کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 43

و السلوك من محل إلى محل، و غير ذلك من وجوه الانتفاع بها، و جعل السماء بناء لمسكنكم، و أودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم و حاجاتكم، كالشمس و القمر و النجوم. وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً .

[22] و السماء هو كل ما علا فوقك فهو سماء، و لهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا، السحاب، فأنزل منه تعالى ماء: فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ‏ كالحبوب و الثمار من نخيل و فواكه و زروع و غيرها، رِزْقاً لَكُمْ‏ به ترتزقون، و تتقوتون و تعيشون و تفكهون. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ، أي: أشباها و نظراء من المخلوقين، فتعبدونهم كما تعبدون اللّه، و تحبونهم كما تحبونه، و هم مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبرون، لا يملكون مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء، و لا ينفعونكم و لا يضرون. وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏ أن اللّه ليس له شريك، و لا نظير، لا في الخلق، و الرزق و التدبير، و لا في الألوهية و الكمال، فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب، و أسفه السفه. و هذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة اللّه وحده، و النهي عن عبادة ما سواه، و بيان الدليل الباهر على وجوب عبادته، و بطلان عبادة ما سواه، و هو ذكر توحيد الربوبية، المتضمن انفراده بالخلق و الرزق و التدبير، فإذا كان كل أحد، مقرا بأنه ليس له شريك بذلك، فكذلك فليكن الإقرار بأن اللّه ليس له شريك في عبادته، و هذا أوضح دليل عقلي، على وحدانية الباري تعالى، و بطلان الشرك. و قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏ يحتمل أن المعنى أنكم إذا عبدتم اللّه وحده، اتقيتم بذلك سخطه و عذابه، لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، و يحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم اللّه، صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى، و كلا المعنيين صحيح، و هما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة، كان من المتقين، و من كان من المتقين، حصلت له النجاة من عذاب اللّه و سخطه، و هذا دليل عقلي على صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و صحة ما جاء به، فقال:

[23] و إن كنتم- يا معشر المعاندين للرسول، الرادين دعوته، الزاعمين كذبه- في شك و اشتباه، مما نزلنا على عبدنا، هل هو حق أو غيره؟ فههنا أمر نصف فيه الفيصلة بينكم و بينه، و هو أنه بشر مثلكم، ليس من جنس آخر، و أنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم، لا يكتب و لا يقرأ، فأتاكم بكتاب، أخبركم أنه من عند اللّه، و قلتم أنتم، إنه تقوّله و افتراه. فإن كان الأمر كما تقولون، فأتوا بسورة من مثله، و استعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم و شهدائكم، فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا، و أنتم أهل الفصاحة و الخطابة، و العداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله، فهو كما زعمتم، و إن لم تأتوا بسورة من مثله و عجزتم غاية العجز، فهذا آية كبيرة، و دليل واضح جلي على صدقه و صدق ما جاء به، فيتعين عليكم اتباعه، و اتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة و الشدة، أن كان وقودها الناس و الحجارة، ليست كنار الدنيا، التي تتقد بالحطب، و هذه النار الموصوفة، معدّة و مهيّأة للكافرين باللّه و رسله، فاحذروا الكفر برسوله، بعد ما تبين لكم أنه رسول اللّه. و هذه الآية و نحوها يسمونها آية التحدي، و هو تعجيز الخلق عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن و يعارضوه بوجه، قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88). و كيف يقدر المخلوق من تراب، أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الفقير الناقص من جميع الوجوه، أن يأتي بكلام ككلام الكامل الذي له الكمال المطلق، و الغنى الواسع من جميع الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان، و لا في قدرة الإنسان، و كل من له أدنى ذوق و معرفة بأنواع الكلام، إذا وزن هذا القرآن بغيره من كلام البلغاء، ظهر له الفرق العظيم. و في قوله: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ‏ إلى آخره، دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة، هو الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلالة، فهذا الذي إذا بين له الحق حري باتباعه، إن كان صادقا في طلب الحق. و أما المعاند الذي يعرف الحق و يتركه، فهذا لا يمكن رجوعه، لأنه ترك الحق بعد ما تبين له، و لم يتركه عن جهل، فلا حيلة فيه. و كذلك الشاك الذي ليس بصادق في طلب الحق، بل هو معرض، غير مجتهد بطلبه، فهذا- في الغالب- لا يوفق. و في وصف الرسول بالعبودية في‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 44

هذا المقام العظيم، دليل على أن أعظم أوصافه صلّى اللّه عليه و سلّم، قيامه بالعبودية التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين و الآخرين.

كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا ، و في مقام تنزيل القرآن عليه، فقال: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى‏ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1).

[24] و في قوله: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ‏ و نحوها من الآيات، دليل لمذهب أهل السنة و الجماعة، أن الجنة و النار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، و فيها أيضا، أن الموحدين- و إن ارتكبوا بعض الكبائر- لا يخلدون في النار، لأنه قال:

أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ‏ ، فلو كان عصاة الموحدين يخلدون فيها، لم تكن معدة للكافرين وحدهم خلافا للخوارج و المعتزلة.

و فيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه، و هو الكفر، و أنواع المعاصي على اختلافها. و لما ذكر جزاء الكافرين، ذكر جزاء المؤمنين، أهل الأعمال الصالحات، كما هي طريقته تعالى في كتابه، يجمع بين الترغيب و الترهيب، ليكون العبد راغبا راهبا، خائفا راجيا، فقال:

[25] وَ بَشِّرِ ، أي: أيها الرسول، و من قام مقامك، الَّذِينَ آمَنُوا بقلوبهم‏ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ بجوارحهم، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة. و وصفت أعمال الخير بالصالحات، لأن بها تصلح أحوال العبد، و أمور دينه و دنياه، و حياته الدنيوية و الأخروية، و يزول بها عنه فساد الأحوال، فيكون بذلك من الصالحين، الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته. فبشّرهم‏ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ‏ ، أي: بساتين جامعة للأشجار العجيبة، و الثمار الأنيقة، و الظل المديد، و الأغصان و الأفنان، و بذلك صارت جنة، يجتن بها داخلها، و ينعم فيها ساكنها. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، أي: أنهار الماء، و اللبن، و العسل، و الخمر، يفجرونها كيف شاؤوا، و يصرفونها أين أرادوا، و تسقى منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار. كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ‏ ، أي: هذا من جنسه، و على وصفه، كلها متشابهة في الحسن و اللذة، ليس فيها ثمرة خاسّة، و ليس لهم وقت خال من اللذة، فهم دائما متلذذون بأكلها. و قوله: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ، قيل: متشابها في الاسم، مختلفا في الطعم، و قيل: متشابها في اللون، مختلفا في الاسم، و قيل: يشبه بعضه بعضا في الحسن و اللذة و الفكاهة، و لعل هذا أحسن. ثم لما ذكر مسكنهم، و أقواتهم من الطعام و الشراب و فواكههم، ذكر أزواجهم، فوصفهن بأكمل وصف و أوجزه، و أوضحه فقال: وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ فلم يقل «مطهرة من العيب الفلاني» ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق، مطهرات الخلق، مطهرات اللسان، مطهرات الأبصار، فأخلاقهن، أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن، و حسن التبعل، و الأدب القولي و الفعلي، و مطهر خلقهن من الحيض و النفاس و المني، و البول و الغائط، و المخاط و البصاق، و الرائحة الكريهة، و مطهرات الخلق أيضا، بكمال الجمال، فليس فيهن عيب، و لا دمامة خلق، بل هن خيرات حسان، مطهرات اللسان و الطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن، و قاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح. ففي هذه الآية الكريمة، ذكر المبشر، و المبشّر به، و السبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشّر: هو الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و من قام مقامه من أمته، و المبشّر: هم المؤمنون العاملون الصالحات، و المبشّر به:

هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات، و السبب الموصل لذلك، هو الإيمان و العمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة، إلا بهما، و هذا أعظم بشارة حاصلة على يد أفضل الخلق، بأفضل الأسباب. و فيه استحباب بشارة المؤمنين و تنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها و ثمراتها، فإنها بذلك تخف و تسهل، و أعظم بشرى حاصلة للإنسان توفيقه للإيمان و العمل الصالح، فذلك أول البشارة و أصلها، و من بعده، البشرى عند الموت، و من بعده، الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل اللّه من فضله.

[26] يقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما ، أي: أيّ مثل كان‏ بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ، لاشتمال الأمثال على الحكمة، و إيضاح الحق، و اللّه لا يستحيي من الحق، و كأنّ في هذا جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 45

الأشياء الحقيرة، و اعترض على اللّه في ذلك، فليس في ذلك محل اعتراض، بل هو من تعليم اللّه لعباده و رحمته بهم، فيجب أن تتلقى بالقبول و الشكر، و لهذا قال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ‏ فيفهمونها، و يتفكرون فيها. فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، ازداد بذلك علمهم و إيمانهم، و إلا علموا أنها حق، و ما اشتملت عليه حق، و إن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن اللّه لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة، و نعمة سابغة. وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فيعترضون و يتحيرون، فيزدادون كفرا إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون، إيمانا على إيمانهم. و لهذا قال: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً ، فهذا حال المؤمنين و الكافرين عند نزول تلك الآيات القرآنية. قال تعالى: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ‏ (125)، فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، و مع هذا، تكون لقوم محنة، و حيرة، و ضلالة، و زيادة شر إلى شرهم، و لقوم منحة، و رحمة، و زيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، و انفرد بالهداية و الإضلال. ثم ذكر حكمته و عدله في إضلاله من يضل فقال: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ‏ أي: الخارجين عن طاعة اللّه؛ المعاندين لرسل اللّه؛ الّذين صار الفسق و صفهم، فلا يبغون به بدلا، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضى فضله و حكمته هداية من اتصف بالإيمان، و تحلى بالأعمال الصالحة. و الفسق نوعان: نوع مخرج من الدين، و هو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان، كالمذكور في هذه الآية و نحوها، و نوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الآية.

[27] ثم وصف الفاسقين، فقال: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ‏ ، و هذا يعم العهد الذي بينهم و بين ربهم؛ و الذي بينهم و بين الخلق؛ الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة و الإلزامات، فلا يبالون بتلك المواثيق، بل ينقضونها و يتركون أوامره، و يرتكبون نواهيه، و ينقضون العهود التي بينهم و بين الخلق. وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ‏ ، و هذا يدخل في أشياء كثيرة، فإن اللّه أمرنا أن نصل ما بيننا و بينه بالإيمان به، و القيام بعبوديته، و ما بيننا و بين رسوله بالإيمان به، و محبته، و تعزيره، و القيام بحقوقه، و ما بيننا و بين الوالدين و الأقارب، و الأصحاب، و سائر الخلق بالقيام بحقوقهم التي أمر اللّه أن نصلها. فأما المؤمنون، فوصلوا ما أمر اللّه به أن يوصل من هذه الحقوق؛ و قاموا بها أتم القيام، و أما الفاسقون، فقطعوها و نبذوها وراء ظهورهم معتاضين عنها بالفسق و القطيعة، و العمل بالمعاصي، و هو: الإفساد في الأرض. أُولئِكَ‏ ، أي: من هذه صفته‏ هُمُ الْخاسِرُونَ‏ ، في الدنيا و الآخرة، فحصر الخسارة فيهم، لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم، ليس لهم نوع من الربح؛ لأن كل عمل صالح، شرطه الإيمان، فمن لا إيمان له لا عمل له، و هذا الخسار هو خسار الكفر، و أما الخسار الذي قد يكون كفرا، و قد يكون معصية، و قد يكون تفريطا في ترك مستحب المذكور في قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2)،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 46

فهذا عام لكل مخلوق، إلا من اتصف بالإيمان و العمل الصالح، و التواصي بالحق، و التواصي بالصبر، و حقيقته فوات الخير، الذي كان العبد بصدد تحصيله و هو تحت إمكانه.

[28] ثم قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏ (28)، هذا استفهام بمعنى التعجب و التوبيخ و الإنكار، أي: كيف يحصل منكم الكفر باللّه، الذي خلقكم من العدم؛ و أنعم عليكم بأصناف النعم، ثم يميتكم عند استكمال آجالكم، و يجازيكم في القبور، ثم يحييكم بعد البعث و النشور، ثم إليه ترجعون، فيجازيكم الجزاء الأوفى. فإذا كنتم في تصرفه و تدبيره و برّه، و تحت أوامره الدينية، و بعد ذلك تحت دينه الجزائي، أ فيليق بكم أن تكفروا به، و هل هذا إلا جهل عظيم و سفه كبير؟ بل الذي يليق بكم أن تتقوه، و تشكروه، و تؤمنوا به، و تخافوا عذابه، و ترجوا ثوابه.

[29] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏ (29) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، أي: خلق لكم برا بكم و رحمة، جميع ما على الأرض، للانتفاع و الاستمتاع، و الاعتبار. و في هذه الآية الكريمة، دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة و الطهارة، لأنها سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك، الخبائث فإن تحريمها أيضا، يؤخذ من فحوى الآية، و بيان المقصود منها، و أنه خلقها لنفعنا، فما فيه ضرر، فهو خارج من ذلك. و من تمام نعمته، منعنا من الخبائث تنزيها لنا. و قوله: ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏ .

معاني كلمة «استوى»

اسْتَوى‏ : ترد في القرآن على ثلاثة معاني: فتارة لا تعدى بالحرف، فيكون معناها: الكمال و التمام، كما في قوله عن موسى: وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى‏ ، و تارة تكون بمعنى «علا» و «ارتفع» و ذلك إذا عديت ب «على» كقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ (5)، لِتَسْتَوُوا عَلى‏ ظُهُورِهِ‏ ، و تارة تكون بمعنى «قصد» كما إذا عديت ب «إلى» كما ي هذه الآية، أي: لما خلق تعالى الأرض قصد إلى خلق السماوات فسواهن سبع سماوات، فخلقها و أحكمها، و أتقنها، و هو بكل شي‏ء عليم، فيعلم ما يلج في الأرض، و ما يخرج منها، و ما ينزل من السماء، و ما يعرج فيها، و يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ* ، و يعلم السرّ و أخفى. و كثيرا ما يقرن بين خلقه، و إثبات علمه كما في هذه الآية، و كما في قوله تعالى: أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) لأن خلقه للمخلوقات، أدل دليل على علمه و حكمته و قدرته.

[30] وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ، هذا شروع في ابتداء خلق آدم عليه السلام أبي البشر، و فضله، و أن اللّه تعالى- حين أراد خلقه- أخبر الملائكة بذلك، و أن اللّه مستخلفه في الأرض، فقالت الملائكة عليهم السلام: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها بالمعاصي‏ وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ ، و هذا تخصيص بعد تعميم، لبيان شدة مفسدة القتل، و هذا بحسب ظنهم أن المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك، فنزهوا الباري عن ذلك، و عظموه، و أخبروا أنهم قائمون بعبادة اللّه على وجه خال من المفسدة، فقالوا: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ‏ ، أي: ننزهك التنزيه اللائق بحمدك و جلالك، وَ نُقَدِّسُ لَكَ‏ يحتمل أن معناها: و نقدسك، فتكون اللام مفيدة للتخصيص و الإخلاص، و يحتمل أن يكون: و نقدس لك أنفسنا، أي: نطهرها بالأخلاق الجميلة، كمحبة اللّه و خشيته و تعظيمه، و نطهرها من الأخلاق الرذيلة. قال اللّه للملائكة: إِنِّي أَعْلَمُ‏ من هذا الخليفة ما لا تَعْلَمُونَ‏ ؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم، و أنا عالم بالظواهر و السرائر، و أعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر. فلو لم يكن في ذلك، إلا أن اللّه تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء و الصدّيقين،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 47

و الشهداء، و الصالحين، و لتظهر آياته للخلق، و يحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة، كالجهاد و غيره، و ليظهر ما كمن في غرائز المكلفين من الخير و الشر بالامتحان، و ليتبين عدوه من وليه، و حزبه من حربه، و ليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه، و اتصف به، فهذه حكم عظيمة، يكفي بعضها في ذلك.

[31] ثم لما كان قول الملائكة عليهم السلام، فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله اللّه في الأرض، أراد اللّه تعالى أن يبين لهم من فضل آدم ما يعرفون به فضله، و كمال حكمة اللّه و علمه، فقال: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ، أي:

أسماء الأشياء، و ما هو مسمى لها، فعلّمه الاسم و المسمّى، أي: الألفاظ و المعاني، حتى المصغر من الأسماء و المكبر، كالقصعة و القصيعة. ثُمَّ عَرَضَهُمْ‏ ، أي: عرض المسميات‏ عَلَى الْمَلائِكَةِ امتحانا لهم، هل يعرفونها أم لا؟ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ‏ في قولكم و ظنكم، أنكم أفضل من هذا الخليفة.

[32] قالُوا سُبْحانَكَ‏ ، أي: ننزهك من الاعتراض منا عليك، و مخالفة أمرك، لا عِلْمَ لَنا بوجه من الوجوه، إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إياه، فضلا منك وجودا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏ العليم الذي أحاط علما بكل شي‏ء، فلا يغيب عنه، و لا يعزب مثقال ذرة في السماوات و الأرض، و لا أصغر من ذلك و لا أكبر. الحكيم: من له الحكمة التامة، التي لا يخرج عنها مخلوق، و لا يشذ عنها مأمور، فما خلق شيئا إلا لحكمة، و لا أمر بشي‏ء إلا لحكمة، و الحكمة: وضع الشي‏ء في موضعه اللائق به، فأقروا، و اعترفوا بعلم اللّه و حكمته، و قصورهم عن معرفة أدنى شي‏ء، و اعترافهم بفضل اللّه عليهم، و تعليمه إياهم ما لا يعلمون.

[33] فحينئذ قال اللّه: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ‏ ، أي: أسماء المسميات التي عرضها اللّه على الملائكة فعجزوا عنها. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ‏ تبين للملائكة فضل آدم عليهم، و حكمة الباري و علمه في استخلاف هذا الخليفة، قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‏ و هو ما غاب عنا، فلم نشاهده، فإذا كان عالما بالغيب، فالشهادة من باب أولى، وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ‏ ، أي: تظهرون‏ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏ . ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم، إكراما له و تعظيما، و عبودية للّه تعالى، فامتثلوا أمر اللّه، و بادروا كلهم بالسجود،

[34] إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى‏ امتنع عن السجود، و استكبر عن أمر اللّه و على آدم، قال: أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ، و هذا الإباء منه و الاستكبار، نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه، فتبينت حينئذ عداوته للّه، و لآدم، و كفره و استكباره.

و في هذه الآيات من العبر و الآيات إثبات الكلام للّه تعالى، و أنه لم يزل متكلما، يقول ما شاء، و يتكلم بما شاء، و أنه عليم حكيم، و فيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة اللّه في بعض المخلوقات و المأمورات فالواجب عليه التسليم، و اتهام عقله، و الإقرار للّه بالحكمة، و فيه اعتناء اللّه بشأن الملائكة، و إحسانه بهم، بتعليمهم ما جهلوا، و تنبيههم على ما لم يعلموه. و فيه فضيلة العلم من وجوه: منها: أن اللّه تعرف لملائكته، بعلمه و حكمته، و منها: أن اللّه عرّفهم فضل آدم بالعلم، و أنه أفضل صفة تكون في العبد، و منها: أن اللّه أمرهم بالسجود لآدم، إكراما له، لما بان فضل‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 48

علمه، و منها: أن الامتحان للغير، إذا عجزوا عما امتحنوا به، ثم عرفه صاحب الفضيلة، فهو أكمل مما عرفه ابتداء، و منها: الاعتبار بحال أبوي الإنس و الجن، و بيان فضل آدم، و أفضال اللّه عليه، و عداوة إبليس له، إلى غير ذلك من العبر.

[35] لما خلق اللّه آدم و فضله، أتم نعمته عليه، بأن خلق منه زوجه، ليسكن إليها، و يستأنس بها، و أمرهما بسكنى الجنة، و الأكل منها رغدا، أي: واسعا هنيئا، حَيْثُ شِئْتُما ، أي: من أصناف الثمار و الفواكه، و قال اللّه له: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى‏ (118) وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى‏ (119). وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ نوع من أنواع شجر الجنة، اللّه أعلم به، و إنما نهاهما عنها امتحانا و ابتلاء، أو لحكمة غير معلومة لنا، فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ‏ دل على أن النهي للتحريم، لأنه رتب الظلم عليه. فلم يزل عدوهما يوسوس لهما، و يزين لهما تناول ما نهيا عنه، حتى أزلّهما، أي: حملهما على الزلل بتزيينه، وَ قاسَمَهُما باللّه‏ إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ‏ ، فاغترّا به و أطاعاه، فأخرجهما مما كانا فيه، من النعيم و الرغد، و أهبطوا إلى دار التعب و النصب و المجاهدة.

[36] بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، أي: آدم و ذريته، أعداء لإبليس و ذريته، و من المعلوم أن العدو يجدّ و يجتهد في ضرر عدوه و إيصال الشرّ إليه بكل طريق، و حرمانه الخير بكل طريق، ففي ضمن هذا، تحذير بني آدم من الشيطان، كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6)، أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا . ثم ذكر منتهى الإهباط، فقال: وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ، أي:

مسكن و قرار، وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ‏ انقضاء آجالكم، ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها، و خلقت لكم، ففيها أن مدة هذه الحياة مؤقتة عارضة، ليست مسكنا حقيقيا، و إنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار، و لا تعمر للاستقرار.

[37] فَتَلَقَّى آدَمُ‏ ، أي: تلقف و تلقن، و ألهمه اللّه‏ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ‏ ، و هي قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الآية، فاعترف بذنبه، و سأل اللّه مغفرته‏ فَتابَ‏ اللّه‏ عَلَيْهِ‏ ، و رحمه‏ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ‏ لمن تاب إليه و أناب. و توبته نوعان:

توفيقه أولا، ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا. الرَّحِيمُ‏ بعباده، و من رحمته بهم، أن وفقهم للتوبة، و عفا عنهم و صفح.

[38] كرّر الإهباط، ليرتب عليه ما ذكر و هو قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً‏ أي: وقت و زمان جاءكم مني، يا معشر الثقلين، هدىّ، أي: رسول و كتاب يهديكم لما يقربكم مني، و يدنيكم مني، و يدنيكم من رضائي، فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ‏ منكم، بأن آمن برسلي و كتبي، و اهتدى بهم، و ذلك بتصديق جميع أخبار الرسل و الكتب، و الامتثال للأمر و الاجتناب للنهي، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ‏ . و في الآية الأخرى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏ .

فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء: نفي الخوف و الحزن، و الفرق بينهما، أن المكروه إن كان قد مضى، أحدث الحزن، و إن كان منتظرا أحدث الخوف، فنفاهما عمن اتبع الهدى، و إذا انتفيا ثبت ضدهما، و هو الهدى و السعادة،

تيسير الكريم الرحمن، ص: 49

فمن اتبع هداه، حصل له الأمن و السعادة الدنيوية و الأخروية و الهدى، و انتفى عنه كل مكروه، من الخوف و الحزن و الضلال و الشقاء، فحصل له المرغوب، و اندفع عنه المرهوب. و هذا عكس من لم يتبع هداه، فكفر به، و كذب آياته.

[39] أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ، أي: الملازمون لها، ملازمة الصاحب لصاحبه، و الغريم لغريمه، هُمْ فِيها خالِدُونَ‏ لا يخرجون منها، و لا يفتر عنهم العذاب و لا هم ينصرون. و في هذه الآيات و ما أشبهها، انقسام الخلق من الجن و الإنس، إلى أهل السعادة، و أهل الشقاوة، و فيها صفات الفريقين و الأعمال الموجبة لذلك، و أن الجن كالإنس في الثواب و العقاب، كما أنهم مثلهم في الأمر و النهي.

ثم شرع تعالى يذكّر بني إسرائيل نعمه عليهم و إحسانه، فقال:

[40] يا بَنِي إِسْرائِيلَ‏ ، المراد بإسرائيل: يعقوب عليه السلام، و الخطاب مع فرق بني إسرائيل، الذين بالمدينة و ما حولها، و يدخل فيهم من أتى بعدهم، فأمرهم بأمر عام، فقال: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏ ، و هو يشمل سائر النعم، التي سيذكر في هذه السورة بعضها، و المراد ذكرها بالقلب اعترافا، و باللسان ثناء، و بالجوارح باستعمالها فيما يحبه و يرضيه. وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي‏ و هو ما عهده إليهم من الإيمان به، و برسله، و إقامة شرعه، أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏ و هو المجازاة على ذلك. و المراد بذلك: ما ذكره اللّه في قوله: وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي‏ ، إلى قوله:

فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ‏ .

[41] ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم، على الوفاء بعهده، و هو الرهبة منه تعالى، و خشيته وحده، فإن من خشيه، أوجبت له خشيته امتثال أمره، و اجتناب نهيه. ثم أمرهم بالأمر الخاص، الذي لا يتم إيمانهم، و لا يصح إلا به، فقال: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ‏ و هو القرآن الذي أنزله على عبده و رسوله محمد صلّى اللّه عليه و سلم، فأمرهم بالإيمان به و اتباعه، و يستلزم ذلك، الإيمان بمن أنزل عليه. و ذكر الداعي لإيمانهم، فقال: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ‏ ، أي: موافقا له لا مخالفا و لا مناقضا، فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب، غير مخالف لها، فلا مانع لكم من الإيمان به، لأنه جاء بما جاء به المرسلون، فأنتم أولى من آمن به و صدق به، لكونكم أهل الكتب و العلم. و أيضا فإن في قوله: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ‏ إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به، عاد ذلك عليكم، بتكذيب ما معكم، لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى و عيسى و غيرهما من الأنبياء، فتكذيبكم له تكذيب لما معكم. و أيضا، فإن في الكتب التي بأيديكم صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن و البشارة به، فإن لم تؤمنوا به، كذبتم ببعض ما أنزل إليكم، و من كذب ببعض ما أنزل إليه، فقد كذب بجميعه، كما أن من كفر برسوله، فقد كذب الرسل جميعهم. فلما أمرهم بالإيمان به، نهاهم و حذرهم عن ضده و هو الكفر به، فقال: وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ‏ ، أي: بالرسول و القرآن. و قوله: أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ‏ ، أبلغ من قوله:

(و لا تكفروا به)، لأنهم إذا كانوا أول كافر به، كان فيه مبادرتهم إلى الكفر، عكس ما ينبغي منهم، و صار عليهم إثمهم و إثم من اقتدى بهم من بعدهم. ثم ذكر المانع لهم من الإيمان، و هو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية، فقال: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا ، و هو ما يحصل لهم من المناصب و المآكل، التي يتوهمون انقطاعها، إن آمنوا باللّه و رسوله، فاشتروها بآيات اللّه و استحبوها، و آثروها. وَ إِيَّايَ‏ ، أي: لا غيري‏ فَاتَّقُونِ‏ فإنكم إذا اتقيتم اللّه وحده، أوجبت لكم تقواه تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل، كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل، فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم.

صفحه بعد