کتابخانه تفاسیر
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1046
و حقها في النفقة و نحوها. فإذا ضبطت عدتها، علمت حالها على بصيرة، و علم ما يترتب عليها، من الحقوق، و ما لها منها. و هذا الأمر بإحصاء العدة، يتوجه للزوج، و للمرأة، إن كانت مكلفة، و إلا فلوليّها. و قوله: وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ، أي: في جميع أموركم، و خافوه في حق الزوجات المطلقات. لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ مدة العدة، بل تلزم بيتها الذي طلقها زوجها و هي فيه. وَ لا يَخْرُجْنَ ، أي: لا يجوز لهن الخروج منها. أما النهي عن إخراجها، فلأن المسكن، يجب على الزوج للزوجة، لتكمل فيه عدتها الّتي هي حق من حقوقه. و أما النهي عن خروجها، فلما في خروجها، من إضاعة حق الزوج، و عدم صونه. و يستمر هذا النهي عن الخروج من البيوت، و الإخراج إلى تمام العدة. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، أي: بأمر قبيح واضح، موجب لإخراجها، بحيث يدخل على أهل البيت الضرر، من عدم إخراجها، كالأذى بالأقوال، و الأفعال الفاحشة، ففي هذه الحال يجوز لهم إخراجها، لأنها هي الّتي تسببت لإخراج نفسها، و الإسكان فيه جبر لخاطرها، و رفق بها، فهي الّتي أدخلت الضرر عليها، و هذا في المعتدة الرجعية. و أما البائن، فليس لها سكنى واجبة، لأن السكن تبع للنفقة، و النفقة تجب للرجعية دون البائن. وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ، أي: الّتي حدها لعباده و شرعها لهم، و أمرهم بلزومها، و الوقوف معها. وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ بأن لم يقف معها، بل تجاوزها، أو قصر عنها. فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ، أي: بخسها حقها، و أضاع نصيبه من اتباع حدود اللّه الّتي هي الصلاح في الدنيا و الآخرة. لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ، أي: شرع اللّه العدة، و حدد الطلاق بها، لحكم عظيمة. فمنها: أنه لعل اللّه يحدث في قلب المطلق الرحمة و المودة، فيراجع من طلقها، و يستأنف عشرتها، فيتمكن من ذلك «من معرفة» مدة العدة، و لعله يطلقها لسبب منها، فيزول ذلك السبب، في مدة العدة، فيراجعها، لانتفاء سبب الطلاق. و من الحكم: أنها مدة التربص، يعلم براءة رحمها من زوجها.
[2] و قوله: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ ، أي: قاربن انقضاء العدة، لأنهن لو خرجن من العدة، لم يكن الزوج مخيرا بين الإمساك و الفراق. فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ، أي؛ على وجه المعاشرة الحسنة، و الصحبة الجميلة، لا على وجه الضرر، و إرادة الشر و الحبس، فإن إمساكها على هذا الوجه لا يجوز. أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ، أي: فراقا لا محذور فيه، من غير تشاتم و لا تخاصم، و لا قهر لها، على أخذ شيء من مالها. وَ أَشْهِدُوا على طلاقها و رجعتها ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ، أي: رجلين مسلمين عدلين، لأن في الإشهاد المذكور، سدا لباب المخاصمة، و كتمان كلّ منهما، ما يلزم بيانه. وَ أَقِيمُوا أيها الشهداء الشَّهادَةَ لِلَّهِ ، أي: ائتوا بها على وجهها، من غير زيادة و لا نقص. و اقصدوا بإقامتها، وجه اللّه تعالى، و لا تراعوا بها قريبا لقرابته، و لا صاحبا لمحبته. ذلِكُمْ الذي ذكرنا لكم من الأحكام و الحدود يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإن الإيمان باللّه، و اليوم الآخر، يوجب لصاحبه أن يتعظ بمواعظ اللّه، و أن يقدم لآخرته من الأعمال الصالحة، ما يتمكن منها. بخلاف من ترحل الإيمان من قلبه، فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من الشر، و لا يعظم مواعظ اللّه، لعدم الموجب لذلك. و لما كان الطلاق، قد يوقع في
