کتابخانه تفاسیر
تفسير الكاشف
الجزء الأول
سورة البقرة
الجزء الثاني
سورة آل عمران
الجزء الثالث
الجزء الرابع
الجزء الخامس
الجزء السادس
الجزء السابع
تفسير الكاشف، ج3، ص: 33
[سورة المائدة (5): الآيات 15 الى 16]
الاعراب:
جملة يبين لكم حال من رسولنا. و سبل السلام بدل من رضوانه، و يجوز أن يكون مفعولا ثانيا ليهدي، لأن هدى تتعدى تارة الى المفعول الثاني بواسطة حرف الجر مثل هداه الى الخير، و تارة بلا واسطة مثل هداه الخير.
المعنى:
أمر اللّه سبحانه نبيه (ص) و المسلمين جميعا أن يجادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن، ثم ضرب لهم أمثلة من هذا الجدال ليكونوا على بينة من معناه و مفهومه، من ذلك أن يقول المسلمون لأهل الكتاب: «آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ - 46 العنكبوت»:
و هناك آيات تحصي على أهل الكتاب بعض آثامهم، و منها هذه الآية التي نفسرها، فقد ذكرتهم بتحريف التوراة و الإنجيل، و عنادهم لمحمد الذي جاءهم بالهدى و النور.
تفسير الكاشف، ج3، ص: 34
(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) . المراد بالرسول محمد (ص)، فإنه بيّن لليهود و النصارى فيما بيّن بعض ما أخفوه من الكتاب الذي معهم، فالنصارى أخفوا التوحيد، و هو أساس الدين، و اليهود أخفوا من العقيدة خبر الحساب و العقاب يوم القيامة، و من الشريعة تحريم الربا، و رجم الزاني، كما أخفى اليهود و النصارى معا بعثة محمد: «الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ - 156 الأعراف».
لقد أطلع اللّه سبحانه محمدا (ص) على كل ما أخفاه و حرّفه اليهود من التوراة، و النصارى من الإنجيل، ثم أخبرهم محمد (ص) بكثير مما كانوا يخفون، و سكت عن كثير مما يعلم من تحريفهم، و هذا معنى قوله تعالى:
«يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» . أي يسكت عنه.
و جاء هذا الإخبار من محمد (ص) دليلا قاطعا على نبوته، و معجزة من معجزات القرآن التي لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيها و يشك، لأن النبي (ص) كان أميا لم يقرأ كتابا، و لم يخبره أحد عما في كتب اليهود و النصارى.
و تسأل: لما ذا أخبرهم النبي بالبعض فقط، دون الجميع؟
الجواب: ان الغاية هي اعلامهم بأن الرسول عالم بما يخفون، و هذه الغاية تحصل بالأخبار عن البعض، كما تحصل بالأخبار عن الكل .. هذا، الى انهم إذا علموا بأنه (ص) عالم ببعض ما أخفوه فقد علموا بأنه عالم بالكل.
الإسلام و أنصار السلام:
(قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ) . قيل: النور محمد، و الكتاب القرآن. و قيل: هما وصفان للإسلام .. و لا اختلاف بين القولين الا في التعبير، فان محمدا و الإسلام و كتاب اللّه معان متلازمة متشابكة، لا ينفك بعضها عن بعض.
(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) . أي من رغب في مرضاة اللّه وحده، و طلب الحق لوجه الحق فانه يجد في الإسلام بغيته و مرامه، لأن فيه ثلاث فوائد:
تفسير الكاشف، ج3، ص: 35
1- (سُبُلَ السَّلامِ) . و ليس المراد بالسلام خصوص السلام الذي ينشده و ينادي به أنصار السلام من طلب الأمن على الأرواح و الأموال للشعوب، و انما المراد به السلام الكامل الشامل لجميع الشعوب، و الأفراد، و سلام البيت و الأسرة من التربية الفاسدة، و سلام العقل من الجهل و الايمان بالخرافات و الأساطير، و سلام النفس من الطمع و الحقد و الكذب و المكر.
2- (وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) . أي يخرجهم اللّه بأمره تعالى من ظلمات التعبد للأصنام الى نور التوحيد الذي يحررهم من كل قيد إلا التعبد للّه الواحد القهار.
3- (وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) . و الصراط المستقيم عند اللّه هو السبيل الذي يجعل الحياة، هذه الحياة، متعة و هناء لا عذابا و شقاء.
و بعد، فهل عند أنصار السلام و غيرهم من الذين ينادون بتنمية الانتاج، و توفير العيش للجميع، هل عند هؤلاء و غير هؤلاء منهج أفضل و أجدى مما عند الإسلام؟. و هل يحبون عباد اللّه أكثر من حب اللّه لعباده، أو انّهم أعلم منه بما يصلح خلقه و يفسده؟ و بالتالي، هل في عقيدة الإسلام، و شريعة الإسلام، و أخلاق الإسلام، أو في حكم واحد من أحكام الإسلام ما يتنافى مع زيادة الانتاج و توزيعه بالحق و العدل؟. ان القرآن أول الدعاة الى حياة أفضل، قال سبحانه في الآية 9 من الاسراء: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» .
قال المفسرون: أي للحالة الأفضل.
و مهما شككت، فاني على علم اليقين ان ما من أحد يدرس الإسلام دراسة صحيحة، أي بكفاءة و تجرد، إلا آمن به و أذعن له، من حيث يريد، أو لا يريد.
تفسير الكاشف، ج3، ص: 36
[سورة المائدة (5): الآيات 17 الى 19]
الاعراب:
جميعا حال من المسيح و امه و من في الأرض. و على فترة متعلق بمحذوف حالا من الضمير في يبين. و المصدر المنسبك من أن تقولوا مجرور باضافة مفعول له محذوف، و التقدير مخافة قولكم ما جاءنا من بشير.
المعنى:
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) . قد نفهم ان أحكام الشرائع الوضعية تتغير بتغير الأزمان، أما ان تتغير اصول العقيدة الدينية بتغير الظروف و الأوقات فبعيد عن فهم كل عاقل .. و لكن هذا ما حدث بالفعل للعقيدة المسيحية، فقد ابتدأت هذه العقيدة بالتوحيد الخالص في عيسى (ع)، و بقيت على التوحيد أمدا غير قصير فرق من المسيحيين، منها فرقة ابيون، و فرقة بولس الشمشاطي، و فرقة أريوس، و قد نص القرآن صراحة على ان
تفسير الكاشف، ج3، ص: 37
عيسى (ع) أتى بعقيدة التوحيد:
و ظلت عقيدة التوحيد عند كثير من المسيحيين، و لم تعلن عقيدة التثليث مدعومة بالقوة الى سنة 325 م حيث أصدر مجمع نيقية قرارا بإثبات ألوهية المسيح، و تكفير من يقول: انه انسان، و حرق جميع الكتب التي تصفه بغير الألوهية، و نفذ قسطنطين امبراطور الرومان هذا القرار، و أصبح المسيح إلها عندهم بعد أن كان بشرا، و صدق عليهم قول الفيلسوف الصيني (لين يوتانغ):
ان الاغريق جعلوا آلهتهم مثل الرجال، أما المسيحيون فقد جعلوا الرجال مثل الآلهة «1» .
و بهذا يتبين معنا ان الاعتقاد بألوهية عيسى (ع) كان قبل نزول القرآن بحوالى ثلاثة قرون- اذن- يكون المعنى المراد من قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ) المعنى الظاهر من اللفظ، و لا داعي للتأويل بالحلول و الاتحاد، كما فعل كثير من المفسرين القدامى زاعمين ان أكثر النصارى لا يقولون بربوبية عيسى، بل يقولون: ان اللّه حل به، أو اتحد معه، و عليه فلا تعدد .. و قال صاحب تفسير المنار: «ان أمثال الزمخشري و البيضاوي و الرازي لا يعتد بما يعرفون عن النصارى، لأنهم لم يقرءوا كتبهم، و لم يناظروهم فيها». و صدق صاحب المنار، فان من يرجع الى كتبهم يجدها صريحة في التثليث، و نقل الشيخ أبو زهرة الكثير منها في كتاب «محاضرات في النصرانية»
(1). المجامع عند النصارى تنقسم الى ثلاثة اقسام: مجامع مسكونية، اي تجمع رحال الكنيسة في جميع أنحاء المعمورة، و هذه حكمها لا يرد، و مجامع ملية، اي تختص بملة دون ملة، و مجامع اقليمية، اي خاصة باقليم دون إقليم .. و تجدر الاشارة الى ان أبا حنيفة يقول: ليس للّه احكام واقعية، و ان حكمه ما يراه المجتهد بالذات، اي ان حكم اللّه واقعا ما حكم به الفرد فضلا عن الجماعة و المجامع.
تفسير الكاشف، ج3، ص: 38
و عقد في هذا الكتاب فصلا خاصا بعنوان «النصرانية كما هي عند النصارى و في كتبهم»، و مما جاء فيه ان القس بوطر ألّف رسالة أسماها «الأصول و الفروع» قال فيها: «ان في اللاهوت ثلاثة أقانيم، و لكل منهم عمل خاص في البشر».
و تقدم الكلام عن الأقانيم الثلاثة عند تفسير الآية 50 من النساء.
الاشاعرة و النصارى:
و تسأل: ان النصارى يؤمنون بالتثليث و الوحدانية في آن واحد، لأنهم يقولون «بسم الأب و الابن و الروح القدس إلها واحدا»، فكيف يمكن الجمع بين الوحدانية و التثليث، كيف يكون الواحد ثلاثة، و الثلاثة واحدا؟
و أجاب المسيحيون أنفسهم عن ذلك بأن العقيدة فوق العقل، و هم يربون صغارهم على ذلك، و يقولون لهم: إذا لم تفهموا هذه الحقيقة الآن فإنكم سوف تفهمونها يوم القيامة.
و بهذه المناسبة نشير الى أن الأشاعرة من المسلمين قالوا: ان اللّه قد أراد الكفر به من العبد، و مع ذلك يعاقبه عليه .. فإذا كان قول النصارى: الثلاثة واحد غير معقول فان قول الأشاعرة: اللّه يفعل الشيء ثم يعاقب عبده عليه غير معقول أيضا.
أما المسلمون فيؤمنون ايمانا جازما بأن كل ما يقره العقل يقره الدين، و ما يرفضه العقل يرفضه الدين، و يروون عن نبيهم انه قال: أصل ديني العقل ..
و ان رجلا سأله عن معنى البر و الإثم؟ فقال له: استفت قلبك، البر ما اطمأنت اليه النفس، و اطمأن اليه القلب، و الإثم ما حاك في النفس، و تردد في الصدر، و ان أفتاك الناس و أفتوك.
(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) . هذه الآية من أقوى الردود على المسيحيين، و أصدق الأدلة على عدم ألوهية المسيح، لأن اللّه سبحانه إذا ملك القدرة على هلاك المسيح فلا يكون المسيح، و الحال هذه، إلها، و ان لم يملك اللّه القدرة على هلاكه فلا يكون اللّه إلها، و المفروض انه إله، فيكون قادرا على هلاك المسيح.
تفسير الكاشف، ج3، ص: 39
و رب قائل يقول: ان هذه الآية لا تصلح ردا على النصارى فضلا عن انها من أصدق الأدلة، لأنها دعوى مجردة عن الدليل .. فللنصارى أن يقولوا:
ان اللّه لا يقدر على هلاك المسيح، و لا المسيح يقدر على هلاك اللّه، لأن كلا منهما إله؟.
الجواب: ان المسيحيين متفقون قولا واحدا على أن اليهود قد صلبوا المسيح و آذوه و أماتوه و قبروه تحت الأرض، و على ذلك نصت أناجيلهم، منها ما جاء في إنجيل متى إصحاح 27 رقم 50: «و صرخ أيضا يسوع بصوت عظيم و أسلم الروح». و ما جاء في إنجيل لوقا إصحاح 23 رقم 46: «و نادى يسوع بصوت عظيم قائلا يا أبت في يدك استودع روحي و لما قال هذا أسلم الروح». و ما جاء في إنجيل يوحنا إصحاح 19 رقم 33 و 34 «و اما اليسوع فلما انتهوا اليه و رأوه قد مات لم يكسروا ساقيه، و لكن واحدا من الجند فتح جنبه بحربة، فخرج للوقت دم و ماء» أي خرج من جنب المسيح بعد موته .. و إذا كان اليهود قد أهلكوا المسيح فبالأولى أن يقدر اللّه على هلاكه و هلاك أمه.
(وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ) . ان قولهم هذا تماما كقولهم الذي حكاه اللّه عنهم في الآية 111 من سورة البقرة: «وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» . و تجد تفسير هذه الآية في ج 1 من هذا التفسير ص 177 و 178 .. و تجدر الاشارة الى عقيدة الإسلام التي تقول: لا فضل لإنسان على انسان إلا بالتقوى، و ان النطق بكلمة الإسلام من حيث هو ليس بشيء إلا مع العمل الصالح.
(قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) . و تسأل: ان هذا لا يصلح جوابا لليهود و النصارى عن زعمهم بأنهم أبناء اللّه و أحباؤه، لأن لهم أن يقولوا: ان اللّه لا يعذبنا في الآخرة، و إذا لم يكن لديهم دليل محسوس على عدم عذابهم في الآخرة فلا دليل محسوس أيضا على عذابهم في ذلك اليوم؟.
الجواب: ان المراد بالعذاب ما يعم عذاب الدنيا و عذاب الآخرة .. و اللّه سبحانه قد عذب اليهود في الدنيا على يد الفراعنة، و بختنصر و الرومان و غيرهم.