کتابخانه تفاسیر
تفسير الكاشف
الجزء الأول
سورة البقرة
الجزء الثاني
سورة آل عمران
الجزء الثالث
الجزء الرابع
الجزء الخامس
الجزء السادس
الجزء السابع
تفسير الكاشف، ج7، ص: 421
الى مجلسك جماعات جماعات، و يأخذون عندك أماكنهم يمينا و شمالا، يسمعون ما تتلوه من آيات اللّه، ثم يرددونه فيما بينهم ساخرين من البعث و الحساب، و يقول بعضهم لبعض: ان صح هذا فنحن أولى الناس باللّه و جنته، لأنّا أكثر أموالا و أعز نفرا من محمد و صحابته .. فأجابهم سبحانه بقوله عز من قائل: (أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) ؟ لا نصيب لكم ايها المكذبون من جنة اللّه و ثوابه، و لا شيء لكم عنده إلا سوء المصير .. و كيف تطمعون في الجنة و أنتم تكفرون بها، و تسخرون من الرسول الذي دعاكم الى العمل لها؟. أ تحسبون ان الأموال و الأوثان تقربكم من اللّه زلفى؟.
(كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) . و هم يعلمون علم اليقين ان اللّه خلقهم من ماء مهين: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ» - 6 الطارق و إذا كان أصل الإنسان، كل انسان، واحدا فكيف يكون بعضهم أعظم من بعض عند اللّه، و أولى به من غيره؟. كلا، لا فضل لأبيض على اسود، و لا لغني على فقير إلا بالتقوى و العمل الصالح .. و قوله تعالى: «مِمَّا يَعْلَمُونَ» يتضمن التعريض بالمكذبين بالبعث و الرد على قولهم بأن من يصير عظاما و ترابا لا تعيده أية قوة الى الحياة، و وجه الرد ان الذي خلق الإنسان من ماء مهين قادر على ان يحيي العظام و هي رميم.
(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) . المراد بالمشارق و المغارب مشارق الكواكب و مغاربها، أو مشارق الشمس و مغاربها، و هي تظهر للأعين و تختفي عنها بسبب دوران الأرض أمامها، و ضمير منهم يعود الى الذين كفروا، و المعنى ان اللّه سبحانه يقسم- على القول ان «لا» زائدة- يقسم، جلت عظمته، انه قادر على ان يهلك المكذبين، و يستخلف مكانهم قوما آخرين لا يعصون اللّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون، و إذا أراد ذلك فلا راد لمشيئته. و تقدم مثله في الآية 38 من سورة محمد.
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) . هذا تهديد و وعيد، و معناه دعهم يا محمد و شأنهم .. فليسخروا و يهزءوا ما شاء لهم العبث و الباطل فإن نهايتهم الى النار و بئس القرار. و تقدم مثله بالحرف في الآية 83
تفسير الكاشف، ج7، ص: 422
من سورة الزخرف ج 5 ص 562 (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) . يسرعون من قبورهم الى نقاش الحساب كما كانوا يسرعون بالأمس من بيوتهم الى الأصنام و الأوثان، و لكن شتان ما بين اليومين، فقد كانوا في يوم الدنيا يسرعون الى آلهتهم آمنين مطمئنين، أما في يوم القيامة فيسرعون الى اللّه، و الأرض تهتز تحت أقدامهم من هول المطلع (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) قد استولى عليهم الذل و الهوان: «كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً» 28 يونس ج 4 ص 152 (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) و منه يسخرون و به يستعجلون.
تفسير الكاشف، ج7، ص: 423
سورة نوح
28 آية مكية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة نوح (71): الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تفسير الكاشف، ج7، ص: 424
اللغة:
استغشوا ثيابهم يقال: استغشى الثوب إذا تغطى به، و يجعل كناية عن أخفى الحالات. و المراد بالسماء هنا المطر. و المدرار الغزير.
