الإمام قال: تركت أهلي يبكون جوعا؛ فآثره بالدينار على نفسه و أهله، و انطلق الى النبي (ص)، و صلى خلفه، و بعد الصلاة قال النبي لعلي: هل عندك شيء تعشينا به؟ و كأن اللّه قد أوحى اليه أن يتعشّى عند علي، فأطرق علي لا يحير جوابا، فأخذ النبي بيده، و انطلقا الى بيت فاطمة، و إذا بحفنة من الطعام،
تفسير الكاشف، ج2، ص: 51
فقال لها علي: أنّى لك هذا؟. قال له النبي: هذا ثواب الدينار، هذا من عند اللّه يرزق من يشاء بغير حساب، الحمد للّه الذي اجراك يا علي مجرى زكريا، و اجراك يا فاطمة مجرى مريم، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا .. ثم قال محب الدين الطبري: خرّج هذا الحديث الحافظ الدمشقي في الأربعين الطوال.
و جاء في صحيح مسلم، باب فضائل بنت النبي، ان رسول اللّه قال لابنته فاطمة: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة. و نقل السيد محسن الأمين في الجزء الثاني من أعيان الشيعة، سيرة الزهراء، نقل عن صحيح البخاري ان النبي (ص) قال: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، و أيضا نقل عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ان الإمام أحمد روى في مسنده عن النبي انه قال: فاطمة سيدة نساء العالمين.
و جاء في كتاب ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري بعنوان: ما جاء في سيادتها و أفضليتها، قال الطبري ما نصه بالحرف: «عاد النبي فاطمة، و هي مريضة، فقال لها: كيف تجدينك يا بنية؟ قالت: اني وجعة، و يزيدني ما لي طعام آكله. فقال: يا بنية أما ترضين انك سيدة نساء العالمين؟. فقالت: يا أبت، فأين مريم بنت عمران؟. قال: تلك سيدة نساء عالمها، و أنت سيدة نساء عالمك، أما و اللّه لقد زوجتك سيدا في الدنيا و الآخرة». ثم قال الطبري خرّج هذا الحديث أبو عمر، و خرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي، و بقية البحث عند تفسير الآية 42 من هذه السورة فقرة «من هي سيدة النساء».
[سورة آلعمران (3): الآيات 38 الى 41]
تفسير الكاشف، ج2، ص: 52
اللغة:
هنا اشارة الى القريب، و هنالك الى البعيد، و هناك لما بينهما، و الأصل ان يشار بها إلى المكان، و قد يشار بها إلى الزمان، و لدن ظرف مكان، و تستعمل في الزمان، و هي مبنية، و لا يدخل عليها من حروف الجر إلا من، و الذرية تطلق على الواحد، و ما فوق، و سيد القوم رئيسهم، و يطلق على الشريف و العالم، على شريطة أن لا يكونا منافقين، لحديث: «لا تقولوا للمنافق سيدا» «1» .
و الحصر الحبس، و المراد بالحصور هنا الذي يمنع نفسه عن النساء، أو عن المعاصي و الشهوات، مع القدرة عليها، و الرمز الاشارة، و العشي ظرف زمان من الزوال الى الغروب، و الإبكار من الفجر إلى الضحى.
الإعراب:
جملة هو قائم حال من الهاء في نادته، و جملة يصلي صفة لقائم، أو حال من الضمير في قائم، و مصدقا حال من يحيى، و جملة بلغني الكبر حال، و مثلها جملة امرأتي عاقر، و كذلك خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك، أو صنع
(1) رأيت هذا في تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي.
تفسير الكاشف، ج2، ص: 53
اللّه كذلك، و اللّه يفعل ما يشاء مبتدأ و خبر، و رمزا قائم مقام المفعول المطلق، أي إلا كلاما رمزا و مثله كثيرا، أي ذكرا كثيرا.
المعنى:
(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) . سبق القول: ان زكريا كان زوجا لخالة مريم ام عيسى، و انه هو الذي كفلها، و لم يكن لزكريا ولد، و حين رأى صلاح مريم، و ما أجرى اللّه على بدها من الكرامات تحركت في نفسه عاطفة الأبوة، و حب الذرية، فاتجه الى اللّه يدعو و يتضرع اليه أن يحقق رغبته؛ و استجاب اللّه سبحانه لدعوته:
(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) . يحيى اسم سماه اللّه به قبل أن يولد، و لم يجعل له من قبل سميا- كما في الآية 7 من سورة مريم- و على هذا فلا وجه للبحث ان هذا الاسم هل هو عبري أو عربي، كما في بعض التفاسير .. أجل، له مصدر في اللغة، و هو الحياة، و يتناسب اسمه مع احياء اللّه سبحانه لعقر أمه. (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) . قيل: ان كلمة اللّه اشارة الى عيسى الذي خلقه اللّه بكلمة (كن) من غير أب .. و لكن عموم كلمة اللّه يرجح الحمل على جميع آياته و أحكامه.
و قال صاحب مجمع البيان: كان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر، و هو أول من صدقه، و شهد بأن مولده معجزة من اللّه، و كان ذلك أقوى الأسباب لإظهار أمر عيسى، لأن الناس كانوا يثقون بيحيى، و يقبلون منه ما يقول.
(و سيدا) في العلم و الدين و مكارم الأخلاق (و حصورا) يملك زمام نفسه و يمنعها عن الذنوب، و قيل عن إتيان النساء (وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) و كل الأنبياء صالحون، بل معصومون، و العصمة فوق العدل و الصلاح، و عليه يتعين أن يكون قوله: (مِنَ الصَّالِحِينَ) اشارة إلى أن زكريا تحدّر من أصلاب طاهرة، و أرحام مطهرة .. و يتفق هذا مع قول الشيعة الإمامية: ان جميع آباء الأنبياء يجب أن يكونوا مؤمنين باللّه و اليوم الآخر.
تفسير الكاشف، ج2، ص: 54
و من الطريف قول بعضهم- كما في تفسير الرازي- ان من الصالحين اشارة الى «ان ما من نبي إلا و قد عصى، أو همّ بمعصية غير يحيى فلم يعص، و لم يهم». و بالاضافة الى أن في هذا القول مسا بمقام محمد (ص) فانه يتنافى و حكم العقل، لأن النبي انما أرسل لدفع المعاصي، فإن عصى احتاج الى نبي ..
بداهة ان القذارة لا تزال بمثلها .. تعالى اللّه و أنبياؤه عما يقول الجاهلون.
(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) . قالوا كان زكريا، حين قال هذا، قد أتم 120 سنة من عمره، و امرأته 98 ..
و هنا سؤال يفرض نفسه، و هو ان زكريا سأل ربه أن يهبه ذرية طيبة، و معنى هذا انه سأل شيئا ممكنا في اعتقاده، فكيف عاد و استبعد ذلك عند ما بشرته الملائكة؟
الجواب: لم يكن قوله هذا شكا و استبعادا، و انما هو استعظام لقدرة اللّه التي تخطت السنن و العادات، تماما كما تقول لمن يهب الكثير الثمين من ماله:
كيف فعلت ما لم يفعله أحد سواك؟ و أيضا يتضمن هذا الاستعظام و التعجب الشكر للّه على هذه النعمة الجليلة التي لم تكن في الحسبان .. و أيضا نستفيد من أصل المعجزة ان على الإنسان أن لا يقيس مشيئة اللّه بما يراه هو ممكنا أو مستحيلا.
(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) . لما كان علوق الرحم بالنطفة أمرا خفيا أحب زكريا أن يعلم به حين حدوثه، ليتلقاه بالشكر منذ اللحظة الأولى، و لهذا سأل ربه أن يجعل له علامة يعرف بها وقت العلوق، فقال له تعالى: (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ) .