کتابخانه تفاسیر

پایگاه داده های قرآنی اسلامی
کتابخانه بالقرآن

تيسير الكريم الرحمن

سورة الفاتحة سورة آل عمران سورة المائدة سورة الأنعام تفسير سورة الأعراف تفسير سورة الأنفال تفسير سورة التوبة تفسير سورة يونس تفسير سورة هود تفسير سورة الرعد سورة إبراهيم تفسير سورة الحجر سورة النحل سورة الإسراء سورة الكهف تفسير سورة مريم سورة طه تفسير سورة الأنبياء تفسير سورة الحج تفسير سورة المؤمنون تفسير سورة النور تفسير سورة الفرقان تفسير سورة الشعراء تفسير سورة النمل تفسير سورة العنكبوت تفسير سورة الروم تفسير سورة لقمان تفسير سورة السجدة سورة الأحزاب سورة سبأ تفسير سورة فاطر تفسير سورة يس تفسير سورة الصافات تفسير سورة الزمر تفسير سورة فصلت سورة الشورى سورة الزخرف تفسير سورة الدخان سورة الجاثية سورة الأحقاف سورة محمد تفسير سورة الحجرات تفسير سورة ق سورة الطور تفسير سورة النجم سورة القمر سورة الرحمن سورة الواقعة تفسير سورة الحديد تفسير سورة المجادلة تفسير سورة الحشر تفسير سورة الممتحنة تفسير سورة الصف سورة الجمعة تفسير سورة المنافقون تفسير سورة التغابن تفسير سورة الطلاق تفسير سورة التحريم تفسير سورة الملك تفسير سورة القلم سورة الحاقة سورة المعارج سورة نوح سورة الجن تفسير سورة المزمل سورة المدثر تفسير سورة القيامة سورة الإنسان سورة المرسلات تفسير سورة النبأ سورة النازعات سورة عبس تفسير سورة التكوير سورة الإنفطار سورة المطففين تفسير سورة الإنشقاق سورة البروج سورة الطارق سورة الأعلى تفسير سورة الغاشية تفسير سورة الفجر تفسير سورة البلد سورة الشمس سورة الليل تفسير سورة الضحى سورة الشرح سورة التين تفسير سورة العلق سورة القدر تفسير سورة البينة تفسير سورة الزلزلة تفسير سورة العاديات تفسير سورة القارعة سورة التكاثر سورة العصر تفسير سورة الهمزة سورة الفيل تفسير سورة قريش سورة الماعون سورة الكوثر تفسير سورة الكافرون سورة النصر تفسير سورة المسد تفسير سورة الإخلاص سورة الفلق تفسير سورة الناس محتوى تفسير الإمام السعدي

تيسير الكريم الرحمن


صفحه قبل

تيسير الكريم الرحمن، ص: 727

الإخبار عن أحوال المكذبين بالإخبار كأنهم لا يدرون متى وقت الآخرة، ثم الإخبار بضعف علمهم فيها، ثم الإخبار بأنه شك، ثم الإخبار بأنهم عمي، ثم الإخبار بإنكارهم لذلك، و استبعادهم وقوعه. أي: و بسبب هذه الأحوال ترحّل خوف الآخرة من قلوبهم، فأقدموا على معاصي اللّه، و سهل عليهم تكذيب الحق، و التصديق بالباطل، و استحلوا الشهوات على القيام بالعبادات، فخسروا دنياهم و أخراهم.

[69] نبههم على صدق ما أخبرت به الرسل فقال: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ‏ (69) فلا تجدون مجرما قد استمر على إجرامه. إلا و عاقبته شرّ عاقبة، و قد أحل اللّه به من الشر و العقوبة، ما يليق بحاله.

[70] أي: لا تحزن يا محمد، على هؤلاء المكذبين، و عدم إيمانهم. فإنك لو علمت ما فيهم من الشر، و أنهم لا يصلحون للخير، لم تأس و لم تحزن، و لا يضق صدرك، و لا تقلق نفسك بمكرهم، فإن مكرهم ستعود عاقبته عليهم.

وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ‏ . و يقول المكذبون بالمعاد، و بالحق الذي جاء به الرسول، مستعجلين للعذاب:

[71] مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ‏ و هذا من سفاهة رأيهم و جهلهم، فإن وقوعه و وقته، قد أجله اللّه بأجله، و قدره بقدره، فلا يدل عدم استعجاله، على بعض مطلوبهم.

[72] و لكن- مع هذا- قال تعالى، محذرا لهم وقوع ما يستعجلون: قُلْ عَسى‏ أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ‏ أي: قرب منكم، و أوشك أن يقع بكم‏ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ‏ من العذاب.

[73] ينبه عباده، على سعة جوده، و كثرة أفضاله، و يحثهم على شكرها، و مع هذا فأكثر الناس قد أعرضوا عن الشكر، و اشتغلوا بالنعم عن المنعم.

[74] وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ‏ أي: تنطوي عليه‏ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ‏ ، فليحذروا من عالم السرائر و الظواهر، و ليراقبوه.

[75] وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ‏ أي: خفية، و سر من أسرار العالم، العلوي و السفلي. إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ‏ قد أحاط ذلك الكتاب، بجميع ما كان و يكون إلى أن تقوم الساعة. فكل حادث جليّ أو خفيّ إلا و هو مطابق، لما كتب في اللوح المحفوظ.

[76] و هذا خبر عن هيمنة القرآن، على الكتب السابقة، و تفصيله، و توضيحه: لما كان فيها قد وقع فيه اشتباه و اختلاف عند بني إسرائيل، قصّه هذا القرآن قصا، زال به الإشكال و استبان به الصواب من المسائل المختلف فيها.

و إذا كان بهذه المثابة، من الجلالة و الوضوح، و إزالة كل خلاف، و فصل كل مشكل، كان أعظم نعم اللّه على العباد، و لكن ما كل أحد، يقابل النعمة بالشكر. و لهذا بيّن أن نفعه، و نوره، و هداه، مختص بالمؤمنين فقال:

[77] وَ إِنَّهُ لَهُدىً‏ من الضلالة و الغيّ و الشّبه‏ وَ رَحْمَةٌ تثلج له صدورهم، و تستقيم به أمورهم الدينية و الدنيوية لِلْمُؤْمِنِينَ‏ به المصدقين له، المتلقين له بالقبول، المقبلين على تدبره، المتفكرين في معانيه. فهؤلاء، تحصل‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 728

لهم به، الهداية إلى الصراط المستقيم، و الرحمة المتضمنة للسعادة، و الفوز و الفلاح.

[78] أي: إن اللّه تعالى سيفصل بين المختصمين، و سيحكم بين المختلفين، بحكمه العدل، و قضائه القسط.

فالأمور و إن حصل فيها اشتباه في الدنيا بين المختلفين، لخفاء الدليل، و لبعض المقاصد، فإنه سيبين فيها الحق المطابق للواقع، حين يحكم اللّه فيها. وَ هُوَ الْعَزِيزُ الذي قهر الخلائق، فأذعنوا له. الْعَلِيمُ‏ بجميع الأشياء الْعَلِيمُ‏ بأقوال المختلفين، و عن ما ذا صدت، و عن غاياتها، و مقاصدها، و سيجازي كلا بما علمه فيه.

[79] أي: اعتمد على ربك، في جلب المصالح، و دفع المضار، و في تبليغ الرسالة، و إقامة الدين، و جهاد الأعداء.

إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ‏ الواضح، و الذي على الحقّ، يدعو إليه، و يقوم بنصرته، أحقّ من غيره بالتوكّل، فإنه يسعى إلى أمر مجزوم به، معلوم صدقه، لا شكّ فيه، و لا مرية.

و أيضا، فهو حقّ، في غاية البيان، لا خفاء به، و لا اشتباه.

و إذا قمت بما حملت، و توكلت على اللّه في ذلك، فلا يضرك ضلال من ضل، و ليس عليك هداهم، فلهذا قال:

[80] إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏ وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ أي: حين تدعوهم و تناديهم، و خصوصا إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ‏ فإنه يكون أبلغ في عدم إسماعهم.