الإعراب:
ان انذر، و ان اعبدوا يجوز أن تكون «ان» مفسرة بمعنى أي و يجوز ان تكون مصدرية على تقدير الباء أي بأن انذر و بأن اعبدوا. ليلا و نهارا ظرفان لدعوت. و فرارا تمييز محول عن فاعل لأن معناه زاد نفورهم مثل طاب محمد نفسا أي طابت نفس محمد، و قيل: مفعول ثان ليزدهم. و جهارا مفعول مطلق لدعوتهم لأن الدعوة كانت بالقول، و الجهر من صفاته، فيكون مثل قعدت القرفصاء، و قيل: هو مصدر في موضع الحال أي مجاهرا. و مدرارا حال و صاحبه السماء.
المعنى:
فسّر الشيخ عبد القادر المغربي جزء تبارك، و نقل فيه عن كتب الأوائل، و هو يفسر هذه الآيات: ان تاريخ عبادة الأوثان يبتدئ بزمن «انوش بن شيث بن آدم» و ان الشرك في زمن نوح قد بلغ الغاية، فاختاره اللّه سبحانه لنضال هذا الشرك، و إنذار المشركين بالهلاك إن أصروا على الضلال .. و اسم نوح الراحة، و بينه و بين آدم جده الأكبر 1056 سنة، و لما حدث الطوفان كان عمره 600 سنة، و عاش بعده 350 عاما، و أدركه حفيده ابراهيم الخليل، و عاش معه أكثر من نصف قرن، و بعد أن نجا نوح من الطوفان انصرف الى الأرض يحرثها و يغرسها. هذا ملخص ما نقله المغربي عن كتب الأوائل، و اللّه أعلم بخلقه من أنفسهم.
(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ) . أرسل
تفسير الكاشف، ج7، ص: 425
سبحانه نوحا الى قومه بأمور ثلاثة: الأول أن يتركوا عبادة الأصنام و يعبدوا إلها واحدا. الثاني أن يفعلوا الخير و يتقوا الشر. الثالث أن يطيعوه فيما يأمر و ينهى، و ضمن لهم- إن استجابوا- أمرين: الأول (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) التي اقترفتموها قبل الايمان لأن الايمان يجبّ ما قبله. أما الذنوب التي ارتكبوها بعد الايمان فإنهم مسؤولون عنها، و هذا ما تومئ اليه كلمة «من ذنوبكم».
الأمر الثاني (وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . إذا آمنتم باللّه وحده يدرأ عنكم عذاب الاستئصال بالطوفان و نحوه، و يمهلكم حتى تستوفوا العمر الطبيعي، و يؤجل حساب من يذنب منكم الى يوم القيامة، و إلا عجّل لكم عذاب الاستئصال في الدنيا (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ان اللّه ليس بغافل عما يعمل الظالمون.
(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) .
ليلا و نهارا أي دائما: دعاهم نوح دعوة الحق، و ألح عليهم حتى (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا» - 32 هود و لكنه مضى في دعوته، و مضوا بدورهم في العناد و النفور (وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) جعلوا أصابعهم في آذانهم أي سدوا مسامعهم عن دعوة الحق، و استغشوا ثيابهم تغطوا بها كيلا يروا وجه الداعي، و قد يكون هذا حقيقة، و يجوز أن يكون تعبيرا مجازيا عن عنادهم و إصرارهم على الضلال، و أيا كان فإن المعنى واحد، و هو النفور من دعوة الحق تعاظما على نوح الذي يرونه دونهم منزلة و مقاما فكيف يكونون في عداد أتباعه، كما جاء في الآية 27 من سورة هود: «وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ» .
(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) . قال جماعة من المفسرين: ان قول نوح أولا: دعوت قومي ليلا و نهارا، و قوله ثانيا: دعوتهم جهارا، و قوله ثالثا: أعلنت و أسررت- يدل على ان دعوته كانت على ثلاث مراتب: ابتدأها في السر، ثم ثنى بالجهر، ثم ثلّث بالإعلان و السر معا. و ليس هذا بعيدا عن ظاهر الآيات، و لكن يجوز أن يكون مراد
تفسير الكاشف، ج7، ص: 426
نوح من هذا العطف و التكرار انه دعاهم بكل أسلوب و استمر على ذلك بلا ملل و فتور، و لكن على غير جدوى.
