کتابخانه تفاسیر
تفسير الكاشف
الجزء الأول
سورة البقرة
الجزء الثاني
سورة آل عمران
الجزء الثالث
الجزء الرابع
الجزء الخامس
الجزء السادس
الجزء السابع
تفسير الكاشف، ج4، ص: 211
جاء؟ و هل كان قائما على قرار؟ فلا نص على شيء من ذلك في آية، أو رواية متواترة، و العقل وحده لا يملك العلم به، لذا نترك البحث عنه، و كل ما قرأنا في هذا الباب لا يعدو الحدس و التخمين، أما المادة الأولى التي وجد منها الكون فلا تفسير لها عندنا إلا قوله تعالى: كوني فكانت، و من أنكر هذا علينا تلونا قوله سبحانه: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ» .
(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي ان اللّه أودع فينا و في الأرض ما أودع من الطاقات ليميز بين الذين يعيشون بكدّ اليمين، و الذين يعيشون على حساب المستضعفين، فيعاقب هؤلاء على عصيانهم و يثيب أولئك على طاعتهم.
(وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) . هذه الآيات كغيرها من الآيات الكثيرة التي أخبرت عن المكذبين بالبعث، مع فارق واحد، و هو الاخبار عنهم هنا بأنهم شبهوا الحديث عن البعث بالسحر في التمويه على الناس و خداعهم، لينقادوا الى طاعة النبي، و يضمن لنفسه الرئاسة عليهم.
(وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ - أي مدة مقدرة- لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) ؟ و ما الذي منع من وقوع العذاب علينا الآن ان كان حقا (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) - العذاب- (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) لأن بأسه تعالى لا يرد عن القوم المجرمين (وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ينزل بهم العذاب جزاء استخفافهم به، و عدم خوفهم من اللّه و غضبه .. و أشد الذنوب ما استخف به صاحبه، كما قال الامام علي (ع). و من أقواله: ان احسن الناس ظنا باللّه أشدهم خوفا منه.
[سورة هود (11): الآيات 9 الى 11]
تفسير الكاشف، ج4، ص: 212
اللغة:
ذاق الشيء اختبر طعمه، و أذاقه جعله يذوقه، و المراد بالاذاقة هنا الإعطاء.
و نزع الشيء من مكانه قلعه. و يئوس مبالغة في اليائس. و قال الطبرسي: النعماء النعمة تظهر على صاحبها، و الضراء المضرة كذلك أخرجتا مخرج الأحوال الظاهرة مثل حمراء.
الإعراب:
و لئن أذقنا اللام جواب قسم محذوف. و جملة انه ليؤوس سادة مسد جواب القسم و الشرط المستفاد من (ان). و الا الذين صبروا في محل نصب على الاستثناء المتصل من الإنسان.
المعنى:
(وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) . إذا رزق الإنسان البسطة في الصحة، و السعة في المال، و البر في الأهل، ثم أصيب بشيء بها أو بشيء منها بسبب من الأسباب الجارية- إذا كان كذلك قطع الرجاء من رحمة اللّه، و كفر بنعمه، حتى ما تبقّى له من نعم (وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) . و إذا خرج من عسر إلى يسر، و من خوف إلى أمن أخذته النشوة و تعاظم على الناس، و نسي ما كان فيه بالأمس. و قدمنا مرارا ان اللّه يسند الأحداث كلها اليه من باب اسناد الشيء إلى
تفسير الكاشف، ج4، ص: 213
سببه الأول، و خالق الكون بما فيه.
و لا بد من الاشارة إلى ان القرآن ينظر إلى الإنسان من خلال عقيدته و سلوكه، بماذا يؤمن؟ و ما ذا يعمل؟. و هذه النظرة نتيجة لازمة لطبيعة القرآن من حيث انه كتاب دين و هداية. و على هذا الأساس يحكم على الإنسان بأنه صالح أو طالح طيب أو خبيث. و معلوم ان العقيدة التي دعا اليها هي الايمان باللّه و رسله و اليوم الآخر، و ان العمل الذي امر به هو العمل الصالح: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ - 7 البينة» .. و بكلمة ان الإسلام يوجه الإنسان إلى الغاية التي يجب أن يكرس حياته من أجلها، فإن انحرف عنها نعته القرآن بأقبح الأوصاف كالظالم و الخاسر و الكافر و الجاهل و الطاغي و الكنود، و ما إلى ذلك من الرذائل.
ان هذه الأوصاف ليست تحديدا لطبيعة الإنسان و ماهيته، و انما هي تفسير لسلوكه في بعض مواقفه، و يدلنا على ذلك ان كل صفة ذكرها القرآن مقرونة بحادثة من الحوادث، فلقد وصف الإنسان باليأس إذا نزلت به نازلة، و بالفرح و البطر إذا استغنى، و بالجزع و الهلع إذا مسه الضر، و نحو ذلك. و قد خفيت هذه الحقيقة على كثيرين، و ظنوا ان هذه الأوصاف وردت في القرآن تحديدا لحقيقة الإنسان و ماهيته و أخذوا ينعتونه بها في غير المناسبات التي جاءت في كتاب اللّه .. و لو صدق ظنهم لما جاز أن يؤاخذ اللّه على الكفر و الطغيان، و كان قوله: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) تكريما للكفر و الظلم .. تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
و على هذا يكون المراد بالإنسان في قوله: (وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) من لا يؤمن باللّه، أو آمن به نظريا لا عمليا، لأن من آمن به حقا فإنه يتوكل عليه وحده في جميع حالاته، و يشكره في السراء و الضراء، و يخشى و يتواضع إذا استغنى، و يصبر و يرجو إذا افتقر، فإن الايمان نصفان: نصف خوف، و نصف رجاء.
و الذي يؤكد ان المراد بالإنسان من ذكرنا، و ليس مطلق الإنسان قوله تعالى بلا فاصل: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ) .
تفسير الكاشف، ج4، ص: 214
صبروا على ما أصابهم من الضراء ايمانا باللّه و طمعا بثوابه و رضوانه، و عملوا الصالحات في الشدة و الرخاء، و هذه هي سمة أرباب العقائد و المبادئ، لأن العقيدة متى استقرت في القلب تصبح كالروح في الجسم لا تفارقه إلا بالموت.
[سورة هود (11): الآيات 12 الى 14]
اللغة:
ضيق الصدر كناية عن الغم و الحزن. و الكنز ما يدخر من المال. و في مجمع البيان اختلق و اخترق و خرق و خرص و خلق إذا كذب.
الإعراب:
لعلّ تعمل عمل ان، و معناها هنا الاستفهام على رأي الكوفيين كما في مغني اللبيب. و ضائق به صدرك، ضائق مبتدأ و ضمير به يعود الى بعض ما يوحى،
تفسير الكاشف، ج4، ص: 215
و صدرك فاعل ضائق سادّ مسد الخبر. و المصدر المنسبك من ان يقولوا مفعول لأجله لتارك أي مخافة قولهم. و لولا بمعنى هلا. أم يقولون افتراه/ (ام) بمعنى بل، و ضمير افتراه لبعض ما يوحى، أو لما يوحى. و مثله صفة لسور، و مفتريات صفة ثانية. و ما في انما انزل كافة لأن عن العمل. و ان لا إله إلا هو، و الجملة من لا و اسمها و خبرها خبر ان.
المعنى:
(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) . كان النبي (ص) يتلو على المشركين آيات من القرآن داعيا الى الايمان بالوحدانية و البعث، و كانوا يهزءون حينا، و حينا يقترحون عليه معجزات تعنتا، لا استرشادا، و كان موقفهم هذا من دعوة النبي (ص) يحزنه و يؤلمه، فقال له المولى جل ثناؤه مخففا عنه: امض في دعوتك، و لا تبال بما يقولون و يقترحون .. و ما ذا تصنع لتتقي أقوالهم و تعنتهم؟ هل تترك بعض ما يوحى اليك، و تحذف من القرآن ما لا يعجبهم من آياته؟. كلا، انك لن تفعل. اذن، لما ذا الحزن و ضيق الصدر؟. هذا هو المعنى المراد من قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) لأن النبي (ص) معصوم، لا يترك شيئا مما يوحى اليه، و محال ان يترك، فالآية أشبه بقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ - 42 المائدة».
(وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) اقترح المشركون على النبي فيما اقترحوا ان تمطر السماء ذهبا و فضة، أو يأتي ملك من الملائكة يشهد بنبوته .. هكذا يفكر أصحاب الأموال و الثروات قديما و حديثا، و يؤمنون بأن المناصب الشريفة يجب أن تكون وقفا على الأغنياء، أما الفقراء فيجب ان يكونوا بمعزل عن القيادات و المناصب .. و كان تعنتهم هذا يسبب للنبي الهمّ و الكرب، فقال له المولى: (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) عليك ان تبلغ ما أوحي اليك، و لا تكترث بسفاهة السفهاء، و جهل الجهلاء (وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) .
فالأقوال لديه محفوظة، و السرائر مبلوّة، و كل نفس بما كسبت رهينة .. و يتصل بهذه الآية ما ذكرناه في ج 3 ص 248 بعنوان: «طراز من الناس».
تفسير الكاشف، ج4، ص: 216
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) . سبق نظير هذه الآية مع الكلام مفصلا عن اعجاز القرآن في ج 1 ص 64 عند تفسير الآية 23 من سورة البقرة.
ضمير لم يستجيبوا للمكذبين بالقرآن، و خطاب (لكم) للنبي و كل داعية الى الإسلام، و خطاب فاعلموا لكل من كذب بالقرآن في كل عصر و مصر، و المعنى فليعلم المكذبون الذين عجزوا عن معارضة القرآن انه نزل على محمد (ص) من عند اللّه الذي لا إله سواه (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) حيث لا سبيل لكم بعد العجز عن المعارضة إلا التسليم و الإذعان.
و كفى القرآن اعجازا انه باق على قيمته و عظمته رغم القرون الطوال، و سيبقى كذلك يجذب اليه كل قارئ و سامع الى آخر يوم، و ما ذاك إلا لأن حقائقه انسانية وجدانية يعترف بها كل ذي لبّ أيا كان مذهبه و مشربه.
[سورة هود (11): الآيات 15 الى 17]
تفسير الكاشف، ج4، ص: 217
اللغة:
التوفية تأدية الحق كاملا، و البخس تأديته ناقصا. و حبط الشيء فساده و بطلانه.
و البينة ما يتبين به الحق من الباطل. و المرية الشك.
الإعراب:
نوفّ مضارع مجزوم جوابا لمن كان. و باطل مبتدأ، و ما كانوا فاعل لباطل ساد مسد الخبر، و يجوز ان تكون (ما) مبتدأ مؤخر، و باطل خبر مقدم. أ فمن كان على بينة (من) مبتدأ، و خبره محذوف، تقديره كمن لا بينة له. و الهاء في يتلوه تعود إلى البينة لأنها بمعنى البرهان. و من قبله كتاب موسى عطف على شاهد. و اماما حال.
المعنى:
من يزرع يحصد، و من يتاجر متقنا فن التجارة يربح، و من يجتهد في مدرسته ينجح، و من يقم المصانع، و يحفر المناجم، و يحتكر المعادن تكدس الأموال في خزائنه .. و هكذا كل من سعى لشيء يلقى ثمرة سعيه مؤمنا كان أو كافرا، فالأرزاق تأتي نتيجة للأعمال لا ينقصها كفر، و لا يزيدها ايمان، و هذا هو الذي اراده اللّه من قوله: (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) . أجل للأوضاع الفاسدة تأثيرها كما ذكرنا في ج 3 ص 94.
و نعيم الحياة في الآخرة يناط بالعمل في الدنيا تماما كالزينة في هذه الحياة، سنة اللّه في خلقه، و لن تجد لسنة اللّه تبديلا، قال تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ - 142 آل عمران».