[81] وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ‏ كما قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ .

إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ‏ أي: هؤلاء الّذين ينقادون لك، هم الّذين يؤمنون بآيات اللّه، و ينقادون لها بأعمالهم، و استسلامهم كما قال تعالى: * إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى‏ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏ (36).

[82] أي: إذا وقع على الناس، القول الذي حتّمه اللّه، و فرض وقته. أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً خارجة مِنَ الْأَرْضِ‏ أو دابة من دواب الأرض، ليست من السماء. و هذه الدابة تُكَلِّمُهُمْ‏ أي: تكلم العباد أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، أي: لأجل أن الناس، ضعف علمهم و يقينهم بآيات اللّه. فإظهار اللّه هذه الدابة، من آيات اللّه العجيبة، ليبين للناس، ما كانوا فيه يمترون. و هذا الدابة، هي الدابّة المشهورة، الّتي تخرج في آخر الزمان، و تكون من أشراط الساعة، كما تكاثرت بذلك الأحاديث، لم يذكر اللّه و رسوله، كيفية هذه الدابة. و إنّما ذكر أثرها و المقصود منها و أنها من آيات اللّه، تكلم الناس كلاما خارقا للعادة، حين يقع القول على الناس، و حين يمترون بآيات اللّه، فتكون حجة و برهانا للمؤمنين، و حجة على المعاندين.

[83] يخبر تعالى عن حالة المكذبين في موقف القيامة، و أن اللّه يجمعهم، و يحشر من كلّ أمة من الأمم فوجا و طائفة مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ‏ ، يجمع أولهم على آخرهم، و آخرهم على أولهم، ليعمهم السؤال و التوبيخ و اللوم.

[84] حَتَّى إِذا جاؤُ و حضروا، قال لهم، موبخا و مقرعا: أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها العلم، أي: الواجب عليكم التوقف، حتى ينكشف لكم الحقّ، و أن لا تتكلموا إلا بعلم. فكيف كذبتم بأمر لم تحيطوا به علما؟ أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏ ، أي: يسألهم عن علمهم، و عن عملهم، فيجد علمهم، تكذيبا بالحق، و عملهم لغير

تيسير الكريم الرحمن، ص: 729

اللّه، أو غير سنة رسولهم.

[85] وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا ، أي: حقت عليهم كلمة العذاب بسبب ظلمهم، الذي استمروا عليه، و توجهت عليهم الحجة. فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ‏ ، لأنه لا حجة لهم.

[86] أي: ألم يشاهدوا الآية العظيمة، و النعمة الجسيمة، و هو تسخير اللّه لهم الليل و النهار. هذا بظلمته، ليسكنوا فيه و يستريحوا من التعب، و يستعدوا للعمل، و هذا بضيائه، لينتشروا فيه في معاشهم و تصرفاتهم. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏ بكمال وحدانية اللّه و سبوغ نعمته.

[87] يخوف اللّه عباده، ما أمامهم من يوم القيامة، و ما فيه من المحن و الكروب، و مزعجات القلوب، فقال: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ‏ بسبب النفخ فيه‏ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ‏ أي: انزعجوا و ارتاعوا، و ماج بعضهم ببعض، خوفا مما هو مقدمة له. إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ‏ ممن أكرمه اللّه، و ثبته، و حفظه من الفزع، وَ كُلٌ‏ من الخلق عند النفخ في الصور أَتَوْهُ داخِرِينَ‏ صاغرين ذليلين. كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93).

ففي ذلك اليوم، يتساوي الرؤساء و المرءوسون، في الذل و الخضوع، لمالك الملك.

[88] و من هوله أنك‏ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً لا تفقد شيئا منها، و تظنها باقية على الحال المعهودة، و هي قد بلغت منها الشدائد و الأهوال كلّ مبلغ، و قد تفتّتت، ثمّ تضمحل، و تكون هباء منبثا. و لهذا قال: وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ‏ من خفتها، و شدة ذلك الخوف و ذلك‏ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ‏ فيجازيكم بأعمالكم.

[89] ثمّ بين كيفية جزائه فقال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ يعم جنس الحسنات، قولية، أو فعلية، أو قلبية فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها هذا أقل التفضيل. وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ‏ أي: من الأمر الذي فزع الخلق لأجله. آمنون، و إن كانوا يفزعون معهم.

[90] وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ اسم جنس، يشمل كلّ سيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ، أي: ألقوا في النار على وجوههم، و يقال لهم: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏ .

[91] أي: قل لهم يا محمد إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ أي: مكة المكرمة الَّذِي حَرَّمَها و أنعم على أهلها، فيجب أن يقابلوا ذلك بالشكر و القبول. وَ لَهُ كُلُّ شَيْ‏ءٍ من العلويات و السفليات، أتى به، لئلا يتوهم اختصاص ربوبيته بالبيت وحده. وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏ ، أي: أبادر إلى الإسلام. و قد فعل صلّى اللّه عليه و سلّم، فإنه أول هذه الأمة إسلاما، و أعظمها استسلاما.

[92] وَ أمرت أيضا أَنْ أَتْلُوَا عليكم‏ الْقُرْآنَ‏ لتهتدوا به، و تقتدوا و تعلموا ألفاظه و معانيه، فهذا الذي عليّ، و قد أديته. فَمَنِ اهْتَدى‏ فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ‏ نفعه يعود عليه، و ثمرته عائدة إليه‏ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ‏ ، و ليس بيدي من الهداية شي‏ء.

تيسير الكريم الرحمن، ص: 730

[93] وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ‏ الذي له الحمد في الأولى و الآخرة، و من جميع الخلق. خصوصا أهل الاختصاص و الصفوة من عباده، فإن الذي وقع، و الذي ينبغي، أن يقع منهم، من الحمد و الثناء على ربهم، أعظم مما يقع من غيرهم لرفعة درجاتهم، و كمال قربهم منه، و كثرة خيراته عليهم.

سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها معرفة، تدلكم على الحقّ و الباطل. فلا بد أن يريكم من آياته ما تستنيرون به في الظلمات. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ . وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏ بل قد علم ما أنتم عليه من الأعمال و الأحوال، و علم مقدار جزاء تلك الأعمال، و سيحكم بينكم حكما، تحمدونه عليه، و لا يكون لكم حجة بوجه من الوجوه عليه.

تم تفسير سورة النمل بفضل اللّه و إعانته و تيسيره.

و نسأله تعالى أن لا تزال ألطافه و معونته، مستمرة علينا، واصلة منه إلينا، فهو أكرم الأكرمين، و خير الراحمين، و موصل المنقطعين، و مجيب السائلين. ميسر الأمور العسيرة، و فاتح أبواب بركاته، و المجزل في جميع الأوقات هباته. ميسر القرآن للمتذكرين، و مسهل طرقه و أبوابه، للمقبلين، و يمد مائدة خيراته و مبراته للمتفكرين، و الحمد للّه رب العالمين. و صلى اللّه على محمد و آله و صحبه و سلم. على يد جامعه و ممليه، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد اللّه السعدي، غفر اللّه له و لوالديه و لجميع المسلمين، و ذلك في 22 رمضان سنة 1343 ه. و تم تحريره من خط مؤلفه، في 29 ذي الحجة سنة 1346 ه.

تفسير سورة القصص‏

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[1- 4] تِلْكَ‏ الآيات المستحقة للتعظيم و التفخيم‏ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ‏ لكل أمر يحتاج إليه العباد، من معرفة ربهم، و معرفة حقوقه، و معرفة أوليائه و أعدائه، و معرفة وقائعه و أيامه، و معرفة ثواب الأعمال، و جزاء العمال. فهذا القرآن قد بينها غاية التبيين، و جلّاها للعباد، و وضحها. و من جملة ما أبان، قصة موسى و فرعون، فإنه أبداها، و أعادها في عدة مواضع. و بسطها في هذا الموضع فقال: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى‏ وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِ‏ .

فإن نبأهما غريب، و خبرهما عجيب. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏ فإليهم يساق الخطاب، و يوجه الكلام. حيث إن معهم من الإيمان، ما يقبلون به، على تدبر ذلك، و تلقّيه بالقبول و الاهتداء، بمواقع العبر، و يزدادون به إيمانا و يقينا، و خيرا إلى خيرهم. و أما من عداهم، فلا يستفيدون منه، إلا إقامة الحجة عليهم، و صانه اللّه عنهم، و جعل بينهم و بينه حجابا أن يفقهوه. فأول هذه القصة إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ‏ في ملكه و سلطانه، و جنوده، و جبروته، فصار من‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 731

أهل العلو فيها، لا من الأعلين فيها. وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي: طوائف متفرقة، يتصرف فيهم بشهوته، و ينفذ فيها ما أراد من قهره، و سطوته. يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ‏ و تلك الطائفة، هم: بنو إسرائيل، الّذين فضلهم اللّه على العالمين، الذي ينبغي له أن يكرمهم و يجلهم. و لكنه استضعفهم، بحيث إنه رأى أنهم لا منعة لهم تمنعهم مما أراده فيهم. فصار لا يبالي بهم و لا يهتم بشأنهم، و بلغت به الحال، إلى أنه‏ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ‏ خوفا من أن يكثروا، فيغمروه في بلاده، و يصير لهم الملك. إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏ الّذين لا قصد لهم في صلاح الدين، و لا صلاح الدنيا، و هذا من إفساده في الأرض.

[5] وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ‏ بأن نزيل عنهم مواد الاستضعاف، و نهلك من قاومهم، و نخذل من ناوأهم. وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً في الدين، و ذلك لا يحصل مع استضعاف، بل لا بد من تمكين في الأرض، و قدرة تامة. وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ‏ للأرض، الّذين لهم العاقبة في الدنيا قبل الآخرة.

[6] وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ‏ فهذه الأمور كلها، قد تعلقت بها إرادة اللّه، و جرت بها مشيئته. وَ كذلك نريد أن‏ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ‏ وزيره‏ وَ جُنُودَهُما الّذين بهم صالوا و جالوا، و علوا و بغوا مِنْهُمْ‏ أي: من هذه الطائفة المستضعفة. ما كانُوا يَحْذَرُونَ‏ من إخراجهم من ديارهم، و لذلك كانوا يسعون في قمعهم، و كسر شوكتهم، و تقتيل أبنائهم، الّذين هم محل ذلك. فكل هذا قد أراده اللّه، و إذا أراد أمرا، سهّل أسبابه، و نهج طرقه.

و هذا الأمر كذلك، فإنه قدر و أجرى من الأسباب- الّتي لم يشعر بها لا أولياؤه و لا أعداؤه- ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود. فأول ذلك، لما أوجد اللّه رسوله موسى، الذي جعل استنقاذ هذا الشعب الإسرائيلي على يديه و بسببه، و كان في وقت تلك المخافة العظيمة، الّتي يذبحون بها الأبناء.

[7] أوحى إلى أمه، أن ترضعه، و يمكث عندها. فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ‏ بأن أحسست أحدا تخافين عليه منه أن يوصله إليهم. فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ‏ أي: نيل مصر، في وسط تابوت مغلق. وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ‏ . فبشرها بأنه سيرده إليها، و أنه سيكبر و يسلم من كيدهم، و يجعله اللّه رسولا. و هذا من أعظم البشائر الجليلة، و تقديم هذه البشارة لأم موسى، ليطمئن قلبها، و يسكن روعها، فكأنها خافت عليه، و فعلت ما أمرت به، ألقته في أليم، و ساقه اللّه تعالى.

[8- 10] فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ‏ فصار من لقطهم، و هم الّذين باشروا وجدانه. لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً أي: لتكون العاقبة و المآل من هذا الالتقاط، أن يكون عدوا لهم و حزنا يحزنهم، بسبب أن الحذر لا ينفع من القدر، و أن الذي خافوا منه من بني إسرائيل، قيّض اللّه أن يكون زعيمهم، يتربى تحت أيديهم، و على نظرهم، و بكفالتهم. و عند التدبر و التأمل، تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل، و دفع كثير من الأمور الفادحة بهم، و منع كثير من التعديات قبل رسالته بحيث إنه صار من كبار المملكة. و بالطبع لا بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق‏

تيسير الكريم الرحمن، ص: 732

شعبه هذا، و هو هو ذو الهمة العالية و الغيرة المتوقدة. و لهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف- الذي بلغ بهم الذل و الإهانة، إلى ما قص اللّه علينا بعضه- أن صار بعض أفراده، ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في الأرض: كما سيأتي بيانه. و هذا مقدمة للظهور، فإن اللّه تعالى من سنته الجارية، أن جعل الأمور تمشي على التدريج، شيئا فشيئا، و لا تأتي دفعة واحدة. و قوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ‏ أي: مجرمين، فأردنا أن نعاقبهم على إخراجهم، و نكيد لهم، جزاء على مكرهم و كيدهم.

فلما التقطه آل فرعون، حنّن اللّه عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة، المؤمنة «آسية» بنت مزاحم‏ وَ قالَتِ‏ : هذا الولد قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ‏ أي: أبقه لنا، لتقرّ به أعيننا، و نسر به في حياتنا. عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي: لا يخلو، إما أن يكون بمنزلة الخدم، الّذين يسعون في نفعنا و خدمتنا أو نرقيه درجة أعلى من ذلك، نجعله ولدا لنا، و نكرمه، و نجله. فقدّر اللّه تعالى، أنه نفع امرأة فرعون، الّتي قالت تلك المقالة. فإنه لما صار قرة عين لها، و أحبته حبا شديدا، فلم يزل لها بمنزلة الولد الشقيق، حتى كبر، و نبأه اللّه و أرسله، بادرت إلى الإسلام، و الإيمان به، رضي اللّه عنها، و أرضاها. قال اللّه تعالى هذه المراجعات و المقالات، في شأن موسى: وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ‏ ما جرى به القلم، و مضى به القدر، من وصوله إلى ما وصل إليه. و هذا من لطفه تعالى، فإنهم لو شعروا، لكان لهم و له، شأن آخر. و لما فقدت موسى أمه، حزنت حزنا شديدا، و أصبح فؤادها فارغا من القلق، الذي أزعجها، على مقتضى الحالة البشرية، مع أن اللّه تعالى نهاها عن الحزن و الخوف، و وعدها برده. إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ‏ أي: بما في قلبها لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى‏ قَلْبِها فثبتناها، فصبرت، و لم تبد به. لِتَكُونَ‏ بذلك الصبر و الثبات‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏ فإن العبد إذا أصابته مصيبة، فصبر و ثبت، ازداد بذلك إيمانه، و دل ذلك، على أن استمرار الجزع مع العبد، دليل على ضعف إيمانه.

[11- 12] وَ قالَتْ‏ أم موسى: لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ‏ أي: اذهبي فقصي الأثر عن أخيك، و ابحثي عنه، من غير أن يحس بك أحد، أو يشعروا بمقصودك. فذهبت تقصه‏ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ‏ أي: أبصرته على وجه، كأنها مارة لا قصد لها فيه. و هذا من تمام الحزم و الحذر، فإنها لو أبصرته، و جاءت إليهم قاصدة لظنوا بها، أنها هي الّتي ألقته، فربما عزموا على ذبحه، عقوبة لأهله. و من لطف اللّه بموسى و أمه، أن منعه من قبول ثدي امرأة، فأخرجوه إلى السوق، رحمة به، و لعل أحدا يطلبه. فجاءت أخته، و هو بتلك الحال‏ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ‏ . و هذا جلّ غرضهم، فإنهم أحبوه حبا شديدا، و قد منعه اللّه من المراضع فخافوا أن يموت. فلما قالت لهم أخته، تلك المقالة المشتملة على الترغيب، في أهل هذا البيت، بتمام حفظه و كفالته، و النصح له، بادروا إلى إجابتها، فأعلمتهم، و دلتهم على أهل هذا البيت.

[13] فَرَدَدْناهُ إِلى‏ أُمِّهِ‏ كما وعدناها بذلك‏ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ‏ بحيث أنه تربى عندها، على وجه تكون فيه آمنة مطمئنة، تفرح به، و تأخذ الأجرة الكثيرة على ذلك. وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ‏ فأريناها بعض ما

تيسير الكريم الرحمن، ص: 733

وعدناها به عيانا، ليطمئن بذلك قلبها، و يزداد إيمانها، و لتعلم أنه سيحصل وعد اللّه، في حفظه، و رسالته ..

وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏ فإذا رأوا السبب متشوشا، شوش ذلك إيمانهم، لعدم علمهم الكامل، أن اللّه تعالى يجعل المحن و العقبات الشاقة، بين يدي الأمور العالية، و المطالب الفاضلة. فاستمر موسى عليه الصلاة و السّلام عند آل فرعون، يتربى في سلطانهم، و يركب مراكبهم، و يلبس ملابسهم. و أمه بذلك مطمئنة، قد استقر أنها أمه من الرضاع، و لم يستنكر ملازمته إياها، و حنوه عليها. و تأمل هذا اللطف من اللّه، و صيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه، و تيسير الأمر، الذي صار به التعلق، بينه و بينها، الذي بان للناس، أنه هو الرضاع، الذي بسببه يسميها أمّا، فكان الكلام الكثير منه و من غيره في ذلك كله، صدقا و حقا.

[14] وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏ من القوة و العقل و اللب، و ذلك نحو أربعين سنة في الغالب. وَ اسْتَوى‏ فكملت فيه تلك الأمور آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً أي: حكما يعرف به الأحكام الشرعية، و يحكم به بين الناس، و علما كثيرا.

وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏ في عبادة اللّه المحسنين، لخلق اللّه، يعطيهم علما و حكما، بحسب إحسانهم، و دلّ هذا على كمال إحسان موسى عليه السّلام.

[15- 16] وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى‏ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها إما وقت القائلة، أو غير ذلك من الأوقات، الّتي بها يغفلون عن الانتشار. فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ‏ يتخاصمان و يتضاربان‏ هذا مِنْ شِيعَتِهِ‏ أي: من بني إسرائيل‏ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ‏ كالقبط. فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ‏ لأنه قد اشتهر، و علم الناس أنه من بني إسرائيل، و استغاثته لموسى، دليل على أنه بلغ موسى عليه السّلام مبلغا يخاف منه، و يرجى من بيت المملكة و السلطان. فَوَكَزَهُ مُوسى‏ أي: وكز الذي من عدوه، استجابة لاستغاثة الإسرائيلى‏ فَقَضى‏ عَلَيْهِ‏ أي: أماته من تلك الوكزة، لشدتها، و قوة موسى. فندم موسى عليه السّلام على ما جرى منه، و قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ‏ أي:

من تزيينه، و وسوسته‏ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ‏ فلذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة، و حرصه على الإضلال. ثمّ استغفر ربه‏ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏ (16) خصوصا للمخبتين إليه، المبادرين للإنابة و التوبة، كما جرى من موسى عليه السّلام.

[17] قالَ‏ موسى‏ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ‏ بالتوبة و المغفرة، و النعم الكثيرة. فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً أي: معينا و مساعدا لِلْمُجْرِمِينَ‏ أي: لا أعين أحدا على معصية. و هذا وعد من موسى عليه السّلام، بسبب منّة اللّه عليه، أن لا يعين مجرما، كما فعل في قتل القبطي. و هذا يفيد أن النعم، تقتضي من العبد فعل الخير، و ترك الشر.

[18] (ف) لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه أصبح‏ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ‏ هل يشعر به آل فرعون، أم لا؟ و إنّما خاف لأنه قد علم، أنه لا يتجرأ أحد على مثل هذه الحال، سوى موسى، من بني إسرائيل. فبينما هو على تلك الحال‏ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ‏ على عدوّه‏ يَسْتَصْرِخُهُ‏ على قبطي آخر. قالَ لَهُ مُوسى‏ موبخا على حاله‏ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ‏ أي: بين الغواية، ظاهر الجراءة.

صفحه بعد