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1047
الضيق و الكرب و الغم، أمر تعالى بتقواه و وعد من اتقاه في الطلاق و غيره بأن يجعل له فرجا و مخرجا. فإذا أراد العبد الطلاق، ففعله على الوجه الشرعي، بأن أوقعه طلقة واحدة، في غير حيض و لا طهر أصابها فيه، فإنه لا يضيق عليه الأمر، بل جعل اللّه له فرجا و سعة، يتمكن بها من الرجوع إلى النكاح، إذا ندم على الطلاق. و الآية، و إن كانت في سياق الطلاق و الرجعة، فإن العبرة بعموم اللفظ، فكل من اتقى اللّه، و لازم مرضاته في جميع أحواله، فإن اللّه يثيبه في الدنيا و الآخرة. و من جملة ثوابه أن يجعل له فرجا و مخرجا من كلّ شدة و مشقة. و كما أن من اتقى اللّه، جعل له فرجا و مخرجا، فمن لم يتق اللّه، يقع في الآصار و الأغلال، الّتي لا يقدرون على التخلص منها، و الخروج من تبعتها. و اعتبر ذلك في الطلاق، فإن العبد إذا لم يتق اللّه فيه، بل أوقعه، على الوجه المحرم، كالثلاث و نحوها، فإنه لا بد أن يندم ندامة، لا يتمكن من استدراكها، و الخروج منها.
[3] و قوله: وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ، أي: يسوق اللّه الرزق للمتقي، من وجه لا يحتسبه، و لا يشعر به. وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في أمر دينه و دنياه، بأن يعتمد على اللّه في جلب ما ينفعه، و دفع ما يضره، و يثق به في تسهيل ذلك فَهُوَ حَسْبُهُ ، أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه فيه. و إذا كان الأمر في كفالة الغني القوي، العزيز الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كلّ شيء. و لكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له، فلهذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ ، أي: لا بد من نفوذ قضائه و قدره. و لكن قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ، أي: وقتا و مقدارا، لا يتعداه، و لا يقصر عنه.
[4] لما ذكر تعالى، أن الطلاق المأمور به، يكون لعدة النساء، ذكر العدة، فقال: وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ بأن كن يحضن، ثمّ ارتفع حيضهن، لكبر أو غيره، و لم يرج رجوعه فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ جعل كلّ شهر، مقابله حيضة. وَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ، أي: الصغار اللائي لم يأتهن الحيض بعد، أو البالغات، اللاتي لم يأتهن حيض بالكلية، فإنهن كالآيسات، عدتهن ثلاثة أشهر. و أما اللائي يحضن، فذكر اللّه عدتهن في قوله:
وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ . و قوله: وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ ، أي: عدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ ، أي: جميع ما في بطونهن، من واحد، و متعدد، و لا عبرة حينئذ بالأشهر و لا غيرها. وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي: من اتقى، يسّر له الأمور، و سهّل عليه كلّ عسير.
[5] ذلِكَ ، أي: الحكم الذي بينه اللّه لكم أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ لتمشوا عليه، و تأتموا به، و تعظموه. وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ، أي: يندفع عنه المحذور، و يحصل له المطلوب.
[6] تقدم أن اللّه نهى عن إخراج المطلقات من البيوت، و هنا أمر بإسكانهن و قدر إسكانهن بالمعروف، و هو البيت الذي يسكنه مثله و مثلها، بحسب وجد الزوج و عسره. وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ ، أي: لا تضاروهن، عند سكناهن بالقول أو الفعل، لأجل أن يمللن، فيخرجن من البيوت، قبل تمام العدة، فتكونوا أنتم المخرجين لهن. و حاصل هذا أنه نهى عن إخراجهن، و نهاهن عن الخروج، و أمر بسكناهن، على وجه لا يحصل به عليهن
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1048
ضرر و لا مشقة، و ذلك راجع إلى العرف. وَ إِنْ كُنَ ، أي: المطلقات أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ و ذلك لأجل الحمل الذي في بطنها، إن كانت بائنا. و لها و لحملها، إن كانت رجعية و منتهى النفقة، إلى وضع الحمل، فإذا وضعن حملهن، فإما أن يرضعن أولادهن، أو لا. فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ المسماة لهن، إن كان مسمى، و إلا فأجر المثل. وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ، أي: و ليأمر كل واحد من الزوجين و غيرهما، الآخر بالمعروف، و هو كلّ ما فيه منفعة و مصلحة في الدنيا و الآخرة، فإن الغفلة عن الائتمار بالمعروف، يحصل فيها من الضرر و الشر، ما لا يعلمه إلا اللّه، و في الائتمار به تعاون على البر و التقوى. و مما يناسب هذا المقام، أن الزوجين عند الفراق وقت العدة، خصوصا إذا ولد بينهما ولد، في الغالب يحصل من التنازع و التشاجر لأجل النفقة عليها و على الولد مع الفراق، الذي لا يحصل في الغالب إلا مقرونا بالبغض، فيتأثر من ذلك شيء كثير. فكل منهما يؤمر بالمعروف، و المعاشرة الحسنة، و عدم المشاقة و المنازعة، و ينصح على ذلك. وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ بأن لم يتفق الزوجان على رضاعها لولدها. فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى غيرها فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ . و هذا حيث كان الولد يقبل ثدي غير أمه، فإن لم يقبل إلا ثدي أمه، تعينت لإرضاعه، و وجب عليها، و أجبرت إن امتنعت، و كان لها أجرة المثل، إن لم يتفقا على مسمى. و هذا مأخوذ من الآية الكريمة من حيث المعنى، فإن الولد، لما كان في بطن أمه مدة الحمل، لا خروج له منه، عينّ تعالى على وليه النفقة. فلما ولد، و كان يتمكن أن يتقوت من أمه، و من غيرها، أباح تعالى الأمرين، فإذا كان بحالة، لا يمكن أن يتقوت إلا من أمه، كان بمنزلة الحمل، و تعينت أمه طريقا لقوته. ثمّ قدر تعالى النفقة، بحسب حال الزوج، فقال:
[7] لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، أي: لينفق الغني من غناه، فلا ينفق نفقة الفقراء. وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ، أي: ضيق عليه فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ من الرزق. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها و هذا مناسب للحكمة و الرحمة الإلهية حيث جعل كلا بحسبه، و خفف عن المعسر، و أنه لا يكلفه إلا ما آتاه، فلا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها، في باب النفقة و غيرها. سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ، و هذه بشارة للمعسرين، أن اللّه تعالى سيزيل عنهم الشدة، و يرفع عنهم المشقة، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5).
[8] يخبر تعالى عن إهلاكه الأمم العاتية، و القرون المكذبة للرسل، و أن كثرتهم و قوتهم، لم تغن عنهم شيئا، حين جاءهم الحساب الشديد، و العذاب الأليم، و أن اللّه أذاقهم من العذاب ما هو موجب أعمالهم السيئة. و مع عذاب الدنيا، فإن اللّه أعد لهم في الآخرة عذابا شديدا.
[10] فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ ، أي: يا ذوي العقول، الّتي تفهم عن اللّه آياته و عبره، و أن الذي أهلك القرون الماضية بتكذيبهم، أن من بعدهم مثلهم، لا فرق بين الطائفتين. ثمّ ذكر عباده المؤمنين، بما أنزل عليهم من كتابه، الذي أنزله على رسوله محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، ليخرج الخلق من ظلمات الجهل و الكفر و المعصية، إلى نور العلم و الإيمان و الطاعة. فمن الناس من آمن به، و منهم من لم يؤمن به.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1049
وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً من الواجبات و المستحبات.
[11] وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فيها من النعيم المقيم، ما لا عين رأيت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر. خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً ، أي:
و من لم يؤمن باللّه و رسوله، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
[12] ثمّ أخبر تعالى أنه خلق السماوات و الأرض، و من فيهن، و الأرضين السبع و من فيهن، و ما بينهن، و أنزل الأمر و هو: الشرائع و الأحكام الدينية، الّتي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد و وعظهم، و كذلك الأوامر الكونية و القدرية، الّتي يدبر بها الخلق، كل ذلك لأجل أن يعرفه العباد و يعلموا إحاطة قدرته بالأشياء كلها، و إحاطة علمه بجميع الأشياء. فإذا عرفوه بأسمائه الحسنى و أوصافه المقدسة، عبدوه، و أحبوه، و قاموا بحقه، فهذه هي الغاية المقصودة من الخلق و الأمر: معرفة اللّه و عبادته. فقام بذلك الموفقون من عباد اللّه الصالحين، و أعرض عن ذلك، الظالمون المعرضون. تم تفسير سورة الطلاق- و الحمد للّه.
تفسير سورة التحريم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] هذا عتاب من اللّه لنبيه محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، حين حرم على نفسه سريته «مارية» أو شرب العسل، مراعاة لخاطر بعض زوجاته، في قصة معروفة. فأنزل اللّه هذه الآيات يا أَيُّهَا النَّبِيُ ، أي: يا أيها الذي أنعم اللّه عليه بالنبوة و الرسالة و الوحي لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ من الطيبات الّتي أنعم اللّه بها عليك و على أمتك. تَبْتَغِي بذلك التحريم مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . هذا تصريح بأن اللّه قد غفر لرسوله، و رفع عنه اللوم، و رحمه، و صار ذلك التحريم الصادر منه سببا لشرع حكم عام لجميع الأمة، فقال تعالى:
[2] قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ ، و هذا عام في جميع أيمان المؤمنين، أي: قد شرع لكم، و قدر ما به تنحل أيمانكم قبل الحنث، و ما به تتكفر بعد الحنث. و ذلك كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) إلى أن قال:
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ . فكل من حرم حلالا عليه، من طعام أو شراب، أو سرية، أو حلف يمينا باللّه، على فعل أو ترك، ثمّ حنث، و أراد الحنث، فعليه هذه الكفارة المذكورة. و قوله: وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ، أي: متولي أموركم، و مربيكم أحسن تربية، في أمر دينكم و دنياكم، و ما به يندفع عنكم الشر، فلذلك فرض لكم تحلة أيمانكم، لتبرأ ذممكم. وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الذي أحاط علمه بظواهركم و بواطنكم، و هو الحكيم في جميع ما خلقه و حكم به.
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1050
فلذلك شرع لكم من الأحكام، ما يعلم أنه موافق لمصالحكم، و مناسب لأحوالكم.
[3] و قوله: وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قال كثير من المفسرين: هي حفصة، أم المؤمنين رضي اللّه عنها، أسرّ لها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حديثا، و أمر أن لا تخبر به أحدا، فحدثت به عائشة رضي اللّه عنهما. و أخبره اللّه بذلك الخبر، الذي أذاعته، فعرّفها صلّى اللّه عليه و سلّم، ببعض ما قالت، و أعرض عن بعضه، كرما منه صلّى اللّه عليه و سلّم، و حلما. قالَتْ له: مَنْ أَنْبَأَكَ هذا الخبر الذي لم يخرج منا؟ قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الذي لا تخفى عليه خافية، يعلم السر و أخفى.
[4] و قوله: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما الخطاب للزوجتين الكريمتين حفصة و عائشة رضي اللّه عنهما، كانتا سببا لتحريم النبي صلّى اللّه عليه و سلّم على نفسه ما يحبه. فعرض اللّه عليهما التوبة، و عاتبهما على ذلك، و أخبرهما أن قلوبكما قد صغت، أي: مالت و انحرفت عما ينبغي لهن، من الورع و الأدب، مع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و احترامه، و أن لا يشققن عليه. وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ ، أي: تعاونا على ما يشق عليه، و يستمر هذا الأمر منكن. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ، أي: الجميع أعوان للرسول، مظاهرون له، و من كان هؤلاء أنصاره، فهو المنصور، و غيره إن يناوئه فهو مخذول. و في هذا أكبر فضيلة و شرف لسيد المرسلين، حيث جعل الباري نفسه الكريمة، و خواص خلقه، أعوانا لهذا الرسول الكريم. و فيه من التحذير للزوجتين الكريمتين ما لا يخفى.
[5] ثمّ خوفهما أيضا، بحالة تشق على النساء غاية المشقة، و هو الطلاق، الذي هو أكبر شيء عليهن، فقال:
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ ، أي: فلا تترفعن عليه، فإنه لو طلقكن، لا يضيق عليه الأمر، و لم يكن مضطرا إليكن، فإنه سيجد، و يبدله اللّه أزواجا خيرا منكن، دينا و جمالا، و هذا من باب التعليق الذي لم يوجد، و لا يلزم وجوده. فإنه ما طلقهن، و لو طلقهن، لكان ما ذكره اللّه من هذه الأزواج الفاضلات. مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ جامعات بين الإسلام، و هو القيام بالشرائع الظاهرة، و الإيمان، و هو: القيام بالشرائع الباطنة، من العقائد و أعمال القلوب. قانِتاتٍ و القنوت هو: دوام الطاعة و استمرارها، تائِباتٍ عما يكرهه اللّه، فوصفهن بالقيام بما يحبه اللّه، و التوبة عما يكرهه اللّه. ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً ، أي: بعضهن ثيب، و بعضهن أبكار، ليتنوع صلّى اللّه عليه و سلّم فيما يحب. فلما سمعن- رضي اللّه عنهن- هذا التخويف و التأديب، بادرن إلى رضا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فكان هذا الوصف منطبقا عليهن، فصرن أفضل نساء المؤمنين.
[6] أي: يا من منّ اللّه عليهم بالإيمان، قوموا بلوازمه و شروطه. ف قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً موصوفة بهذه الأوصاف الفظيعة، و وقاية الأنفس بإلزامها أمر اللّه، امتثالا، و نهيه اجتنابا، و التوبة عما يسخط اللّه، و يوجب العذاب. و وقاية الأهل و الأولاد، بتأديبهم و تعليمهم، و إجبارهم على أمر اللّه. فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر اللّه به في نفسه، و فيمن تحت ولايته و تصرفه. و وصف اللّه النار بهذه الأوصاف، ليزجر عباده عن التهاون بأمره، فقال:
وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ ، كما قال تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1051
وارِدُونَ (98). عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ ، أي: غليظة أخلاقهم، شديد انتصارهم يفزعون بأصواتهم و يزعجون بمرآهم، و يهينون أصحاب النار بقوتهم، و ينفذون فيهم أمر اللّه، الذي حتّم عليهم بالعذاب، و أوجب عليهم شدة العقاب. لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ و هذا فيه أيضا مدح للملائكة الكرام، و انقيادهم لأمر اللّه، و طاعتهم له في كلّ ما أمرهم به.
[7] أي: يوبخ أهل النار يوم القيامة بهذا التوبيخ، فيقال لهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ، أي: فإنه ذهب وقت الاعتذار، و زال نفعه، فلم يبق الآن إلا الجزاء على الأعمال. و أنتم لم تقدموا إلا الكفر باللّه، و التكذيب بآياته و محاربة رسله و أوليائه.
[8] قد أمر اللّه بالتوبة النصوح في هذه الآية، و وعد عليها بتكفير السيئات، و دخول الجنات، و الفوز و الفلاح، حين يسعى المؤمنون يوم القيامة، بنور إيمانهم، و يمشون بضيائه، و يتمتعون بروحه و راحته، و يشفقون إذا طفئت الأنوار، الّتي تعطى المنافقين، و يسألون اللّه، أن يتم لهم نورهم فيستجيب اللّه دعوتهم، و يوصلهم بما معهم من النور و اليقين، إلى جنات النعيم، و جوار الرب الكريم، و كلّ هذا، من آثار التوبة النصوح. و المراد بها: التوبة العامة الشاملة لجميع الذنوب، الّتي عقدها العبد للّه، لا يريد بها إلا وجه اللّه، و القرب منه، و يستمر عليها في جميع أحواله.
[9] يأمر اللّه تعالى نبيه صلّى اللّه عليه و سلّم بجهاد الكفار و المنافقين، و الإغلاظ عليهم في ذلك، و هذا شامل لجهادهم بإقامة الحجة عليهم، و دعوتهم بالموعظة الحسنة، و إبطال ما هم عليه من أنواع الضلال، و جهادهم بالسلاح و القتال، لمن أبى أن يجيب دعوة اللّه، و ينقاد لحكمه، فإن هذا، يجاهد و يغلظ عليه. و أما المرتبة الأولى، فتكون بالتي هي أحسن.
فالكفار و المنافقون، لهم عذاب في الدنيا، بتسليط اللّه لرسوله، و حزبه عليهم، و على جهادهم، و عذاب النار في الآخرة و بئس المصير، الذي يصير إليه كلّ شقي خاسر.
[10] هذان المثلان، اللذان ضربهما اللّه للمؤمنين و الكافرين، ليبين لهم أن اتصال الكافر بالمؤمن، و قربه منه، لا يفيده شيئا، و أن اتصال المؤمن بالكافر، لا يضره شيئا، مع قيامه بالواجب عليه. فكأن في ذلك، إشارة و تحذيرا لزوجات النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، عن المعصية، و أن اتصالهن به صلّى اللّه عليه و سلّم لا ينفعهن شيئا مع الإساءة، فقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا ، أي: المرأتان تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ و هما نوح، و لوط، عليهما السّلام. فَخانَتاهُما في الدين، بأن كانتا على غير دين زوجيهما، و هذا هو المراد بالخيانة، لا خيانة النسب و الفراش، فإنه ما بغت امرأة نبي قط، و ما كان اللّه، ليجعل امرأة أحد من أنبيائه بغيا. فَلَمْ يُغْنِيا ، أي: نوح و لوط عَنْهُما ، أي: عن امرأتيهما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ .
[11] وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ و هي آسية بنت مزاحم رضي اللّه عنها، إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . فوصفها اللّه بالإيمان و التضرع لربها، و؟؟؟ أجل المطالب، و هو دخول
تيسير الكريم الرحمن، ص: 1052
الجنة، و مجاورة الرب الكريم، و سؤالها أن ينجيها من فتنة فرعون و أعماله الخبيثة، و من فتنه كل ظالم. فاستجاب اللّه لها، فعاشت في إيمان كامل، و ثبات تام، و نجاة من الفتن، و لهذا قال النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «كمل من الرجال كثير، و لم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، و آسية بنت مزاحم، و خديجة بنت خويلد، و فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام».
[12] و قوله: وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها ، أي: حفظته و صانته عن الفاحشة، لكمال ديانتها، و عفتها، و نزاهتها. فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا ، بأن نفخ جبريل عليه السّلام في جيب درعها، فوصلت نفخته إلى مريم، فجاء منها عيسى عليه السّلام، الرسول الكريم و السيد العظيم.
وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ ، و هذا وصف لها بالعلم و المعرفة، فإن التصديق بكلمات اللّه، يشمل كلماته الدينية و القدرية. و التصديق بكتبه، يقتضي معرفة ما به يحصل التصديق، و لا يكون ذلك إلا بالعلم و العمل، و لهذا قال:
وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ ، أي: المداومين على طاعة اللّه، بخشية و خشوع. و هذا وصف لها بكمال العمل، فإنها- رضي اللّه عنها- صديقة، و الصديقية هي: كمال العلم و العمل. تم تفسير سورة التحريم- بعون اللّه و تيسيره.
تفسير سورة الملك
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[1] تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ، أي: تعاظم و تعالى، و كثر خيره، و عم إحسانه. من عظمته أن بيده ملك العالم العلوي و السفلي، فهو الذي خلقه، و يتصرف فيه بما شاء، من الأحكام القدرية، و الأحكام الدينية، التابعة لحكمته. وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، أي: و من عظمته، كمال قدرته، الّتي يقدر بها على كلّ شيء، و بها أوجد ما أوجد من المخلوقات العظيمة، كالسموات و الأرض.
[2] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ أي: قدر لعباده أن يحييهم ثمّ يميتهم. لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ، أي: أخلصه و أصوبه، و ذلك أن اللّه خلق عباده، و أخرجهم لهذه الدار، و أخبرهم أنهم سينتقلون منها، و أمرهم و نهاهم، و ابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره، فمن انقاد لأمر اللّه، أحسن اللّه له الجزاء في الدارين، و من مال مع شهوات النفس، و نبذ أمر اللّه، فله شر الجزاء. وَ هُوَ الْعَزِيزُ الذي له العزة كلها، الّتي قهر بها جميع الأشياء، و انقادت له المخلوقات. الْغَفُورُ عن المسيئين، و المقصرين، و المذنبين، خصوصا إذا تابوا و أنابوا. فإنه يغفر ذنوبهم، و لو بلغت عنان السماء، و يستر عيوبهم، و لو كانت ملء الدنيا.