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) . إذا آمنوا باللّه وحده و أخلصوا له بالقول و الفعل فإن نوحا يضمن لهم على اللّه سبحانه ان يكفّر عنهم ما سلف من سيئاتهم، و ان يغنيهم من فضله بالأموال و الأولاد، فتفيض السماء عليهم بخيراتها، و الأرض بثمراتها، و يجمع لهم بين الصحة و الأمان و الرخاء و الهناء مع تكثير النسل.
الايمان و الرخاء:
و تسأل: ان هذه الآيات ربطت بين الايمان و التقوى من جهة، و بين الرخاء و الهناء من جهة مع ان العيان يثبت العكس .. و أوضح مثال على ذلك الولايات المتحدة الامريكية، فإنها أطغى دولة في الكرة الأرضية، و أكثرها فسادا و اعتداء حتى اتخذت لنفسها مبدأ لا تحيد عنه، و هو من لم يكن معها- أي عبدا لها- فهو عدوها اللدود .. و كلنا يعلم ما كان لهذه السياسة من ويلات، فما من دم يسفك أو فساد يظهر في شرق الأرض و غربها إلا و للولايات المتحدة يد فيه بشكل أو بآخر .. و ما من خائن لأمته و وطنه إلا و يجد في أحضانها مقاما كريما، و عرينا أمينا .. و مع هذا فهي أقوى و أغنى دول العالم على الإطلاق، و كفى شاهدا على ذلك ان دخلها يبلغ 43 من مجموع الانتاج العالمي مع العلم بأن نسبة سكانها عددا الى نسبة سكان العالم هي 6 فما هو وجه الجمع بين هذا و بين ظاهر الآيات التي ربطت الرخاء بالايمان؟
الجواب أولا: ان هذه الآيات نزلت في قوم نوح خاصة، و لا دلالة لها على العموم و الشمول كي يتعدى بها الى غيرهم .. هذا، الى ان اللّه شأنا خاصا في معاملة الأمم التي ينذرها بلسان أنبيائه مباشرة.
ثانيا: ان ثراء الولايات المتحدة من الشيطان لا من الرحمن لأن معظمه من السلب و النهب.
تفسير الكاشف، ج7، ص: 427
ثالثا: ان هذه الآيات ربطت بين سعادة الدنيا و الآخرة معا و بين الايمان لا بينه و بين سعادة الدنيا وحدها: «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» - 178 آل عمران.
رابعا: و ما يدريك ان الولايات المتحدة و غيرها من الدول الباغية هي في أمن و أمان؟ و أي عاقل يأمن الغوائل؟. و هل دامت الامبراطورية الرومانية بل و البريطانية و غيرها و غيرها حتى تدوم غطرسة الولايات المتحدة و مفاسدها؟ و هذه بشائر الانهيار يتبع بعضها بعضا، فمن موجات التحرر في العالم كله الى ثورة الثلاثين مليون زنجي في قلب الولايات المتحدة، الى التضخم المالي الذي تداويه بالحروب المحدودة، و من سيطرة الصناعة العسكرية الى تلاعب الصهاينة بالحكام و الشيوخ و النواب، و من امبراطورية المخابرات الى القتل و الخطف و إشعال الحريق الى الحشيش و المخدرات، و من الصراع و العداء مع أكثر أهل القارات الخمس الى رئيس يحمي و يحامي عن اللصوص و سفاكي الدماء .. الى ما لا نهاية ..
و مستحيل أن يدوم أمن و رخاء لهذا النسيج الغريب العجيب سواء أ كان من صنع الولايات المتحدة أم صنع غيرها.
و من غريب الصدف اني في اليوم الذي كنت أكتب فيه هذه الكلمات قرأت في جريدة الجمهورية المصرية تاريخ 0-- 1970 نقلا عن صحف نيويورك: