کتابخانه روایات شیعه
مقدّمة الكتاب [للمحقق]
بقلم سيدنا الحجة السيّد حسن الموسوي الخرسان
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة على سيد النبيين محمّد و آله الطيبين الطاهرين و بعد فهذه صفحات جمعت فيها ما تيسر بهذه العجالة جمعه ضمنتها حياة شيخنا أبي عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد رحمه اللّه و أتبعتها بسطور لخصت فيها حياة شيخنا أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ، كما اني قد عرّفت هذا السفر الثمين- تهذيب الأحكام- و ما يحتله بين روائع الاسفار من التراث الإسلامي الخالد من مكانة سامية و أهمية بالغة و لم أتوخ في كل ذلك تنسيق اللفظ أو زخرف القول.
و جل همي أن أقف بالقارئ الكريم على شيء من حياة ذينك العلمين و مكانة الكتاب و ما امتاز به بين باقي الأصول الحديثية التي هي مدار أدلة الاستنباط للأحكام الشرعية من الآثار المروية عن أهل البيت عليهم السلام.
1- تمهيد
العلماء المؤمنون صنف من الناس يفضل الباقين مهما كانوا، و في أي زمن كانوا، و مهما عظمت أقدارهم، و تعالى شأنهم سوقة كانوا أو ملوكا، و ساسة
كانوا أو عبيدا، بفضل العلم و الايمان.
ففي حياة أولئك الأعلام المؤمنين دروس حيّة لمن وعاها و أحسن الأخذ بها إذ هم الذين جاهدوا فأحسنوا الجهاد و جنوا ثمر جهادهم مباركا جنيا مرضيا، فحازوا الخير كله في حياتهم، و خلدوا أنفسهم بعد مماتهم، و الفوز و الرضوان من وراء ذلك يتلقاهم و ما عند اللّه خير و أبقى ..
و إنا إذ نكتب هذه السطور لنؤرخ علما فردا من اعلام القرنين الرابع و الخامس و بطلا إسلاميا ناضل دون مبدئه أحسن نضال، و كافح عن عقيدته حتّى أحرز النصر و كسب الظفر كما كتب له الخلود، فزخرت المعاجم بالتحدث عن فضله، و أثبتت آثاره له المقام السامي بين صفوف أعيان الأمة الإسلامية ..
إنّما نكتبها لنتخذ من سيرته نهجا و من جهاده محفزا و باعثا، و من علمه نبراسا، و من أيامه و خلوده عظة و عبرة. و دراستنا له إنّما هي عرض موجز لحياته بين أساتذته و أقرانه و تلامذته و بين آثاره و اعماله، ثمّ بين مؤرخيه من مواليه و خصومه، و حين نجمع آراءهم على صعيد واحد يتمخض لنا الزبد و يتمحض الحق و ندرك مدى أثر هذه الشخصية الكريمة في دعم الإسلام و خدمة التشيع خاصّة، و ما كان لها من الفضل في نشر المبدأ و تركيزه، و لنبدأ الآن حديثنا عن ...
[حول الشيخ المفيد (رحمه الله) صاحب المقنعة]
2- اسمه و نسبه
هو محمّد بن محمّد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن النعمان بن سعيد بن جبير بن وهب بن هلال بن اوس بن سعيد بن سنان بن عبد الدار (المدان- خ ل) ابن الديان بن قطن (فطر- خ ل) بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحرث بن كعب بن عمرو بن علة بن جلد بن ملك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب
ابن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان 1
3- كنيته و لقبه
يكنى بأبي عبد اللّه و بابن المعلّم نسبة الى والده محمّد بن النعمان المعروف بالمعلّم، و اشتهر بها في كتب العامّة حتّى صارت عدلا للقبه في الشهرة.
يلقب بالمفيد و اختلف فيمن لقبه بذلك فقال ابن شهرآشوب في المعالم ص 101 إنّه الامام الحجة صاحب الامر عجل اللّه فرجه، قال و قد ذكرت سبب ذلك في مناقب آل أبي طالب، أقول و لم نجد ذلك في المناقب، و قال غيره إنّه عليّ بن عيسى الرماني لقصة جرت له معه- سنذكرها عند الحديث عن نشأته و دراساته- و قيل إنّه القاضي عبد الجبار المعتزلي لحكاية بينهما سنذكرها ايضا.
4- ولادته
كان والده من أهل واسط و كان بها معلما ثمّ انتقل الى عكبراء- بالمد و تقصر موضع على عشرة فراسخ من بغداد في ناحية الدجيل- و أقام بموضع يقال له سويقة ابن البصري، و هناك ولد الشيخ المفيد قدّس سرّه، و كانت ولادته في اليوم الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام سنة 336 أو سنة 338.
5- خلقه، خلقه
كان «ره» «ربعة نحيفا أسمر، خشن اللباس كثير الصدقات عظيم الخشوع كثير الصلاة و الصوم» 2 «دقيق الفطنة ماضي الخاطر» 3 «حسن اللسان و الجدل، صبور على الخصم ... جميل العلانية» 4 «ما كان ينام من الليل الاهجعة ثمّ
يقوم يصلي، أو يطالع، أو يدرس، أو يتلو القرآن» 5
و كان قدّس سرّه لا يخلو من ظرف مع اصدقائه و معاشريه بما لا يخرج عن حدود الحشمة و مقاييس الأدب فمن ذلك انه جرت بينه و بين القاضي أبي بكر ابن الباقلاني مناظرة فافحمه الشيخ فقال له أبو بكر لك أيها الشيخ في كل قدر مغرفة فقال «ره» مداعبا له «نعم ما تمثلت به من أداة أبيك» فضحك الحاضرون و خجل القاضي» 6 و له مناظرات لطيفة و حكايات ظريفة أفرد لها علم الهدى كتابا 7
6- نشأته و دراسته
نشأ المترجم له قدّس سرّه في حجر أبيه و تحت رعايته، و أكبر الظنّ أن تعلمه القرآن الكريم و بعض المبادئ العلمية و الأدبية كان عند أبيه- إذ كان معلما- و لم يحدّثنا التأريخ عن أيامه الأولى في عكبراء، و كلما جاد به هو أنّه انحدر مع أبيه إلى بغداد في سن مبكرة و بدأ يقرأ العلم على أبي عبد اللّه البصري المعروف بجعل 8 - و كان شيخ المعتزلة مقدما في علمي الفقه و الكلام- بمنزله بدرب رباح، ثم قرأ من بعده على أبي بكر غلام أبي الجيش 9 - و كان من أئمة المتكلّمين من الإماميّة- و كان منزله بباب خراسان، و هو الذي أرشده إلى أخذ علم الكلام
عن عليّ بن عيسى الرماني 10 و قال له لم لا تقرأ على عليّ بن عيسى الرماني علم الكلام و تستفيد منه؟ فقال ما اعرفه و لا لي به أنس فأرسل معي من يدلني عليه ...
قال الشيخ المترجم له: ففعل ذلك و أرسل معي من أوصلني إليه، فدخلت عليه و المجلس غاص بأهله و قعدت حيث انتهى بي المجلس و كلما خف الناس قربت منه، فدخل إليه داخل فقال له: بالباب إنسان يؤثر الحضور بمجلسك و هو من أهل البصرة فقال الرماني: أ هو من أهل العلم؟ فقال غلامه: لا أعلم إلّا انه يؤثر الحضور بمجلسك، فأذن له فدخل عليه فأكرمه و طال الحديث بينهما، فقال الرجل لعلي بن عيسى: ما تقول في يوم الغدير و الغار؟ فقال أما خبر الغار فدراية و أمّا خبر الغدير فرواية، و الرواية لا توجب ما توجب الدراية، قال: فانصرف البصري و لم يحر جوابا يورد إليه، قال الشيخ رضي اللّه عنه: إني لم أجد صبرا على السكوت عن ذلك فتقدمت فقلت أيها الشيخ مسألة فقال: هات مسألتك. فقلت ما تقول فيمن خرج على الامام العادل و حاربه؟ فقال: يكون كافرا، ثمّ استدرك فقال فاسقا، فقلت:
ما تقول في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام؟ قال: إمام، قلت: فما تقول في حرب طلحة و الزبير في يوم الجمل؟ فقال: إنهما تابا، فقلت أما خبر الجمل دراية و أما خبر التوبة فرواية، فقال لي و كنت حاضرا و قد سألني البصري؟! فقلت: نعم، قال رواية برواية و دراية بدراية، و سؤالك متجه وارد، فقال بمن تعرف؟ و على من تقرأ؟ قلت: أعرف بابن المعلّم و أقرأ على الشيخ أبي عبد اللّه الجعل، فقال: موضعك ..، و دخل منزله و خرج و معه رقعة قد كتبها و ألصقها و قال لي: أوصل هذه الرقعة الى
أبي عبد اللّه، فجئت بها إليه فقرأها و لم يزل يضحك بينه و بين نفسه، ثمّ قال لي: أي شيء جرى لك في مجلسه؟ فقد أوصاني بك و لقّبك ب «المفيد» فذكرت له المجلس بقصته فتبسم 11
فهذين العلمين- الجعل و غلام أبي الجيش- من مشايخه الذين أخذ عنهم و هو في سن مبكرة، كما انه لم يقتصر أخذه و هو في سنه تلك عليهما، بل انه أخذ الحديث عن آخرين و سنه لم يتجاوز العشرين فقد ذكروا أنّه روى عن الشريف أبي محمّد الحسن بن حمزة العلوي المرعشيّ الطبريّ و أنّه تحمله سنة 354 فيكون عمره الشريف حينئذ ثمانية عشر سنة تقريبا، و كذا روايته عن الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّيّ فانه روى عنه عند مقدمه الى بغداد سنة 352 أو سنة 355 12 .
و هناك شيوخ أفذاذ كانوا أعلام عصره تشد اليهم الرحال من الأطراف، و هم مطمح الأنظار و معقد الآمال، سمع منهم و قرأ عليهم و حوى من علومهم ما كان رصيده يوم أشير إليه بالبنان، و غدا المجلي في حلبة الميدان.
و إن المستقرئ لدقائق أخباره و جليل آثاره ليدرك مدى اهتمامه بالتعلم، و يعرف شدة شغفه بالأخذ و التحمل، فقد كان بما منحه اللّه من صفاء الذهن و آتاه من حسن المعرفة مشاركا في كثير من العلوم و الفنون. جامعا لروائعها. ملما بدقائقها. مع عمق الغور و دقة التفكير و رقة التعبير و حسن الأداء و لعلّ فيما ذكرناه من حكايته مع الرماني خير دليل على ذلك. فانا نجده و هو تلميذ مؤدبا كثير التواضع للعلم و أهله، و نجده و هو
محاجج متكلما بارعا ذا فطنة و لباقة في احتجاجه و سؤاله.
و يروي له التأريخ نظير هذه القصة، طريفة أخرى مع القاضي عبد الجبار المعتزلي 13 فانه ذكر أنّه بينما القاضي ذات يوم في بغداد و مجلسه مملوء من علماء الفريقين إذ حضر الشيخ المفيد قدّس سرّه و جلس في صف النعال، ثمّ قال للقاضي:
إن لي سؤالا فان أجزت بحضور هؤلاء الأئمة؟ فقال القاضي: سل، فقال: ما تقول في هذا الخبر الذي ترويه طائفة من الشيعة (من كنت مولاه فعلي مولاه) أ هو مسلّم صحيح عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الغدير؟ فقال: نعم خبر صحيح فقال الشيخ: